في مقالةٍ نُشرت في السابع من أيلول (سبتمبر) 2017 في صحيفة «لوبوان» الفرنسية تحت عنوان «فبركة الخائن: الإسلاميون يعيدون إنتاج القاموس. المثقّف الحريص على الحرية مدعوّ لخرقِ جدار احتكارِ الكلمات لو أراد أن يُسمِع صوتَه»، يُنصّب الكاتب الجزائري الفرنكوفوني كمال داود نفسه «خائناً»، بالمعنى السارتري للكلمة، أي خيانة المثقّف للطبقة التي ينتمي إليها.
وفي حديثه عن مسألة الحياة الجنسية في المغرب، يقول داود: «في الواقع، لا تنطوي المسألة على المحظورات المفروضة على الجسد والشهوة فحسب، بل على حالة المثقّفين المعارضين للنُظم السياسية أو الدينية المحافظة بشكل عام. فمن خلال المخادعة والخطابات الخبيثة، نجح الخطاب المحافظ في بلادنا في استبعاد مفاهيم معيّنة من المجال الصحافي اليومي والإيحاء بأنها مستوحاة من «الآخر»، أي الغرب، نازعاً بذلك الشعرية عن أصحاب الخطابات النقدية والإصلاحيين». إذاً، يسعى كمال داود، باسم الفكر النقدي والحاجة الماسّة إلى إجراء نقدٍ ذاتي، إلى إضفاءَ الشرعية على مواقفه المستغربة. ففيما يحاول الظهور بمظهرِ المدافع الفذّ عن القيم التحرّرية والإنسانية، ينصّب نفسه كمُرشد للضمير الغربي في سياق الحرب على غزة في تموز (يوليو) 2014.

يعتبر أنّ البنى
الأنثروبولوجية في العالم العربي هي السبب وراء فشل الحداثة السياسية

فقد نشر داود في 12 تموز (يوليو) 2014 مقالاً مثيراً للجدل ومحيراً في نواحٍ كثيرة في صحيفة «وهران» اليومية (بعنوان «لهذا السبب لست متضامناً مع فلسطين»)، يستنكر فيه الغضب الانتقائي لدى الرأي العام العربي. وفي خاتمة المقال، يبرّر موقفه هذا على قاعدة أنّ «هذا التضامن يحصل باسم الإسلام وكراهية اليهود أو الآخر». ويضيف أنّ «هذا التضامن السهل يغضّ الطرف عن حركة «حماس» وطبيعتها، وعن الانقسامات الفلسطينية، وعن مواطن عجزهم وضعفهم، تحت حجّة احترام المقاتلين». لا بل إنّ العار الأكبر هو أنّ مطلق الأحكام هذا، وفي خضمّ المجزرة، اعتنقَ أسطورة الديمقراطية الإسرائيلية، متسائلاً «كيف يمكن للمرء أن يكابر ويدّعي التضامن فيما هو عاجز عن أداء اللعبة الديمقراطية: فلمَ لا ننتخب يهوداً عندنا كما ينتخبون عرباً عندهم؟». حتى إن داود، الذي يوصف بأنه «تحريضي»، ذهب حدّ اجترار خطاب اليمين الإسرائيلي في الصحافة الجزائرية، معترضاً حتى على مواقف مجتمعِه بشأن قضية عربية محوريّة، تختصر كلّ مساعي النضال ضدّ الاستعمار والعلاقات بين الشمال والجنوب.
هذا الكاتب، صاحبُ القلم الخانع والمناصر لإيديولوجيا الاستعمار والكاره للإسلام نيابة عن الغرب، لا يمتّ بأي صلة إلى المثقف «الخائن» لطبقته الاجتماعية بالمعنى السارتري. فجان بول سارتر يتحدث عن المثقّف الثوري الذي يتحرّر من الطبقة البرجوازية التي وُلد فيها كي يدافع عن الطبقات الشعبية. أمّا كمال داود، فهو مجرّد خائن بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. إنّه تجسيد كاريكاتوري للمثقّف المزيّف، المغرّد خارج السرب، الذي ينضم إلى صفوف القوى المهيمنة. فهو يخون المجتمعات الجنوبية الخاضعة للهيمنة خدمةً لمصالح الغرب؛ هو يخونُ المستضعفين خدمةً للأقوياء. إنّ هذه الخيانة التي يرتكبها صديقنا الصحافي، الذي يسعى إلى تحويل السرديات الاستشراقية المبتذلة إلى حقائق ثابتة ومطلقة لا نقاش فيها، هي التي تكرّسه كاتباً متعطشاً لنيل الرضى.
وقد فنّد الأستاذ الجامعي الجزائري عبد العالي مرداسي، في مقالات عدة، حالة الصحافي الذي يلقى نجاح الكتّاب. فأدبيات الكاتب الجوفاء حول «التحرر» (من موروثات المجتمعات المتخلّفة) ليست سوى نسخة مُجمّلة ومنمّقة عن الأحكام المسبقة العنصرية والكليشيهات المبتذلة والمهترئة، تُقدّم لنا في مقالات صحافية. وكما أشارَ المؤلف جواد رستم تواتي ببراعةٍ في نقده لكتاب «زبور أو المزامير» (Zabor ou les Psaumes)، تعكس أعمالُ كمال داود كُرهاً عُصابياً وحادّاً للذات، وهي تروّج للنيوكولونيالية بشغف قلّ نظيره، خلف قناع «العمل الأدبي». ومن الثوابت في كتابات داود الهوس في تصوير الإسلام على أنهّ دين متزمّت، والتناقض المطلق بين الإنسان الغربي، الذي يُسبغ عليه كلّ الفضائل، والإنسان العربي، الذي يُجسّد فيه كل ما في الأرض من رذائل. بغياب الحد الأدنى من العبقرية أو الابتكار في تقديم الكليشيهات، يكتب داود بنفحة روائية ليصف العرب والمسلمين بالشعوب المتخلّفة التي تتحكم بها غرائز بدائية؛ العرب والمسلمون أنفسهم الذين يشير إليهم في الصحافة بعبارات شمولية تنزع عنهم أي بُعد شخصي. هذا الإنتاج الأدبي لكمال داود ليس سوى انعكاس لأعراض «العقل المستعمَر»، على حدّ قول الكاتب أحمد بن سعادة، الذي يدفعه «حبّه للمستعمِر» و«كرهُه لذاته» إلى اعتناقِ «الأفكار الأكثر رجعية للمستعمر السابق بشكل تلقائي» وإلى «محاكاة المستعمِر لتحقيق الهدف الأمثل، وهو أن يتقبّله المستعمِر/المثل الأعلى». بحنينه المَرَضيّ إلى زمن الاستعمار، وتأليهه لدور اللغة والثقافة الفرنسيتين، ورفضه القاطع لأي ربط بينه وبين العروبة أو الإسلام، يظهر كمال داود كمثقّف تابع يتكلّم بالنيابة عن سيّده ويستورد فكره. وبفضل دوره كمحرّرٍ يعمل في خدمة الهيمنة الثقافية الغربية، يتكرّس نجاحه الأدبي ككاتب. فكما يذكر محمد بوحميدي في إحدى مقالاته، إنّ أسلوب داود، «على عكس أعمال كتّاب مثل مولود معمري ومحمد ديب، يخدم برنامجاً معيناً بدلاً من السعي إلى فهم الجزائر، هذا البلد الذي يتغيّر ويتطوّر ويبحث عن آبائه ومصادر إلهامه. لا بل إضافة إلى ميليشياويتها وخدمتها لبرنامج معيّن، فإنّ كتابات داود تأتي «غبّ الطلب»، مثل قصة «ميرسو» الشهيرة، التي وللمرة الأولى في تاريخ الأدب، أتتنا بنسخة خاصة بالشعب الأصلي وأخرى خاصة ببلاد المستعمِر».
في السنوات الـ 15 الماضية، وفيما كان العالم العربي «مسرحاً مركزياً للعمليات العسكرية» الأميركية، وإذ أباحت الولايات المتحدة وحلفاؤها كراهية الإسلام كخطاب حربي، باسم مكافحة الإرهاب، وذهبا إلى حدّ استعادة النظريات الاستعمارية البالية، جاء كمال داود ورفاقه ليسبغوا على هذا الخطاب الإمبريالي شرعية بصفتهم كـ «سكان أصليين». وفي هذا السياق تحديداً، وسط التدخلات الأجنبية وزعزعة استقرار الدول وتفكيك المجتمعات، نسب أشباه المثقّفين أسباب المشاكل الاقتصادية والسياسية في بلادهم إلى عوامل داخلية حصراً. وإذ اعتنق عقيدة العالمية الغربية كخروف يلحق بالقطيع، لم يكفّ داود عن بثّ كراهيته للعالم العربي والإسلامي، ويندّد بفساد الضمائر في تلك البلدان المريضة، على حدّ تعبيره. وبذلك، فهو يخدم بذلك، إلى حدّ الغثيان، مبرراتٍ مفترضة لعدم التوافق بين «ثقافته» وقيم الحداثة السياسية. وبلا أي معاينة نقدية للممارسات الغربية في مجال الحرية وحقوق الإنسان في العالم العربي، أعرب داود عن مدى إخلاصه وحماسته لـ «التفوق» الثقافي الغربي. فوفقاً لنظرته الجوهرانية، يعتبر داود أنّ البنى الأنثروبولوجية في العالم العربي هي السبب وراء فشل الحداثة السياسية. إذاً، فكاتبنا هو في الواقع نقيض «المثقّف الحريص على الحرية»، مولّد المعنى والمعرفة، الذي من واجبه أن يفهم مجتمعه ويفسّره ويستعرض مكنوناته وطموحاته. هذا المتعطّش للاعتراف به هو نقيض المثقّف بامتياز، بالمعنى الذي يعطيه أنطونيو غرامشي أو جان بول سارتر للمثقّف.