ترجمة أحمد شافعي

ثمة دلالة أكيدة في إحصاء يقول إن أكثر الأسئلة شيوعاً لما يبدأ بـ «ما هو ... [أو What is] على محرك غوغل خلال العام الماضي هو سؤال: ما الحب؟ هذه المعلومة بحد ذاتها قد تكشف شيئاً عن المجتمع الذي يلوذ أفراده بمحرك بحثي إلكتروني ليسألوه مثل هذا السؤال، أكثر مما يمكن لأي إجابة محتملة أن تكشف عن الحب. لكن إلام نلجأ طلباً لفهم الحب إذا لم نلجأ إلى غوغل؟ آلات صناعة الفانتازيا الهوليودية والبوليودية تصر على أن هناك إجابة واحدة هي الجديرة بأن نلوذ إليها: النوع الرومنتيكي. ذلك أمر يوافق عليه أغلب الناس ولو بحكم التعريف. فهم منساقون إلى البحث عن الشخص الذي سوف يجعل من الواحد منهم «كلاً» مكتملاً في مواقع البحث عن شريك، أو من خلال وسيلة أخرى قد تكون أقل مادية، ولكنها ليست بأي حال أقل قياماً واعتماداً على نفس الثقافة السائدة التي تصر على أننا لا بد من أن نعثر عليه: «ذلك الشخص المختار».
ليس ذلك بالمسعى الحديث على أي حال. منذ أن كتبت الشاعرة سافو في القرن السابع قبل الميلاد عن الحب الرقراق تحت جلدها رقرقة الريح في غصون الشجر، بات الحب الرومنتيكي طاغياً على الخيال البشري لا سبيل إلى مقاومته، بل إنه بات تجربة حاسمة تمثل الذروة في الوجود البشري كله.

غير أن إحصائيات غوغل تشير إلى أن ثمة أيضاً بحثاً عالمياً صامتاً يؤكد أننا غير قانعين بالإجابة الرومنتيكية. قد تكون المشكلة الحقيقية أن الثقافة المعاصرة لا تهيئنا للتفكير في الحب إلا في شكل ذي بعد واحد. ومثلما استولى الزواج بقوة الاحتكار على كل صور التأكيد العلني للحب، احتكرت الفكرة الرومنتيكية خيالنا في ما يخص علاقة التحاب.
خلافاً لنا، لم تكن لدى الإغريق القدامى كلمة واحدة تعني الحب، بل كلمات كثيرة. وكثيراً ما يشار إلى أنهم كانوا يقولون «فيليا» philia (أي الصداقة) و«إيروس» eros (الرغبة) و«ستورج» affection (الميل) و«أجاب» agape (الحب غير المشروط). لعل تلك تمثل جزءاً آخر من مشكلتنا. فلغتنا نفسها تدعونا إلى التفكير في الحب بوصفه شيئاً واحداً موحداً، في حين أنه أبعد ما يكون عن ذلك. وإنني أستبعد أن تكون الكلمات وحدها كافية للتعامل مع هذا العجز المعاصر. فما نحن بحاجة إليه هو إحساس جديد بتنوع تجارب الحب. ومن حسن الحظ أن لدينا عند أسلافنا القدامى مخزناً آخر يمكننا الاعتماد عليه: وليس هذه المرة مخزن مفردات، بل مخزن أساطيرهم القادرة على أن تنير عقولنا.
نحن بمعنى من المعاني متخمون بهيمنة الحب الرومنتيكي، فليس ممكناً ببساطة أن نزيح هذا الحب لصالح الصداقة مثلاً. هذا أمر لن يفلح نهائياً، فالجانب الإيروتيكي بالغ القوة. لكن بوسع الأساطير القديمة أن تدلنا على السر الذي يجعل الرومنتيكية بضاعة رائجة إلى هذه الدرجة، ولو قصيرة العمر. لعل أفضل أسطورة تقتنص غواية الرومنتيكية هي فكرة أرسطوفانيس عن توأم الروح soulmate كما يعبر عنها في «مأدبة» أفلاطون. تذهب القصة إلى أن الإنسان كان له في الأصل رأسان، وأربعة أذرع ومثلها من السيقان. كنا مخلوقين على شكل كرات تتدحرج على وجه الأرض بسرعة قصوى. وانتبهت الآلهة إلى ما لهذه المخلوقات من قوة ظاهرة، فتفتّق ذهن زيوس عن خطة: أن يقطع الإنسان نصفين، لكل منهما رأس وذراعان وساقان.
باتت تلك الأنصاف المبتورة منظراً مثيراً للحزن، خاصة وقد تولدت فيها عادة تكريس أقدار كبيرة من طاقاتها التي باتت محدودة للبحث عن أنصافها الضائعة. فلقد كانت الرغبة في العثور على النصف الأخرى طاغية لا سبيل إلى مقاومتها. وبقي الأفراد في بحثهم هذا رغم تكرار الانفصالات والكوارث الرومنتيكية انطلاقاً من إيمان لا يتزعزع بأن الشخص المناسب ـ المختار الذي عليه العين ـ موجود، شاعرين أنّ ما يعد به الحب إنما هو شيء لا يقل بحال عن «الكمال».
عاشت الأسطورة حياة طويلة، تمتد بدقة إلى يومنا هذا، وهي تصف التجربة الداخلية لأولئك الذين يشعرون أن الحياة لا تكتمل بغير حب كهذا. والحق أنه لم يحدث حتى القرن الثامن عشر أن بلغ التفكير الأرسطوفاني منتهاه المنطقي حينما كتب جان جاك روسو عن كيفية وقوعه في الحب في شبابه، حيث قال في معرض تأملاته إنه لم يطمئن إلا بعد هذه التجربة إلى أنه عاش بحق. ومحصلة ذلك أن الحب الرومنتيكي أصبح هدفاً في حد ذاته. فليس مهماً الشخص الذي تقع في حبه، ما دمت وقعت في الحب. إذ لا يترك المثال الكامن في هذه الخبرة من مجال لتعقد واقع هذا الفرد أو ذاك. وذلك ما يجعل قبضة الرومنتيكية تستولي علينا وتفرغنا في ثنايا ذلك. ومثل ذلك يحدث في حالة السعي الدوغمائي إلى السعادة.
غير أن الأمر الحاسم هو أن أسطورة أفلاطون الأصلية عن توائم الروح لا تنتهي بسعادة وهمية مراوغة، بل بانحرافة. ومن هنا يمكن للأسطورة أن تعلمنا شيئاً، وأن تقترح علينا مفراً يخرجنا من معقل الرومنتيكية الحصين، حيث يشفق زيوس على البشر المقسومين. فيحرك أعضاءهم التناسلية بحيث يسمح لهم حينما يتلاقون أن يتعانقوا، فيكون من ذلك متنفس بسيط لما بهم من وجد. الجنس رشفة إذن من كأس الاتحاد، وهو يعين هؤلاء المشطورين، ولو إلى حد معين. وحدث أن مرّ هيفاستيوس، إله الصنعة، بالأزواج فوعدهم بتحقيق أمنية لهم. طلب أولئك المأساويون بصوت واحد: أن الحم بيننا، أن اصهر أحدنا في الآخر. ويمتثل هيفاستيوس. ويصبح الاثنان واحداً. ويبين الموضع الجديد طريقة أخرى للحب حينما يصل إلى طريق مسدود. ففي ظل التصاقهم بهذه الطريقة، وحملقتهم كل واحد في الآخر بلا نهاية، يفقد العشاق كل علاقة أخرى بالحياة. وفي ظل لامبالاتهم بأي شيء آخر، يكتسب الموت ملمحاً جذاباً، فيحلمون بالاشتراك معاً في النفس الأخيرــــ وهي خرافة أخرى تعيش على التعبير الفرنسي المخفف la petite mort «الميتة الصغرى» [استعارة للأورغازم]ـ وفي الذروة الرومنتيكية في «روميو وجولييت». لكن حسبما يقول عالم النفس إريتش فروم Erich Fromm في «فن الحب» (الصادر 1956)، لكي يكون للحب مستقبل، ينبغي على المتحابين أن يتمكنا من الانتقال من الوقوع في الحب إلى الوقوف في الحب. لا بد للأحباب أن يعانقوا ما يقع خارج ثنائيتهم الدافئة لكي يتسنى لهم البقاء. وحسبما أوضح فرويد، قد يكون الحب الثنائي مغذِّياً، لكنه بالدرجة نفسها قد يكون إقصائياً داعياً إلى الغربة، وفي الحكاية الأرسطوفانية إشارة إلى ضرورة تجاوزه.
السؤال هو كيف؟ كيف يمكن إطلاق طاقة الرغبة الرومنتيكية وتوجيهها إلى الخارج بحيث لا يقتصر دورها على تغذية حب اثنين للحياة معاً، بل إلى حب اثنين للحياة في ذاتها، إذ يعيشانها معاً. الإجابة تأتينا من أسطورة قديمة أخرى توشك اليوم أن تكون منسية تماماً. هي أسطورة إله الحب الرضيع، المعروف لنا بـ «إيروس»، ولكن الأسطورة تعرفنا بشخصية أخرى، أقل شهرة بيننا، هي شخصية أخيه. ولد إيروس لأفروديت، وفي البداية بدا كل شيء طيباً. لكن حدث أن بدأت أفروديت تلاحظ ما أزعجها. الطفل لم يكن يكبر. جناحاه بقيا برعمين صغيرين. جسمه الريان لم تنم به عضلات. بدا كأنه مسكون بروح متشبثة بالطفولة، رافضة أن تخطو باتجاه النضج. تملك القلق أفروديت، فاستشارت أختها الحكيمة ثيميس Themis. إلهة المشورة الصائبة (يمكن أن نترجم اسمها حرفياً إلى «ما يفلح» what works). نصحتها ثيميس بأن تنجب طفلاً آخر، لكن هذه المرة من آريس Ares، إله الحرب الشجاع. ومن تعليمات ثيميس أن يسمى الولد الثاني أنتيروس Anteros، الذي يكون مساوياً لإيروس. وفعلت أفروديت ما أشارت به أختها عليها. وبات الولدان متنافسين. كانا يتشاكسان، ويتناوشان، ويتشاجران، ولكنهما يحبان أحدهما الآخر، وطالما كانا يلعبان جنب بعضهما البعض، كان إيروس ينمو نمواً طبيعياً. أما حينما يفترقان، فكانت أفروديت تلاحظ أن إيروس يتقلص.
ما يأتي به أنتيروس هو الصعوبة، هو المعادل الرومنتيكي للتنافس بين الإخوة الذي يكرهه الصغار كثيراً في معرض تدافعهم من أجل لفت أنظار آبائهم، برغم أنه يمكن ـ شأن التوترات في علاقات الكبار ـ أن يكون هو الذي يصوغهم لو تم التعامل معه بحساسية. ما يأتي به أنتيروس هو الشجاعة المطلوبة لمقاومة الفنتازيا الهائلة المتعلقة بالتلاشي بين ذراعي شخص، والشروع بدلاً من ذلك في العملية الصعبة المتعلقة بصنع حياة من الحب. ما يمثله أنتيروس ـ إن جاز لنا قول ذلك ـ هو الروحانية الصحية الكامنة من وراء مشاجرات الأحباب التي لو تم التأمل فيها والتعلم منها، لتبين أنها هي التي تصنع النضج. والمثل الذي يرجع إلى القرن السادس عشر، ينقل هذه الدينامية الأنتيروسية: «مشاجرات الأحباب، تجديد للحب». فلو أن إيروس هو إله الحب الذي يصوب على الناس أسهمه ويجعل الرغبة تصيبهم بالجنون، فأنتيروس هو إله الحب الذي يعارض الجنون بمزيج من برغماتية خالته وقوة أبيه.
ولكن الأسطورة تقول لنا ما هو أكثر. لقد كانت ثيميس خالة أنتيروس مشهورة أيضاً ببراعتها في تحويل الطاقات المتصارعة إلى قوة شافية. ووارثوها في يومنا هذا هم استشاريو العلاقات couples’ therapists: وهؤلاء ينزعون إلى التركيز على كيفية تعامل أصحاب العلاقات غير المستقرة مع عواطفهم التي لا تعبر عن نفسها في الشجارات، بدلاً من أن يعلموهم كيفية تجنب الشجارات في المقام الأول. فقد يكون الغضب والكراهية، والخوف والإحساس بالضعف، فرصة حقيقية سانحة لكل العلاقات المتوترة. يوحي إليك الطبيب بأن هذا الشخص ليس نصفك الآخر، ولكنه شخص قد تجد معه لذاتك مزيداً من التكامل والكلية، وبأن الحياة لا تبلغ ذروتها المثالية بالحب حسب ما توحي الفنتازيات الرومنتيكية، ولكنك من خلال الحب قد تجد المزيد من الحياة. وبالعكس، يعلمك الاستشاريون أن العجز عن التعامل مع الصراع نذير جيد للطلاق.
ويجدر بنا التأمل في تفصيلة أن أنتيروس ما كان يساعد أخاه على النمو إلا وهما يلعبان معاً. وحين يفترقان، كان إيروس يتقلص إلى ما كان عليه. لعل في هذا تأكيداً على أهمية الالتزام في العلاقة، الالتزام الذي يعد بمثابة حاوية للأفراح والأتراح، متيحاً لكليهما العمل من خلاله. ذلك أنه ما من وجود لحالة «التبات والنبات» السكونية، ولكنه الاستمرار في الاحتياج إلى الاشتراك في اللعب. تشير إلى أن العلاقة الجيدة تأتي من المستقبل لا من الماضي بحسب ما توحي به أسطورة أرسطوفانيس. فالحب منتج نصنعه، أكثر منه لقية تقع بين أيدينا.
في كتابه «أسطورة أنتيروس المنسية» Anteros: A Forgotten Myth (الصادر 2011) يجمع كريج ستيفانسن الدلائل على أن شقيق إيروس قد لا يكون اختفى تمام الاختفاء. فهو في هذا الكتاب يناقش قصيدة دانتي جابرييل روزيتي «مصباح هيرو» (المكتوبة في عام 1875) التي يتكلم فيها عن مصباح مخصص لأنتيروس لا يمكن أن يضيئه إلا حب يدوم طول العمر، خلافاً للحب المجنون الذي يشعر به «لاندر» تجاه «هيرو» فيسوقه إلى محاولة عبور البحر مرات ومرات عساه يصل إليها فلا ينتهي إلا إلى الغرق.
في الوقت نفسه، تمكن قراءة مشهد المصارعة الشهير في رواية دي إتش لورنس «نساء عاشقات» ـ حسبما يذهب ستيفانسن ـ بوصفه تصويراً للتنافس بين إيروس وأنتيروس. في هذا المشهد، يتصارع روبرت بركن وجيرالد كيرش «في رشاقة، وانتشاء، ومثابرة، ولاعقلانية في نهاية الأمر». يتعلم بركن من الاعتداء الذي يتم التعبير عنه بصورة آمنة لكنها مكتملة الأركان في القتال: يتعلم أن زواجه من أورسولا برانجون لا بد ــ لكي ينجح ـ من أن يتضمن عناصر من الاتحاد والمشقة. والانفصالية داخل الاتحاد لا يمكن تحقيقها إلا بإبقاء الأضداد في حالة توتر، بحسب قراءة الناقد فرانك كيرمود للورنس. لا بد أن يتعلم الأحباب كيف يصلون إلى «توازن يتجاوز فكرة الحب الجنسي العادية».
تتناول أسطورة إيروس وأنتيروس ـ بالدرجة الأساسية ـ مثلثاً غرامياً. فالأخوان يتشاجران شجارهما الأخوي، متنافسين على لفت نظر أفروديت. وذلك نوع الحب المانح للحياة لأن إيروس وأنتيروس يرغبان في شيء يقع خارج اهتماماتهما الثنائية المباشرة. إنّ حبهما ثلاثي: إذ أن الذي يضرمه إنما هو شيء يقع خارج حب الواحد فيهما للآخر. وما بينهما من تنافس هو الذي يجذبهما إلى عناصر حياتية خارجية، أو إلى الحياة ذاتها بعبارة أخرى. ومن هنا ينضج إيروس.
يبدو أن العنصر الثلاثي هذا هو الذي كان يثير اهتمام أفلاطون على وجه الخصوص حينما بنى أسطورة أنتيروس في واحدة من محاوراته. ففي محاورة فايدروس، يصف أفلاطون ما يحدث عندما يقع فردان في الحب: ترغمهما الدوافع الرومنتيكية على المضي معاً بدفع من الرغبة. ولا يبدو للناظرين واضحاً ما إذا كان المتحابان يتحابان أم هما حبيسا عنف متبادل. ولكن من المحبين من ينعمون بما يطلق عليه أفلاطون الدينامية الأنتيروسية. إذ يبدو كأنهما قادران على فصل أحدهما عن الآخر، والرجوع قليلاً إلى الوراء، ومراقبة ما يجري. وحينئذ ينفتح فيما يبني الاثنان مكاناً ثالثاً، يمنح قدرة ضرورية للوعي بالذات.
هذه الفجوة يكون لها تأثير دراماتيكي على العلاقة. إذ لا يعود المحرك الوحيد للحبيبين هو اشتهاء أحدهما للآخر. بل تتكون بمرور الوقت حميمية ثمينة فيها سمة أشبه بالصداقة. وهنا يتذكر المرء كلمات الكاتب والشاعر الفرنسي أنطوان دو سانت أكزوبري، إذ يقول إن «التجربة تعلمنا أن الحب ليس أن ينظر اثنان كل في عيني الآخر، بل أن ينظر اثنان في اتجاه واحد». عندما يكون اثنان حبيبين فإنهما ينظران كل في عيني الآخر، لكنهما كصديقين يمكن أن ينظرا معاً إلى الأمام. يبدآن في رؤية الحياة فيما يتجاوزهما، وبدعم من أحدهما للآخر، هما الواقفان الآن في الحب، يمكن أن تتقدم خطاهما نحو المستقبل.
المثير في رؤية أفلاطون أنه يعتقد أن هذه الصداقة المعززة للحياة هي نتيجة الحب الإيروتيكي. فلسفته ليست إنكاراً لإيروس، وإنماً هي توجيه بارع، أو حتى توجيه ماكر، هدفه إكراهه على العمل. وهذا يفسر المعنى الأصلي لعبارة «الصداقة الأفلاطونية» Platonic friendship. فليس المقصود هو غياب أي إحساس إيروتيكي بين صديقين أفلاطونيين (فكرة يمكن أن يعدها أفلاطون ضرباً من ضروب الإنكار)، بل إنّ التعبير الجنسي عن العنصر الرومنتكي، يكون قد تم استيعابه والارتقاء به. ولو أننا استخدمنا الاصطلاح الفرويدي، لقلنا إن الغريزة الإيروتيكية قد تم التسامي بها. فإذا بطاقتها وقد أصبحت في خدمة السعي المشبوب إلى الفلسفة، وهو احتمال جذاب في ضوء أنّ الفلسفة بالنسبة لأفلاطون كانت تعني إنماء حياة قادرة على الازدهار. ولكي نصل إلى هذا المعنى بلغة أقل تعقيداً، نقول إن مثل هذين الاثنين يستطيعان سبيلاً لا إلى أن يعيشا معاً، بل أن يعيشا معاً وبخير. الحب الثلاثي ـ الذي يقام فيه فراغ داخل العلاقة من أجل الحياة (والحب) يتجاوز حدود الثنائي نفسه ـ هو أرقى أشكال الحب البشري لأنه يجعل الحياة الطيبة أمراً ممكناً. وكما يقول الفيلسوف أنطوني برايس في «الحب والصداقة عند أفلاطون وأرسطو» (الصادر عام 1989)، فإن الحبّ «بالنسبة للروح الواعدة المتحفزة، هو التلقي والاستجابة والانفتاح على الجديد». هو حب أقل خوفاً وانكفاء على الذات من حب نرسيوس، وفيه متسع لآخرين مثل أنصاف أرسطوفانيس الملتصقة. أو هو ـ بتعبير أيريس مردوك في قراءتها لأفلاطون ـ «وعي متزايد وإحساس بالعالم فيما وراء الذات».
لكن هذا يثير سؤالاً مهماً. لو أننا نريد مخرجاً من الحدود الرومنتيكية، فأين لنا اليوم أن نبدي احترامنا لأنتيروس؟ كريغ ستيفانسن يوضح أن ما تشيع تسميته لدينا بتمثال إيروس عند نافورة نصب شافتسبيري في بيكاديلي، ما هو إلا أنتيروس. لقد نحته في عام 1893 ألفريد جلبرت الذي كان يشعر أن حياته الشخصية ما هي إلا انعكاس للتنافس بين الأخوين. رأى جيلبرت صورة شخصيته المندفعة في إيروس، وكان يتوق إلى أن يجد في نفسه المزيد من الواقعية المرتبطة بأنتيروس. ولا بد أنه كان يشعر أن هذا الإله هو الأنسب لتحريك القلب في ذلك الجزء من لندن. وإن لي أنا ـ على المستوى الشخصي ـ طقساً سرياً أقوم به، إذ أحني رأسي في إجلال لأنتيروس كلما مررت به: شكراً لك على هذا الجانب المراوغ من جوانب الحب.

* كاتب وصحافي بريطاني، متخصص في الفلسفات القديمة. كان قسيس كنيسة إنكلترا قبل أن يصير كاتباً. النصّ المترجم مقتطف من أحدث أعماله «الحب: هذا هو المهم» (2013)