يستحضر علي خليفة الفكر التربوي للمطران غريغوار حداد ضمن سياقات شخصيته وعمله وفكره الديني والفلسفي والتزامه الاجتماعي والإنساني. يعيد أستاذ المواطنية في الجامعة اللبنانية تقديم المطران، في هذه الظروف بالذات حيث يتصاعد الحديث عن التباسات اللغة والفهم النصّي للدين (وهنا مشكلة الإسلام اليوم أكثر من كونها مشكلة المسيحية)، ويعود الجدل حول التعليم الديني في المدارس ومدى تضمين التربية بعداً عقائدياً، وتجري إضافة شكلية لمشروع خدمة المجتمع إلى المنظومة التربوية، فيما تشكل مدارس اليوم بيئات منعزلة تتنامى بواسطتها فضاءات طائفية متخيلة لدى التلامذة.
في كتابه «المطران...والشيطان»، يحلل خليفة مقابلة غير منشورة مع المطران ليجيب على الأسئلة الآتية: لماذا رفض غريغوار حداد التعليم الديني في المدارس وأقصى رجال الدين عن مشروعه للتربية؟ وكيف كان ينظر إلى علاقة الثقافة بالدين كعامل اجتماعي؟ وإلى العلمانيّة الشاملة كمنظومة ذات حيادٍ إيجابي تجاه الأديان؟

تحرير اللغة من التباساتها

يتوقف الكاتب عند التجديد التي أدخله المطران إلى التعليم من باب اللغة العربية في سبيل تحاشي التباساتها وإعادة صوغ قواعدها. يقول إنّ غريغوار حدّاد صحّح استخداماتٍ متعارف عليها لبعض المصطلحات واقترح بدائل أكثر ملاءمةً مع قواعد التصريف والاشتقاق في العربية. ففي تعريفه لـ «العَلمانية» (بفتح العين كما يصرّ دائماً!) يقول إنها استقلالية العالم (المجتمع والإنسان والفكر) عن المذاهب الدينية أو اللادينية والفلسفات على أنواعها، دون رفضها أو محاربتها. بينما تضيف «العَلمنيّة» الرفض والمحاربة. وأمّا كلمة « العلمنة « فهي السعي نحو العلمانيّة أو العلمنيّة.
اقترح المطران استبدال «القاسم المشترك» بـ «الجامع المشترك»، فالقاسم هو نقيض الجمع، فلا يصح البحث عن المشترك بعد قسمة الشيء. كذلك استحدت تعبير «اللاأدريين» (agnostic) وميّزه عن الكافرين أو الملحدين وابتدع «الألينة» كتعريب اشتقاقي لكلمة « alienation» أو العزلة وجمعها في صيغة الألينات واستخدمها في كتاباته ومقالاته.

تشكل مدارس
اليوم بيئات منعزلة تتنامى بواسطتها فضاءات طائفية


تعليم الثقافة الدينية

تصدى المطران للتعليم الديني العقائدي في المدارس «لأنه ينتج متعصّبين ومجتمعاً منقسماً على ذاته». وهنا يقول: «التعليم الديني له وجهان: الوجه الأول، هو أن يكون ثقافة دينية موجودة في كتاب واحد وترتكز على مفاهيم مشتركة يقبل بها الجميع ومبادئ دينية عامة في الأخلاق والروحانيات، وهذا ما أدعوه تعليماً دينياً إيجابياً؛ وأما الوجه الثاني، فهو التربية على العقائد، فيمكن أن تتولاها العائلة بشرط البعد عن التعصب».
من يقوم بالتعليم الديني؟ يجيب: «أثق فقط بمعلَمين علمانيَين يتمَ تدريبهم للقيام بهذه المهمَة بانفتاح وموضوعية وبعيداً عن التعصَب».
قارب المطران العلمانية كمشروع تربوي قائلاً: «العلمانية لا يمكن أن تبدأ من الدولة، لأن الموجودين في الدولة هم نتاج النظام الطائفي فإن بادروا إلى إلغائه يلغون أنفسهم. العلمانية تبدأ مع الشباب الجامعيين المتحررين من الارتباطات والتأثير والقادرين على التفكير غير المشوّش».

خدمة المجتمع في المدارس

لم ينظر المطران إلى مشروع خدمة المجتمع كمكوّن مضاف إضافةً شكليةً إلى العملية التربوية، بل إن الإنسان هو القضية في اي مشروع اجتماعي ينجزه الطالب. وكممارسة عمليّة فعليّة، اعتبر أن «العلمانية الشاملة هي عنصر أساسي من عناصر إقامة مجتمع المواطنيّة في لبنان وقيمها الديمقراطية، كونها لا تقصي الدين كمظهر ثقافي ومكوّن إنساني بل تكون محايدةً إزاءه بشكل إيجابي».
هذا المبدأ جعل غريغوار حدّاد ينشط في إطار مجموعة كبيرة من المبادرات الاجتماعية المنوّعة أدت الى إنشاء الحركة الاجتماعية عام 1961، وهي حركة «لا طائفية، لا حزبية، لا خيرية»، عملت ولا تزال تعمل إلى جانب الفئات المهمشة في مختلف المناطق اللبنانية.
يقول خليفة إن «المشاريع التي عمل عليها المطران شكّلت شبكة أمان اجتماعي وخبرات عابرة للاصطفافات الطائفية ونواةً نستعيدها اليوم لتحفيز التطوير التربوي».