يُمضي المعلِّم في المدرسة الخاصة 25 عاماً وما فوق، أو يصل إلى سن الرابعة والستين، أي السن التي يحق له فيها أن يرتاح، وهو مطمئن إلى أنّه سدَّد على مدى سنوات خدمته ما يتوجَّب عليه من مبالغ شهرية مخصَّصة لتغطية كلفة تعويضه كي يؤمن على ما تبقّى من حياته.
هذا في المبدأ، أما على أرض الواقع، فالأمور تسير بمنطق مختلف. وسلامة وضع «صندوق تعويضات أفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة» لجهة ملاءته المالية التي تلامس 900 مليار ليرة لا تنسحب على سلامة التعويضات. ما يحصل هو الآتي: يتوجَّه المعلم إلى مركز الصندوق حيث يتقدَّم بطلبِ منحه تعويض نهاية خدمته أو تقاعده. ينتظر أشهراً غير قليلة لقبض مستحقاته لكون المكننة غير مفعّلة في الصندوق. لا يتأخر حتى يعرف أن مدرسته قد تكون من المدارس التي لم تقم بواجبها ولم تسدد عنه اشتراكاته للصندوق (6% تقتطع من راتبه الشهري و6% مساهمة المدرسة في الصندوق). تقع الواقعة عندما يعلم أن هناك متأخرات على المدرسة للصندوق تعود إلى سنوات وتصل إلى مليارات الليرات.
فرغم الإنذارات التي يرسلها مجلس إدارة الصندوق للمدارس وتسهيلات الدفع كالتقسيط وما شابه، تبلغ السندات المستحقة على جمعية المقاصد، مثلاً، نحو تسعة مليارات ليرة، وعلى جمعية المبرات نحو 5 مليارات ليرة، ومؤسسات أمل التربوية أكثر من ملياري ليرة، ومؤسسة العرفان 1,6 مليار ليرة لبنانية. ووافق مجلس إدارة الصندوق، أخيراً، على طلبات عشرات المدارس (كاثوليكية وإسلامية وعلمانية) تأجيل دفع مستحقاتها عن العام الدراسي الماضي بذريعة «الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد وخصوصاً المؤسسات التربوية التي تزداد أعباؤها المالية». وقد استمهل الصندوق المدارس حتى 31/12/2017، من دون غرامات.
المفارقة أن محاسبة المتأخرين عن الدفع لم تتم يوماً، علماً بأن البند 6 من المادة 21 من قانون تنظيم أفراد الهيئة التعليمية يتيح لمجلس إدارة الصندوق إرسال تنبيه خطي بوجوب الدفع خلال مهلة أقصاها شهرين. وعند انقضاء المهلة لمجلس الإدارة أن يفرض غرامة تأخير بنسبة 2% عن كل شهر تأخير. وفي حال تكررت المخالفة يحق لمجلس الإدارة أن يرفع إلى وزير التربية لائحة بأسماء المدارس المخالفة طالباً منه اعتماد الإجراءات المناسبة. وإذا ارتأى وزير التربية وجوب إقفال المدرسة لمدة معينة أو نهائياً يرفع ذلك إلى مجلس الوزراء. وفي حال صدور مرسوم الإقفال الدائم، على المدرسة أن تتحمل كامل التعويضات المستحقة للمعلمين. لكن، على مر تاريخ الصندوق، بقيت المدارس محمية ولم يتدخل أي وزير تربية لإقفالها على خلفية التأخير في دفع المستحقات.
تأخر المؤسسة التربوية في تسديد اشتراكاتها يعرّض المعلم للمشاكل عند قبض تعويضاته المحسومة اصلاً من راتبه الشهري ما قد يضطره للقبول بانتقاص حقوقه والدخول في تسويات على ما هو له أصلاً. وبما أنّ المؤسسة التربوية لا تبغي الربح وموازنتها تغلق سنوياً من دون إدراج ارباح أو فائض تراكمي، فهذا يعني عدم توفر مال لتسديد متأخرات لأكثر من سنة (بينما متأخرات الصندوق تتجاوز السنة الواحدة). بعبارة أخرى، ستزداد الأقساط لتسديد الدين المتراكم على المدرسة للصندوق. ومن جهة ثانية، فإن اشتراكات الصندوق هي جزء من الراتب تسدده المؤسسة نيابة عن المعلم، وحسمها من الراتب من دون تسديدها للصندوق يعتبر إخلالاً بالأمانة ويجب محاسبة المخل بها.
ووفق مصادر نقابية «قد تدخل المدرسة والصندوق في آلية تسوية بوساطة رسمية للوصول إلى حلّ للمتأخرات. ولكن أي طرح غير دفع كامل المستحقات هو انتقاص لحقوق المعلمين في تعويضاتهم وأموالهم التي وضعوها في الصندوق».

تواطؤ موظفين مع الإدارات

المصادر النقابية نفسها تلفت إلى أن أعمال الصندوق لا تحتاج إلى أكثر من نصف موظفيه البالغ عددهم نحو 40. وتعزو هذا «التضخم» إلى زرع «بلوكات» المدارس موظفين في الصندوق لمساعدتها في إعداد موازناتها وبياناتها، لا سيما لجهة تسجيل معلمين وهميين والتلاعب باللوائح الاسمية والرواتب الحقيقية. وتلفت المصادر، في هذا السياق، إلى رفض الموظفين تزويد المعلمين بإفادات رسمية برواتبهم التي يستحقونها وفق أوضاعهم الوظيفية وسنوات خدمتهم، أو إعطاءهم أجوبة شفهية لا يستطيعون أن يجابهوا بها مدارسهم التي قد تحدد لهم رواتب أقل بكثير مما يستحقون.

لا يحتاج الصندوق إلى أكثر من نصف عدد موظفيه الحاليين



ووسط هذا التكتم أو التواطؤ مع أصحاب المدارس، تسأل المصادر، عن الحق في الوصول الى اللوائح الإسمية للمعلمين التي تقدمها المدارس إلى وزارة التربية ضمن موازناتها وايجاد آلية لتطابقها مع اللوائح الإسمية للمعلمين في ملاك كل مدرسة. وهذا الأمر يتطلب «كبسة زر» في حال اعتماد المكننة الكاملة لملفات الصندوق. أما في الواقع، فلا تزال اللوائح الإسمية للمعلمين المسجلين في الصندوق تُعبأ يدوياً ويصادق عليها مجلس إدارة الصندوق من دون التأكد من تطابقها مع لوائح المعلمين في كل مدرسة.

حق الوصول إلى المعلومات

وفي تحقيق سابق أجرته «الأخبار» (أرقام الضمان تكشف تزوير موازنة المدرسة الأنطونية/ 13 تشرين الثاني الماضي) تبيّن عدم تطابق أعداد المعلمين في الملاك بحسب جداول الموازنة المدرسية مع العدد المصرح به للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بفارق 20%، بهدف رفع الرواتب المتوجبة على المدرسة والتي تحدد الأقساط على أساسها. وهذا قد يبرر الشكوك في ما خصّ صندوق التعويضات. فإذا اعتبرنا أن هناك تطابقاً بين لوائح الضمان وصندوق التعويضات (وليس اللوائح الإسمية المقدمة في الموازنة المدرسية) سيكون هناك ايضاً فارق بنسبة 20% إضافية يتضمنها القسط السنوي على الأهل من قيمة رسوم صندوق التعويضات.
المكننة الكاملة في هذه الحال تحدّ من احتمال الخطأ او التلاعب بالأسماء، وتلزم المدارس غير الملتزمة بالقانون بتطبيقه. كما أنّ تطبيق قانون حق الوصول الى المعلومات يفرض نشر البيانات على المواقع الإلكترونية، علماً بأن العديد من الهيئات الرسمية وادارات المصالح والمؤسسات ذات المنفعة العامة، ومنها صندوق التعويضات، تعرقل المكننة وتمتنع عن نشر محاضرها وبياناتها مخافة فضح خفاياها.

ابتزاز موظفين للمتقاعدين

حصول المعلم على تعويضه لا يخلو أيضاً من الابتزاز. يقرر أحدهم أن يروي لنا تجربته التي تتقاطع مع تجارب كثيرين فيقول: «تتوجه إلى مركز الصندوق. تتقدَّم بطلب الحصول على تعويضك، وتغادر. في المساء، يتَّصل بك موظَّف رفيع في الصندوق، ويضرب لك موعداً لمناقشة ملفِّك في منزله، أو الفيلا الفخمة التي يسكنها. يفاوضكَ على عرق جبينك بحجة أنّ ملفك غير مكتمل ووضعك دقيق وقد لا يحقُّ لك بأي تعويض. يتركك في صدمة لا قيام لك منها، قبل أن يرمي لك ما يوحي إليك بأنه حبل نجاتك الوحيد. يقول: منزبّطلك ياها!
بصيص أمل يلمع في رأسك. يرمقك بنظرة ويقول: أريد نسبة كذا من تعويضك، أو لن تقبض شيئاً. وضعك القانوني غير مريح. أنا أؤمِّن لك المستندات، وكلّ شيء «بحسابو».
ما يؤلمك هو أنَّك تعلم يقيناً أنَّ وضعك سليم. لم تخرق القانون يوماً، ولو كان ظالماً. تسايره. تدَّعي الموافقة بانتظار تطوُّر الأمور. تفكِّر في اللجوء إلى القضاء. لكن مهلاً الرجل يُجيد اللعبة. ليست ضربته الأولى. تكتشف بالصدفة أنَّ زميلة لك أكلت الضرب في وقت سابق، ودفعَتْ. تستشير عدداً من المعلمين المطَّلعين على شؤون الصندوق، وبضعة محامين، فيؤكِّدون جميعاً، بعد دراسة مستنداتك، أنَّ تعويضك يحقُّ لك كاملاً، من دون أي دعم أو وساطة. لكنَّ البعض يقولون: لا تُغضب الرجل، فهو خبير دهاليز الصندوق، باستطاعته حتى إخفاء ملفِّك من أساسه، أو أقلّه، التلاعب بمحتوياته.
تبدأ لعبة الأعصاب. تنقصنا وثيقة مهمة، يقول لك عبر الهاتف. تُجيبه بأنْ لا بأس، تستطيع أن تحصل عليها بشكل قانوني. ينفعل: لا لا، ضع كلَّ بيضكَ في سلَّتي. وتتوالى اتصالاته؛ أمل يليه يأس، ثم أمل، ثم يأس، وصولاً إلى المرحلة الثانية من الخطَّة. يطلب إليك لقاءه في أحد المطاعم لمناقشة بعض الأمور. في المطعم، يَطلع عليك بعرض جديد: ثلث التعويض لي، أو لا شيء لك. ولا تحاولْ أن تلعب معي!
ثمَّ يضع خطَّةَ التسليم: فرع المصرف المعتمد من قبلنا في مبنى الصندوق نفسه. تستلم الشيك وتنزل إلى المصرف، تقبض، تضع المبلغ المتَّفق عليه في كيس. أكون بانتظارك في الخارج. تسلِّمني حصَّتي، والله معك.
تصطنع الرضوخ. يتصل بك بعد يومين: الشيك جاهز. تعالَ في الغد. تصل إلى مكتب الصندوق، توقِّع المستندات المطلوبة، إبراء ذمَّة وغيره، تستلم الشيك، وتغادر. لا تعطِيهِ حصَّته، على أمل أن تنتهي القصَّة هنا. لكنَّه وقح. يزورك في منزلك. يطالب بحقِّه. يدَّعي أنَّك خربت بيته، فزملاؤه في الصندوق سيعتقدون أنَّه قبض منك ويحاول الاحتيال عليهم. وعزَّةُ نفسه، طبعاً، لا ترضى بذلك. وأنت تسجِّل الجلسة بالكامل». هل يمكن لهذه الرواية أن تكون إخباراً؟




صندوق التعويضات

أنشئ صندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة بقانون 27 آذار 1951 وهو يتمتَّع بالشخصية المدنية والاستقلال المالي والإداري، وكل خلاف ينشأ بينه وبين أصحاب العلاقة تفصل فيه المحاكم العادية. أي أنه في ذلك بمثابة محكمة ابتدائية، إذ يمكن الطعن بقراراته أمام محكمة الاستئناف خلال ثلاثين يوماً من تاريخ إبلاغها. يُدفع من هذا الصندوق تعويضات الصرف من الخدمة المنصوص عليها في المادة 36 من قانون 15/6/1956 (قانون تنظيم أفراد الهيئة التعليمية في مدارس الخاصة). يُغذّى الصندوق من المحسومات المقتطعة وفقاً لأحكام المادة 21 من القانون. ويتولَّى إدارة الصندوق مدير يعاونه محاسب والعدد اللازم من الموظفين. ويشرف عليه مجلس يُعيَّن بمرسوم يُتَّخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير التربية لمدة ثلاث سنوات ويتألف من كل من:
ـــ مدير عام التربية (رئيساً).
ـــ ممثل عن وزارة العدل (عضواً).
ـــ أربعة ممثلين عن أصحاب المدارس الخاصة أعضاء (يختارهم أصحاب الإجازات العشر الأكثر مساهمة في تغذية الصندوق خلال السنوات الثلاث التي تسبق التعيين).
ــــ أربعة ممثلين عن أفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة أعضاء يختارهم مجلس النقابة أعضاء.





تنظيم صندوق التقاعد

في 29/7/2002، بات بإمكان المعلمين الداخلين في الملاك فرصة الاختيار بين تعويض الصرف من الخدمة وبين راتب التقاعد وفق أحكام القانون 446. يستفيد من هذا الراتب من أتم الخامسة والخمسين من العمر وبلغت خدماته 30 سنة على الأقل من دون انقطاع. تتكون إيرادات صندوق التقاعد من مجموع تعويضات الصرف من الخدمة المستحقة للمعلمين الذين يختارون الراتب التقاعدي ومن عائدات توظيف هذه الأموال ومن المساعدات والهبات.
وفيما يشترط القانون على مجلس إدارة صندوق التعويضات الذي يتولى إدارة صندوق التقاعد أيضاً اتخاذ جميع القرارات الآيلة إلى ضمان التوازن بين الإيرادات والنفقات، فإنّ إدارة صندوق التقاعد تطلب كل سنة موازنتها من صندوق التعويضات بحسب عدد الذين اختاروا التقاعد لهذه السنة من دون معرفة الاستقرار المالي المستقبلي للصندوق. هذا الواقع دفع مدققين خارجيين إلى التوصية بضرورة اجراء دراسة اكتوارية لصندوق التقاعد، في ضوء تطور عدد المتقاعدين الذين يختارون التقاعد وهو يزيد باضطراد، وقد بلغ عددهم منذ 2002 وحتى اليوم نحو 1600 معلم. وينتظر أن يبنى في ضوء نتائج الدراسة قرارات من شأنها ضمان التوازن بين الإيرادات والنفقات.





الضمان بعد الـ 64

ينتظر أن يدرج مشروع إفادة المعلمين المضمونين المتقاعدين من تقديمات الضمان الصحي بعد سن الـ 64 على أول جلسة لمجلس الوزراء. وقد أبلغ بالأمر رئيس مجلس إدارة صندوق التعاضد مجيد العيلي الذي قال لـ «الأخبار» إن «المشروع بات في خواتيمه وموعودون بأن يبصر النور أخيراً بعد سنتين ونصف سنة من الجهد المتواصل».

* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]