غالباً، يكون هناك صيغتان للوثائق التي يصدرها صندوق النقد الدولي: واحدة يعدّها الخبراء ويعتمدونها في التشخيص والوصفات، وثانية تُعرض على السلطات المحلية لتنقيحها كشرط للموافقة على نشرها.في حالة لبنان، وعلى عكس الصيغة المنشورة لبيان خبراء الصندوق، في ختام بعثة مشاورات المادة الرابعة لعام 2018، لم تذكر الصيغة الاصلية (ولم تشيد) بـ"الانجازات الكبيرة" التي حققتها الحكومة، وأبرزها "إقرار أول موازنة عامة منذ أكثر من 12 عاماً"، بحسب ما ذُكر في الصيغة المنشورة، بل تطرقت مباشرة الى الحاجة لـ"استراتيجية ذات صدقية" و"إرساء إطار ذي صدقية للسياسات" يدعم الاستقرار. لقد سقطت عبارة "ذات صدقية" المتكررة من البيان المنشور، وتم استبدال العديد من العبارات. فسقطت عبارة "هشّ" لوصف الوضع الاقتصادي لصالح عبارة "محفوفاً بالتحديات"، والأمر نفسه حصل في وصف الهندسات المالية لمصرف لبنان. فالصيغة الأصلية ذكرت أنها فرضت "تكلفة باهظة"، بينما عمدت الصيغة المنشورة الى حذف صفة "باهظة".

دور البطولة

يشير صندوق النقد في بيانه المنشور الى أنه "لا مفر من إجراء عملية كبيرة للضبط المالي تحافظ على إطار السياسة الاقتصادية الحالي، الذي يقوم على سعر صرف ثابت تدعمه تدفقات الودائع الداخلة الكبيرة"، ويتابع أن ذلك يتطلب "جهوداً كبيرة". ولكن البيان بصيغته الأصلية لم يصف الجهود المطلوبة بالـ"كبيرة"، بل اعتبرها "جهوداً بطولية". فالضبط المالي المطلوب، بحسب بيان الصندوق، "لم يتحقق إلا في عدد ضئيل من البلدان"، لأنه ببساطة يعني التقشّف، أي تخفيض الإنفاق بشكل كبير وزيادة الواردات، وبالتالي يحتاج الى "جهود بطولية" لتحقيقه، لا تجرؤ معظم الحكومات على بذلها إلا مكرهةً، نظراً إلى كلفتها الاجتماعية والاقتصادية الباهظة.
الدول القليلة التي نجحت في ذلك، كاليونان مثلاً، اتبعت توصيات صندوق النقد الدولي بحذافيرها. وبالتالي، فإن الرسالة الواضحة التي أراد الصندوق توجيهها، هي: أن المحافظة على النظام الاقتصادي الحالي باتت تحتاج الى رزمة إجراءات هيكلية قاسية، على الحكومة تنفيذها، تتضمن، برأيه، مزيجاً من زيادة الإيرادات وتخفيض الإنفاق الجاري، ويوصي بأن "تصل نسبة هذا التخفيض الى 5% من إجمالي الناتج المحلي على المدى المتوسط"، أي بقيمة 3 مليارات دولار على الاقل بالاسعار الجارية، على مدى 3 سنوات. ويقترح أن يترافق ذلك مع زيادة معدلات ضريبة القيمة المضافة، والحد من الإعفاءات والرديات الضريبية، وإعادة رسوم البنزين وضرائب المحروقات إلى مستوياتها السائدة قبل عام 2012، والإلغاء التدريجي لدعم الكهرباء. وإضافة إلى ذلك، يقترح "احتواء الإنفاق المتعلق بالموظفين وإصلاح جهاز الخدمة المدنية"، وعدم اللجوء الى تنفيذ "مشروعات استثمارية كبيرة"، بما في ذلك عقود الشراكة مع القطاع الخاص، بهدف "الحد من المخاطر على المالية العامة" و"تجنب تمويل الاستثمارات العامة من مصادر محلية".

كما في اليونان

هذه الإجراءات التي يطرحها الصندوق، هي صورة مصغّرة لخططه الإنقاذية، المبنية على خصخصة المرافق العامة وتقليص الخدمات المدعومة وخفض الاجور والتقديمات الاجتماعية وغيرها، تماماً كما يحصل في اليونان حالياً. اللافت في الحالة اللبنانية، أن بعض المعلقين على بيان الصندوق يعبّرون عن أملهم بأن تُفرض هذه الخطة "الإنقاذية" فرضاً على الحكومة، بل يذهبون الى أبعد ممّا ذهب اليه الصندوق في وصفته المعهودة؛ فمثلاً، يعيب نسيب غبريل، كبير الاقتصاديين في مجموعة بنك بيبلوس، في تصريح إلى "النهار"، على خبراء الصندوق أن بيانهم "لم يتطرق الى اتساع حجم القطاع العام، وارتفاع الأعباء التشغيلية على كامل مؤسسات القطاع الخاص، وتردي نوعية الخدمات العامة، وصعوبة التعامل مع الادارات العامة". بهذا المعنى يتم الدفع الى "خطة إنقاذية"، على غرار ما فُرض على اليونان، تستجيب لهواجس غبريل، أي لا تكتفي بالاجراءات القاسية المقترحة على صعيد زيادة الايرادات، بل تعمد الى تخفيض الأجور والمعاشات التقاعدية في القطاع العام بنسبة 40%، وخصخصة معظم المرافق العامة، وغيرها من الاجراءات التي جعلت اليونان جنّة بنظر المستثمرين وجحيماً للآخرين، ولا سيما الذين يتّكلون على خدمات الدولة في شكل كبير لتأمين معاشهم.
يهلل الجميع الآن لطرح السياسات التقشفية، وهي الوصفة الرامية الى تحميل عموم الناس كلفة المحافظة على النظام القائم، من دون أي تغيير. فكل الحديث الجاري تحت عنوان "الخطة الإنقاذية" لا يعني إنقاذ البلد، بل إنقاذ الدائنين، عبر ضمان قدرة الحكومة على مواصلة تسديد ديونها، وهذا في صلب أهداف الصندوق والمصالح التي يدافع عنها.
التقشف يحتاج الى ‹جهود بطولية» نظراً إلى كلفته الاجتماعية والاقتصادية الباهظة


صندوق النقد: شريك لا مراقب

يحاول الصندوق دائماً أن يقدّم نفسه كمراقب وليس كشريك. ولكنه، في الواقع، لم يوفّر فرصة لمديح أداء لبنان الاقتصادي ومصرفه المركزي في جميع تقاريره المنشورة، وهو ما يشكل مؤشراً واضحاً على إعجابه بالنموذج اللبناني لا العكس، ولا سيما ما يسمّيه "الثقة"، التي يتمتع بها النظام المصرفي، والتي يعبّر عنها بازدياد الودائع. يقرّ خبراء الصندوق بأن معضلة النمو في هذا النموذج أنه ينجم من عوامل خارجية لا داخلية، ولكن لا يقدّم أي توصيات لفك هذا الارتباط، بل على العكس، يطرح إجراءات تهدف الى المحافظة على النموذج نفسه، بما يضمن استمرار التدفقات المالية.
وفقاً لتقارير الصندوق، يتحدّد نمو الناتج المحلّي في لبنان على أساس عوامل، معظمها متصل بالنشاطات العقارية والسياحية، وهي تتأثر كثيراً بتدفق الرساميل، ولا سيما تحويلات المغتربين وإنفاق السيّاح. وعلى الرغم من هذا الإقرار بأن تباطؤ النمو أو تسارعه يأتي على وقع الطلب الخارجي، إلا أنه يوصي دائماً بتقليص العجز الحكومي وحجم القطاع العام، من أجل التعويض، بدلاً من اتخاذ إجراءات تجعل الطلب الداخلي يلعب دوراً أكبر في العملية الاقتصادية.
هكذا، يظهر هاجس خبراء الصندوق متماهياً مع هواجس الدائنين، فالمهم أن تبقى الحكومة قادرة على تسديد خدمة الدين. وهذا ليس مفاجئاً، ما دام النموذج يقوم على تدفق الرساميل، وهو يحتاج الى تعزيز ربحية المصارف ودفع الفوائد العالية في آن واحد.



92%

من القروض الإنقاذية البالغة 284 مليار دولار التي أعطيت لليونان منذ عام 2010، ذهبت الى المصارف والمؤسسات المالية اليونانية والأوروبية


العباءة الأيديولوجية

يقدّم صندوق النقد الدولي توصيات شبه ثابتة للبلدان النامية، بغض النظر عن اختلاف تقييم أوضاعها الاقتصادية أو سياقاتها المحلية، وهو بذلك يطوّع الواقع ليخدم أيديولوجيته وليس العكس. فأينما حلّ يوصي بالآتي: إلغاء القيود على حركة الرساميل، تعويم العملة، استخدام الأدوات النقدية كرفع نسبة الفائدة لضبط التضخم، تخفيض الإنفاق العام وتقليص حجم القطاع العام وإلغاء الدعم. وفي الكثير من الأحيان تأتي هذه التوصيات مناقضة لتشخيص الصندوق نفسه للواقع الذي يتعامل معه.
يتبع الصندوق تعاليم "المدرسة النقدية" في الاقتصاد، وهي أحد تيارات "النيوليبرالية"، التي تعتبر النقد وحده هو المهم، ولذلك، تتبنى السياسات القائمة على التحكّم في عرض النقود (العملة) والطلب عليها للتأثير في نسب التضخم وتأمين النمو. وهي سياسات تتولاها المصارف المركزية تحديداً، وتعتمد معدلات الفائدة كأداة رئيسة لها.
بالنسبة إلى هذه المدرسة الاقتصادية، فإن السياسات المالية ليست ذات أهمية، وفي أغلب الأحيان، هي مضرّة، ولا سيما إذا كانت تعتمد على الإنفاق الحكومي. وقد جاءت تعاليم هذه المدرسة كاعتراض على المدرسة الكينزية، أو ما يسمى اقتصاد جانب الطلب، التي تم اعتمادها على نطاق واسع بعد الحرب العالمية الثانية.
ترى المدرسة الكينزية أن الإنفاق الحكومي أساسي لمواجهة الركود الاقتصادي، إذ تستطيع الحكومة تحفيز الطلب عبر زيادة الإنفاق، من خلال الاستثمارات والأشغال العامة، ويمكنها المحافظة على الطلب من خلال السياسات التوزيعية على شكل الضريبة التصاعدية والتحويلات الاجتماعية. إلا أن المدرسة النقدية تعارض ذلك بشدّة، وترى أن الإنفاق الحكومي يزاحم الاستثمارات الخاصة، ويخلق عجزاً عامّاً، ويؤدي الى ارتفاع التضخم. لذلك، تصرّ على أولوية التحكم في عرض النقود واستخدام السياسة المالية كداعم للسياسة النقدية، لا العكس، وتقترح تحرير سعر الصرف في حال وجود عجز كبير في الميزان التجاري. فتعويم العملة، وبالتالي انخفاض قيمتها وفق آليات السوق، سيؤثر على العرض والطلب في التجارة؛ فمن ناحية سيخفّ طلب المستهلكين على السلع المستوردة نتيجة ارتفاع أسعارها، وستتعزز تنافسية السلع المصدّرة في السوق العالمية من ناحية أخرى، إذ إن التبادل يحصل في العملات الأجنبية التي ستكون قد ارتفعت قيمتها بالنسبة إلى العملة المحلية، ما يخفف من العجز التجاري. وفي هذا السياق، لا تولي المدرسة النقدية أي أهمية للسياسات الاجتماعية، إذ إن السوق، برأيها، سيتولى مهمة معالجة الاختلالات الحاصلة، ويمكن للجميع السعي وراء رفاهيته في السوق الحرّة ومن دون تدخل الدولة.