يعترف محمد عُضيمة في كتابه الأنطولوجي «جنّة الجواميس: وعندما اختار من شعر سعدي يوسف» (دار التكوين- دمشق) بأنه لم يكن من مريدي الشاعر سعدي يوسف (1934)، إذ لطالما نظر إلى شعره عن بعد، على أنه من مشتل بلاغي آخر لا يتلاءم مع ذائقته كقارئ. لكن مصادفة ما قادته إلى قراءة ديوان متأخر للشاعر هو «ديوان غرفة شيراز»، فأصابه في العمق لجهة الدهشة وخصوصية معجمه الجمالي وثراء مخزونه التراثي.
هكذا انكبَّ في عزلته اليابانية الطويلة، على قراءة دواوين الشاعر الأخرى بنهم، من باب الاكتشاف أولاً، وإذا به أمام ثمار شعرية بمذاق مختلف، قلبت موازينه البلاغية رأساً على عقب، فهذا شاعر يلاعب اللغة بمهارة، مازجاً معجم الشعر الجاهلي بفكرة التدوين. وتالياً، حين اختار عنوان «حفيد امرئ القيس» اسماً لأحد دواوينه، فإن ذلك لم يأتِ عبثاً أو مصادفة، إنما أتى في صميم تجربته الشعرية الثريّة بالإحالات على شعر الاسلاف، واللغة القرآنية، من موقع العارف، وصولاً إلى فكرة التدوين، كآخر تجليات الكتابة الذاتية.

ربما تكمن مشكلة محمد عضيمة مع تجارب سعدي يوسف ومجايليه، في انخراطه الكلّي كأنطولوجي بتجارب تعمل على الضفة الأخرى، تتفاوت في أهميتها وقدرتها على الإقامة والرسوخ والتأثير، فأتى مشروعه الأنطولوجي «ديوان الشعر العربي الجديد» انقلاباً فاشلاً أكثر منه حفراً في الشعرية العربية. وبناء على أوهام «قتل الأب»، أهمل طويلاً تجربة متفرّدة مثل تجربة سعدي يوسف، وها هو يكتشف مذاقها المختلف متأخراً، كما حصل قبلاً في اكتشافه حداثة أدونيس، في مختارات مشابهة. لعل الزلزال الذي أصاب الجغرافيا العربية، قد ترك أثره في ذائقة هذا الشاعر السوري الصاخب، لجهة الهتاف لتجارب بعينها بعد إخضاعها لمطحنة الهايكو وتحويل نصوص طويلة إلى شذرات خاطفة، هي، وفقاً له، بيت القصيد. هكذا عاد إلى المواقد الأولى للشعرية العربية، مبعداً عن طريقه ما هو طارئ وعابر ونيئ، لم يصمد أمام بلاغة شاعر من مقام سعدي يوسف، ما جعله يردم مسافة البثّ بينهما بلا حذر. لن نجد في مقدمته الطويلة حفراً نقدياً عميقاً في مدوّنة سعدي يوسف، وهو لا يدعّي ذلك في الأصل، إنما مجرد إشارات خاطفة تقع في باب الغفران، من إهمالٍ طويل لتجربة شاعر تمكّن من تطويع المعجم في نزهاته الطليقة كحفيدٍ أصيل للشعر الجاهلي، بوصفه النبتة الخضراء الأولى في الصحراء العربية الشاسعة، والعتبة الصلبة لتجربة سعدي يوسف نفسه، رغم افتراق نصوصه الأخيرة عن زخم البدايات لمصلحة التدوين «إنني مدوّن حياة، ولست شاعراً» يقول.

ابتكار جملة طللية معاصرة كأنها استكمال لطللية امرئ القيس

لعل هذا ما أغرى محمد عضيمة في اقتحام شعرية سعدي يوسف المتخفّفة من رطانة السائد، ورنين الإيقاع المستقر، في ذهابها إلى اليومي والعادي وصهرهما شعرياً بخلائط لغوية من مشاتل شتى بقصد «تظهير الطاقة الإيجابية للوجود والموجودات وتعميمها» وتالياً، تأجيج الحواس إلى رهافتها القصوى، ونفي «الجماليات الغيبية»، وابتكار جملة طللية معاصرة، تبدو كما لو أنها استكمال لطللية امرئ القيس، ولكن بمفردات أخرى مثل «الحانة، الحديقة، المرفأ، القلعة، المقهى».
بعيداً من تقنية الشاعر في تدوين يومياته، يرمي محمد عضيمة إلى تأكيد فكرة أخرى أكثر جذرية، حين يربط شعر «الشيوعي الأخير» بأشعار الجاهليين، قافزاً مسافة طويلة إلى الخلف، وطاوياً مفرزات الشعر الذي أتى مع انتشار الإسلام. إذ وقع هذا الشعر في ثقل رنين الغيبيات واليقينيات والخدر، في مجازفة نقدية تحتاج إلى تشريح أعمق في تبريرها، لنقل إنها مجازفة في إقصاء شعراء بالجملة، حين ينسب شاعرنا إلى سلالة امرئ القيس، وليس إلى المتنبي وأبي العلاء المعري مثلاً، من موقع «الاستئناف بعد طول توقّف أو ركود أو غياب»، و«ليس سهلاً أن تتجاوز نحو 1500 سنة من تراكم الثقافة الغيبية بهذه اللغة، وتعود إلى الجذور الجمالية الأولى» يقول. كما أنه يتكئ على الدواوين السبعة الأخيرة للشاعر فقط، فيما نرى أن شعرية سعدي يوسف الصلبة تكمن في دواوينه المبكّرة، بالإضافة إلى بعض مغامرته المتأخرة في التدوين لجهة السيولة اللفظية، وعدم التخلّي عن الإيقاع والانخراط بمشهدية اليومي والعابر بما يتوافق مع مزاج الشاعر المشّاء. من جهةٍ أخرى، يتجاهل محمد عضيمة لحظة الانعطاف الأساسية في تجربة صاحب «الأخضر بن يوسف ومشاغله» والتي أتت إثر ترجماته لأشعار كافافي، وريتسوس، على نحوٍ خاص، وتأثيرهما على نصوصه الشخصية في تلك الفترة، وعلى شعراء آخرين من أجيالٍ لاحقة، ليطيحها لاحقاً بانعطافة مضادة تتكئ على الموروث والألفاظ الوحشية مثل «وتسألني ليزا وقد أطبق الدجى»، و«عسعس الليل»، و«ألا إن نار الحيّ بعر وعرفج». وفي المقابل سنجد بعداً بصرياً واضحاً في رسم قماشة النصّ تمنح المتلقي شحنةً إضافية، في مشهديات شبه فوتوغرافية. على أن ناقدنا سيلفت إلى تأثير المنفى الأوروبي على الأغراض الشعرية في تجربة صاحب «صلاة الوثني» وقدرته على استدعاء المعجم الجاهلي بفقه جمالي مبتكر، في نسيج تدويناته، ربما كنوع من الحنين إلى المكان الأول «الجغرافيا المائية والصحراوية». كما ينوه إلى أنّ هذه المختارات لا توجز مشروع الشاعر، ولكنها تكتفي بصورة تقريبية عنه.
في «جنّة الجواميس» (عنوان أحد نصوص الشاعر)، نتوقّف مع نصوص مختارة تصل إلى 247 مقطعاً، تنطوي على ذائقة خاصة في الاختزال والكثافة، أغوت صاحبها بإنجاز مجلد ضخم للإحاطة بتجربة مكتنزة وغزيرة ومفارقة. لا نعلم من سيختار محمد عضيمة تالياً، ومن سيخضع إلى مقصلة «الهايكو» الأثيرة لديه، كوسيلة ناجعة - من وجهة نظره- في تخليص نصوص الشعراء من الأعشاب الضّارة، والفائض اللفظي، والغيبيات؟