في إحدى ندواته الأخيرة عن «تجربته في المسرح السياسي»، (مطلع عام 2016 بدعوة من منظمة الحزب الشيوعي في البترون) ــ وكان لي شرف أن أقدمه فيها ــ أصررت في سؤال لي، على أن يخبر جلال خوري الجمهور قصة «المعلم جلال». قليلون كانوا يعرفون هذه التسمية. وجدتها فرصة لأنطلق عبرها نحو أسئلة أخرى عن علاقته بالمسرح وحياته فيه. تسمية استمدها من والده الخيّاط، الذي كان يعمل في دكانة في بيروت القديمة قبل أن تبتلعها الحرب الأهلية. كان معلم «خياطة» من الدرجة الأولى، وكان الصبي جلال يتردد على هناك ليتعلم «المصلحة» ويصبح خياطاً بدوره.
كان دكان الوالد أشبه بخلية «حزبية»، إذ ترددت عليه كل فئات الحزب الشيوعي من ماركسيين وستالينيين و... و... أسماء كثيرة من جيل الحزب التاريخي، عرفها عن كثب، ومن بينهم المؤسسون. في هذا الجو «الماركسي» الذي كان يجد امتداده الحقيقي في العالم العربي في تلك الفترة، اكتشف المسرحي الألماني برتولد بريخت. أصابته «لوثة الثقافة والمسرح». قيل له إنه لن يكون شيئاً، إن لم يصبح معلّماً حقيقياً في أي مهنة يختارها لاحقاً.
وجد جلال خوري في بريخت «مُعلّماً» آخر. أسرّ إليّ ذات مرة قائلاً: «تتلمذت على يد بريخت، إذ إنه جمع بين الماركسية والحداثة في الشكل. بمعنى آخر، تناول الماركسية من جوهرها، أي من اللعبة الجدلية. لمدة عشر سنوات، قضيت أفكر في الذي كتبه وأنا أحفظ له مئات الصفحات غيباً، ولدي كلّ ما كتبه وكُتب عنه بالفرنسية».
في سياق «التلمذة» هذه، كان لا بدّ له أن يصل إلى النقطة المطلوبة: وصل إلى نقطة التحرر منه و«تخطيه»، أي تكيف جلال خوري مع الواقع الذي كان يتعامل معه. لهذا، أعتقد أنه لم يفترق عنه من حيث الجوهر، إذ بقيت تلك المسحة «البريختية» حاضرة في أغلب أعماله، لكن ما حدث أنه أصبح يمتلك قناعات تختلف عن تلك القناعات التي تتلمذ عليها.
هذه الاختلافات في القناعات، لم تتأخر في جعل جلال خوري واحداً من معلمي المسرح في لبنان. صار ابن مهنة أكثر من قبل. لم يعد المسرح البريختي يشكل كلّ محور الرؤية في العمل، بل حاول تجربة أنواع متعددة من المسرح لعل أبرزها «الفودفيل». اختياره لهذا النوع، أثار الكثير من الجدل، على اعتبار أن المسرحي يخون نفسه. علينا أن ننتبه هنا جيداً: غالبية الانتقادات أتته من أصدقائه وزملائه اليساريين السابقين الذين وجدوا «انحرافات» ما في الرؤية. لا يمكن أن نفهم ذلك إلا عبر الآتي: لم يعد المسرح بالنسبة إلى جلال خوري ممثلاً لتيّار فكري وسياسي معين، بل ذهب أكثر إلى المهنة. والمهنة لا تتطلب الوقوف عند خط واحد. بمعنى آخر، لم يعد يرغب في البقاء ممثلاً لهذا التيّار، بل أراد أن يتحول إلى مخرج بالمفهوم العادي للكلمة. حتى في ما عدّه البعض سقطة سياسية (كما في مسرحية «زلمك يا ريس»)، لم يتخلّ جلال خوري عن «ماركسيته»، بل كان قد وصل إلى قراءة مخالفة للماركسية التي اعتدناها وتربينا عليها. هي «ماركسية إنسانوية» أكثر من كونها «دوغما» ثابتة.
هذا التحول قاده لاحقاً إلى الغوص في ثقافات الشرق (مسرحية «هندية راهبة العشق»)، التي اقترب فيها من مسرح «النو» الياباني، بحثاً عن القيمة الإنسانية التي لفتها الحضارة الصناعية. هل يمكن الحديث هنا عن مرحلة ثالثة من مسرح جلال خوري؟ ربما هناك مرحلة رابعة أيضاً تبدت مع «شكسبير إن حكى» حيث أعاد «خياطة» بعض حوارات شكسبير من عدة مسرحيات له. كان في «إلقاء» ميراي معلوف ورفعت طربيه ودوره هو نفسه في ربط هذه الحوارات ببعضها البعض، ما يذكرنا بأن المسرح ممكن بأبسط الأمور. ربما ما يجمع الأعمال الأخيرة، تخليه عن المفهوم الغربي للمسرح، ليحاول أن يغوص أكثر في النفس البشرية، ألم يكن الإنسان من أسمى أهداف الماركسية؟
مع رحيل جلال خوري، تُقفل صفحة أخرى من صفحات المسرح اللبناني التأسيسي. يترك لنا الكثير من الأعمال التي تشكل تاريخاً في مسرح هذا البلد وفي ثقافته. لكنه يترك لي أيضاً الكثير من الذكريات الشخصية التي تجمعت بيننا في هذه السنوات الأخيرة، كأن أنتظر منه اتصالاً أو نكتة على «الواتس»، أو أن يأتي الصديق «صالح» ليعاتبني لماذا لم تذهب معنا في رحلة الأمس.