تتشكل منطقة الجنوب اللبناني من هضبة تمتد من جنوبي السلسلة الغربية شمالاً إلى الجليل الأعلى في فلسطين جنوباً ومن منحدرات حرمون شرقاً إلى الساحل غرباً. وتتصل هذه الهضبة التي تضم تلال عاملة ووادي التيم بتلال الجليل الأعلى الواقعة في فلسطين، المتماثلة في التضاريس ومعدلات الارتفاع (٥٠٠-٧٠٠ متر فوق سطح البحر) والمتداخلة معها. ويعيد مؤرخون حدود الجليل الأعلى إلى نهر الليطاني شمالاً، وفي ذلك إشارة إلى التواصل والتداخل الجغرافي فضلاً عن المُعطى السياسي في تلك الحقبة.
والجليل الأدنى جنوباً ذو التلال الأقل ارتفاعاً، وقد بقيت هذه التسمية للمنطقة متداولة إلى فترات متأخرة من دون أن يتعارض ذلك مع تسمية «جبل عامل». بالمقابل ضم مؤرخون مناطق من الجليل وسهل الحولة إلى منطقة «جبل عاملة» لأسباب سياسية وجغرافية سادت في فترات تاريخية معينة.
وقد أسهمت تضاريس المحيط الطبيعي الذي يضم المنطقتين الواقع ضمن الحزام السفلي للحوض المتوسطي، امتداداً إلى جبل الشيخ (حرمون)، والمناخ المتوسطي القاري المعتدل إلى حار (٢٠-١٦م) الذي يتمتع به بالإضافة إلى معدلات سقوط الأمطار المتباينة بين الساحل والداخل ومرتفعات حرمون، إلى انتعاش في الحياة النباتية والحيوانية وغنى واسع في التنوع البيولوجي. كما وفرت هذه البيئة مساراً ومحطة استراحة دافئة للطيور المهاجرة مما أسهم في حيوية الحياة البرية للمنطقة.

التنوع وأثر الجدار

تضم المنطقة الحرشية المتصلة، على طرفي الحدود، أصنافاً وأنواعاً واسعة من بين النباتات والأشجار المحلية من بينها أنواع عدة من السنديان أو البلوط مثل العفص أو الحلبي والطابوري أو الملول والبلوط الفلسطيني والبطم ومنه العدسي والأطلسي والفلسطيني والغار... وغيرها من الشجيرات والنباتات المختلفة التي تزيد عن ألف نوع. وتعد غابات السنديان المتبقية في جبل عامل والجليل الأعلى بعض أقدم غابات السنديان في المنطقة. وتوفر هذه الأشجار والنباتات الملجأ والغذاء لعدد كبير من الحشرات والزواحف والقوارض والطيور والثديات من بينها الخنزير البري والسنجاب والغرير والنمس والثعلب الأحمر (نوعان). وتنشط في هذا المحيط العديد من اللواحم مثل القط البري وابن آوى الذهبي وكذلك الضباع المخططة وغيرها. وبعض هذه الحيوانات والطيور المحلية مهدد بالانقراض وفق تصنيف المجلس العالمي لصون الطبيعة IUCN كغزال الجبل وغيره.
لقد أدت الإنشاءات والأنشطة الإسرائيلية الأمنية والتي ازدادت تباعاً منذ الانسحاب الإسرائيلي إلى تراجع كبير في نشاط هذه الحيوانات عبر الحدود وسجلت خلال الفترة السابقة عشرات حالات نفوق حيوانات وطيور علقت في الشباك والأسلاك أثناء محاولة عبورها. ومع استكمال بناء هذا الجدار يصبح الفصل بين المناطق أكثر شدة وتعقيداً وهو ما يشكل تحدياً غير مسبوق لنظام المنطقة البيئي.

اختلال النظام البيئي

إن من الأثار المباشرة للجدار وبنيته التحتية والذي سيمتد لكيلومترات عدة مستكملاً الإنشاءات الأخرى التي سبق ذكرها، أن يمنع الحيوانات الجوالة سواء منها، الزواحف والقوارض أو الثدييات العاشبة واللاحمة من أي فرصة للعبور حتى تلك التي كانت تجد طريقها بصعوبة من خلال بعض الثغرات سابقاً. وفي ذلك تأثير على سلوك ونشاط الحيوانات الذي يحدده بحثها عن الموئل والغذاء خاصة مع انحسار المناطق البرية نتيجة التمدد الحضري إضافة إلى تداعيات عامل التغير المناخي على النظم البيئية المختلفة نتيجة للجفاف وتأثير ذلك على التنوع البيولوجي.
ويشكل التغير المناخي تحدياً كبيراَ للنظم البيئية وعناصرها خاصة تلك التي تجد عناصرها صعوبة في التأقلم مع المتغيرات المناخية مثل إيكولوجيا الأراضي الرطبة. كذلك أدى إلى انحسار في الموائل وندرة في الغذاء والماء وكل هذا ترك تأثيراً على سلوك الحيوانات ونشاطها وتكاثرها في أكثر من موقع، على سبيل المثال، في لبنان، أدت إلى تراجع أعداد ثعالب الماء في مقابل زيادة أعداد القوارض مثل فأر الحقل وأنواع أخرى من الزواحف والحشرات (عرضنا له في مقالة سابقة).

الجدار يمنع الحيوانات من العبور فيقطع عنها الموئل والغذاء



وقد خلف هذا التغير تأثيراً على مواعيد الدورة البيولوجية للأنواع النباتية والحيوانية وتسبب بانتقال الحيوانات واستقرارها إلى مواقع أخرى. وكانت مجلة Science قد نشرت في عدد (6332/مجلد 355) آذار 2017 بحثاً تناول فيه الانتقال الواسع لأنواع الحيوانات بسبب التغيرات المناخية التي تسبب بها النشاط البشري. وهي تداعيات لا تتوقف عند النضوج المبكر للأزهار والثمار أو البدء المبكر لتكاثر البرمائيات أو مواعيد هجرات الطيور الموسمية إلى غيرها من التغيرات التي طرأت على الدورة البيولوجية للأنواع فحسب، بل يؤثر ذلك على استقرار المجتمعات البشرية وصحتها وسلامتها ووفرة مائها وغذائها. إن جدار الفصل الإسرائيلي يقيد حركة الحيوانات للتعامل مع تحدي التغير المناخي ويمنعها من الانتقال بحثها عن الموئل الملائم والغذاء والماء، ما سيخلف آثاراً على نشاطها وتكاثرها وهو ما سيعطي أرجحية لأنواع على أخرى وبنتيجة ذلك سيؤدي إلى اختلال وتدهور النظم البيئية.

الحد من نشاط الطيور

إن وجود الجدار يقيد حركة الطيور أيضاً. فالعديد من الطيور لا تعتمد في تنقلها أو بحثها عن غذائها وطرائدها التحليق المرتفع وتعتمد التحليق المنخفض والتنقل بين الأشجار. كما أن أنواعاً عدة من المفترسات تعتمد الصيد المنخفض كما هو حال بومة الحظائر، على سبيل المثال، وهذه ستتأثر نتيجة الجدار الذي سيمنعها من التنقل وتوفير الغذاء أو الطريدة من جهة، ومن جهة أخرى توفير الحماية للأشجار نتيجة نشاط هذه الطيور وتناولها للحشرات أو القوارض وبالتالي الحفاظ على أعدادها وهو ما يسهم في الحفاظ على توازن النظام البيئي.
كما إن تقييد حركة الطيور والحيوانات يحد من حيوية وتنوع الأحراش والغابات ويحرمها من مُلقح وناقل ناشط لبذور النباتات والأشجار المختلفة.

تهديد الذئب الرمادي

من شأن الجدار أن يحدّ بشكل كبير من حركة اللواحم، وبشكل خاص الذئاب الرمادية والتي تراجعت أعدادها بشكل كبير في المنطقة وتشكل رأس السلسلة الغذائية للنظم البيئية حيث تنشط. وتلعب أنواع الذئاب الرمادية بنظامها الغذائي دوراً أساسياً في الحفاظ على حيوية وتوزان النظم البيئية، خاصة أنها من دون باقي اللواحم المتبقية في هذا المثلث الطبيعي الممتد من الجولان إلى حرمون مروراً بعاملة إلى الجليل الأعلى التي تصيد الثدييات الكبيرة. ويلعب التجوال البعيد للذئاب ضمن وخارج حوزها الذي تحدده بعشرات الكيلومترات ضمن هذا المثلث بين لبنان وفلسطين وسوريا بحثاً عن طرائد دوراً في تنظيم أعداد الثدييات العاشبة وتوجيه سلوكها أيضاً وهو ما يسهم في الحفاظ على توازن النظم البيئية. فالذئب الرمادي المقيم في الجولان يجول حتى الحولة جنوباً وتلال عاملة شرقاً وكذلك الأمر في الذئاب المستوطنة على منحدرات حرمون حيث تشكل جبال عاملة والجليل جزءاً من حوزها ومجال تجوالها وصيدها وهو الأمر والدور الذي بات متعذراً بفعل بناء الجدار الفاصل ولهذا تداعيات سواء على نشاط الذئاب أو على توازن النظم البيئية التي لعب دوراً فيها مما سيزيد من أعداد الأنواع التي كانت جزءاً من نظامه الغذائي على حساب أخرى.

استعادة غزال الجبل!

سجلت خلال الأعوام القليلة الماضية مشاهدات لغزال الجبل وهو نوع محلي مهدد بالانقراض على ما سبقت الإشارة وقد كان مستوطناً في المناطق الجنوبية قبل أن يغيب عن الرؤية في سبعينيات القرن الماضي. ولا يزال غزال الجبل ناشطاً في فلسطين حيث توجد أكبر مجموعة متبقية منه في البرية وتبلغ قرابة ألفي غزال على الرغم من التراجع الكبير في أعداده. والمرجح أن هذه المشاهدات تعود إلى حالة عبور لغزال الجبل من الأراضي الفلسطينية إلا إذا تبين أنها تعود إلى أفراد لا تزال موجودة في البرية اللبنانية وهذا أمر، إذا ما تم التحقق منه، يشكل حدثا بيئياً كبيراً ويستوجب التدخل من السلطات لحمايتها ورعايتها.




مخالفة اتفاقيات دولية

في بنائها للجدار تعرض إسرائيل التنوع البيولوجي للمنطقة إلى الخطر وتلحق أبلغ الأضرار بالحياة البرية وتخرق بنود اتفاقية التنوع البيولوجي واتفاقية رامسار للحفاظ والاستخدام المستدام للمناطق الرطبة خاصة أن الجدار يعترض حركة السيول والأمطار الموسمية والتي تغذي العديد من الجداول والمناطق الرطبة تعيق حركتها. فهل تحضر وزراة بيئة لشكوى أممية حول هذا الموضوع؟