اسمي فتحي، عمري 19 سنة وبضعة أشهر، عشرون سنة تقريباً وأنا أسكن في بوسالم. وهي مدينة منسيّة في الشّمال الغربي من هذه البلاد المنسيّة أيضاً. باختصار، أنا أسكن في مكانٍ ما منسيّ في بلدٍ منسيّ. أعيش في رقعة جغرافيّة اعتاد كثيرون على تسميتها بالحفرة في نعش الكرة الأرضيّة. نعم كثيراً ما أتخيل أنّ هذا المكان المقرف هو فتحة شرجيّة وكلّ سكّانه ما هم إلا براز تنبعث رائحته لتخنق بقية المتساكنين من البشر والحيوانات.
على كل حال، ها قد أخذتم فكرةً - ولو مقتضبة - عن مكان ولادتي كما هو موجود في بطاقة هويّتي. المهمّ هو أن تعرفوا أنني عندما وصلت إلى البكالوريا، لم يكن لي في الحياة سوى هدفين اثنين فقط: اجتياز الامتحان بنجاح ومضاجعة أستاذة الإنكليزيّة. لقد تمحورت تلك السنة من حياتي حول هذين الحلمين. الأوّل أصبح هاجساً تحت ضغط العائلة، فقد كان والدي مع كل شجارٍ يذكّرني أنّ كلّ ما يربطني بهم هو الدّراسة ولا شيء غيرها. ولا أعلم إن كان يعني ما يقول أم كانت تلك مجرّد تهديداتٍ لتحفيزي على المواصلة والمثابرة وإخراجي من حالة اللامبالاة التي انتابتني بعدما اكتشفت أن الدّراسة في تونس لا تعدو أن تكون مجرّد مضيعة للوقت والجهد. عندما اكتشفت هذه الحقيقة، هجرت المعهد ونسيته، صبرت على فراق مدرّسة الإنكليزية اللعوب. كنت في الأيّام الأولى كمن انقطع فجأةً عن استهلاك المخدّرات، أتذكّرها بنهديها الضخمين الممتلئين كالبالونات التي تباع على الأرصفة في الأعياد، يطلان من فتحة البلوزة البيضاء التي تُبْرِزُ قوامها الرّشيق وأجزاء جسدها المشدود الذي قاوم وصمد رغم تتالي السّنين. كنت أبذل جهداً خُرافياً لأتخيّل وأخمّن ألوان ملابسها الدّاخلية: كيلوت أزرق وحمّالة صدر ورديّة. كانت حصّة الإنكليزيّة أكثر الحصص التي أَمْتَحِنُ فيها مخيّلتي وأُطْلِقُ لها العنان لرسم جسد معذّبتي. قلّ ذهابي إلى المعهد وتخليّت عن كلّ هذا بعد تفكير طويلٍ.
كانت سنة اجتياز البكالوريا سنة الخصومات العائليّة بامتياز. عزفت عن الذّهاب إلى المعهد، ولم أكن مواظباً على الحضور. كنت أقضي كامل اليوم في المطالعة أو مشاهدة أفلام البورنو وأتخيّلُنِي مع مدرّستي بصدد ممارسة الجنس في كلّ الوضعيّات. عكفت على المراجعة قبل ثلاثة أسابيع من الامتحان الذي يعدّ وسيلة الخلاص لمغادرتي البلاد. اجتزته بنجاحٍ وشرعت في التحضير للسفر. طبعاً كلّ تلك الأوراق التي كان يتوجّب عليّ تحضيرها زادت من حقدي وحنقي، فعزمت على الذّهاب دون رجعة.
انتهيتُ أخيراً من جمع الأوراق اللازمة للفيزا. أبناء القحبة، يبدو أنّهم كرهوا العرب ولا يرغبون في ذهابهم هناك ولو كان السّبب هو الدّراسة خاصّةً بعد الأحداث الأخيرة. لقد انتشر مجانين الله في كلّ أنحاء العالم بأزيائهم ومعتقداتهم القبيحة كوجوههم، هم سبب البليّة وكلّ هذا القرف والإجراءات الأمنيّة بسببهم. لقد ذهبت أيّام العزّ، أيّام كان الفرد متمتّعاً بحريّة التّنقل في كل أنحاء العالم دون هذا الخراء المسمّى فيزا.

■ ■ ■


كانت السّاعة في المحطّة تشير إلى السّادسة والنّصف صباحاً. القطار متأّخر كالعادة ولكن اليوم ليس عاديّاً بالنّسبة لي، لقد أكّد لي ذلك الرّجل النّاعس داخل المحطّة عندما اقتطعت التذكرة أن القطار لن يتأخّر. سأذهب ثانيةً لأستفسر عن الأمر.
- سيّدي، أنا لديّ مصالح ومواعيد ويجب أن أكون في العاصمة قبل العاشرة صباحاً. بادرته بنبرة حادّة.
- وماذا تريد أن أفعل يا ابني؟ هل تعتقد أنّنا في اليابان حتى تكون المواعيد مضبوطة؟ أجابني بابتسامة مستفزّة امتزج فيها التّعالي بالسّخرية وقد بانت أسنانه الصّفراء جراء تدخين السجائر الرخيصة. لعنت القطارات وعدت لأنتظر القطار مع مجموعة المسافرين الجبناء الذين رضخوا للأمر الواقع واقتنعوا أنّنا لسنا في بلاد «الجَابُونِ» وأنّ تأخّر القطار أمر عادي! بعدها بنصف ساعة، استسلمت وتخلّيت عن فكرة العودة لذلك الرّجل واستغنيت عن حقّي في استرجاع ثمن التّذكرة. خرجت من الباب الخلفيّ للمحطّة لكي أتجنّب رؤية وجهه القبيح. ستبدأ رحلة البحث عن «لُوَّاجْ». رحلة البحث هذه لن تكون سهلة لأنّها تتطلّب مجهوداً كبيراً وتركيزاً على الهدف وصبراً طويلاً للظّفر بمكان مع أحد السائقين الذين استيقظوا متأخّرين وتخلّفوا عن الأسطول الصباحي. وصلت قبالة المحطة، وضعت حقيبة الظهر التي تحتوي على الأوراق أمامي ووقفت أشاهد منظر السيارات المصطفّة. لا أعلم لماذا استفزّني تناغمها المبالغ فيه. لماذا تصرّ هده الفئة - أقصد سائقي اللّواج - على إلصاق اسم الله ومحمّد على البلّور الأماميّ؟ من هو هذا المغفّل الذي بادر بهذا الفعل الشّنيع ليتبعه البقيّة كالقطيع؟ قُطِعَ تدفّق الأسئلة عن ذهني بعدما فجاءني صوتٌ أجشٌ انبعث من الخلف دون مقدّمات:
- تونس يا خويا؟ ألقى سؤاله بسرعةٍ وبقي متوثباً ينتظر إجابة سريعةً أيضاً.
- نعم، هل ستنطلق حالاً؟ أجبته وأنا أحمل حقيبة الظّهر وأهمّ بالتوجّه لصفّ السيارات.
- لا! ليس من هذا الاتجاه. جذبني بعنف من يدي وكأنّنا معارف أو أصدقاء قدامى. وواصل توجيهاته قائلاً:
- لقد ركنت سيّارتي من الجهة المقابلة بعيداً عن الأعين، أنا لا أستطيع أن أنتظر دوري فذلك يأخذ وقتاً كثيراً. لذا أسرق الرّكاب وليذهب الزملاء الأعزّاء إلى الجحيم. قهقه وأشار لي بيده أن اتبعني ففعلت دون أي تردّدٍ فلا بد أن أكون في السّفارة في الموعد المحدّد.

■ ■ ■


الطّريق ما زال فارغاً، لا يُسمع إلاّ ضجيج المحرّك ولا تُشَمُّ إلاّ رائحة البنزين العطنة. تعترضنا في الجهة المقابلة من الطريق بضع شاحنات أغلبها تترنّح بحمولتها. تجشّأ السّائق ثمّ استغفر ربّه وفتح الرّاديو على موجات إذاعة دينيّة. حاولت أن أتناسى هذا الجوّ المقرف بالاستماع إلى الموسيقى، ولكنّ هواجسي تغلّبت عليّ ووجدتني أتأرجح بين أمواج الاحتمالات التي يرسمها خيالي. ماذا لو لم أحصل على الفيزا؟ صحيحٌ أنّني حرصت على أن تكون أوراق ملفّي كاملةً، لكن ذلك لا يعدّ ضماناً ويمكن أن يرفض طلبي وأحرم من السّفر. تسارعت دقّات قلبي من جديد، أحسست أنّ جمجمتي سنفجر بعدما ضقت ذرعاً بتلاطم عدد لامتناه من الأفكار المتضاربة. المعهد، الفيزا، المطار، برج إيفل ومدرّسة الإنكليزيّة بنهديها المثيرين. شعرت بالراحة مع الصورة الأخيرة لمعذّبتي وشعرت بأطرافي تتصلّب كوتد وعينيّ ترتخيان، سأنام وأضاجعها في الحلم طوال الطّريق.
* كاتب وصحافي تونسي