ملاك الغليظ: ستائر الظلمة



أطفأت ملاك الغليظ شمعتها الخامسة عشرة داخل سجن هشارون. الأسيرة المحرّرة الأصغر سناً لم تعد طفلة. كبُرت أعواماً كثيرة خلال الأشهر السبعة التي قضتها في الأسر. قبل ذلك، لم تكن تعلم ابنة مخيّم «الجلزون» أنّها ستسجن يوماً من أجل قضيتها. مع ذلك، تفتخر اليوم بـ«تهمتها»: حيازة سكين. تتذكر الأسيرة المحرّرة أصعب لحظاتها في السجن، فتقول بأن أقسى أنواع الذل كانت «حفلة» التفتيش العاري، التي بدأت بعدها حكايتها في الغرفة رقم تسعة في المعتقل.
في تلك الغرفة، شاركت الغليظ معاناتها مع أربع أسيرات أخريات. كانت تستفيق في الصباح على صراخ النساء من غرف الجنائيّات، وعلى تطفّل السّجّانات خلال جولة الـ«سفيغة»، أي جولة تعداد الفتيات للتأكّد من أنّ واحدةً منهنّ لم تهرب.
الفرصة، أو كما تسميها الغليظ «الفورة»، هي الأمر الوحيد الذي كانت تنتظره يومياً، كما تنتظر «الأمل بالخروج»، تقول. سبعة أشهرٍ، وجدت خلالها الصبية ضالتها في قراءة الكتب. وكانت رواية «ستائر العتمة»، الأقرب إلى قلبها وفكرها. تقول «استمدّيت القوة والصمود من الأسير الذي هو بطل الرواية». تستعيد بعضاً من أحداث تلك الرواية، محاولة التقاط نقاط التشابه فيها مع معاناتها. تعلّمت التطريز. حضرت صفوفاً لتعلّم اللغة الإنكليزية. حاولت التأقلم مع ظلمة السجن. وكانت في كل مرة تفعل ذلك، تقول «كرمال القضية». ولأن هذه القضية تستحق التضحية، تضامنت وصديقاتها مع الأسيرين محمد ومحمود البلبول ـ اللذين أضربا عن الطعام ثمانين يوماً ـ عن طريق «تسكير الغرف» لمدّة أسبوع، وعدم التواصل مع السجّانات الإسرائيليات، ورفض الحصول على أيّ من المنتوجات والطعام الذي يعدّ في السجن.

«الأخوة البلبول»: أبناء الشهيد



في الثالث عشر من نيسان عام 2016، دخلت نوران البلبول (الصورة)سجن هشارون بتهمة «ابنة الشهيد». بدل من أن تذهب، صباح ذلك اليوم، إلى المدرسة برفقة صديقاتها، سلكت طريقها إلى غرفة التحقيق، معصوبة العينين برفقة شرطة الاحتلال. تتذكر المحرّرة من الأسر أنها دخلت السجن بسبب إصرار المحقق الصهيوني «على كسر عزيمتها». تقول «بكيت كثيراً وعلا صراخي أكثر بعدما أُجبرت على مشاهدة فيديو إطلاق الرصاص على أبي». تتذكر الصورة وكأنها تحدث للتو، ثم تقول « رأيت أبي وهو يموت». بعد التحقيق، دخلت ابنة الخمسة عشر عاماً الغرفة رقم 17، وفي قلبها صورة أبيها. جملة واحدة تجول في رأسها «عليّ أن أكون قويّة وأناضل كما فعل أبي».
«غابة مليئة بالوحوش»، ثلاث كلمات تصف من خلالها نوران السجن والسجانات اللواتي نثرن العتمة في عيون الأسيرات. تتذكر حال المعيشة داخل أربعة جدران: الحياة الصحية منعدمة. الرطوبة عالية. حشرات وفئران في زوايا الغرفة. شتائم. ذاكرتها مثقلة بالحزن. يزيدها حزناً حادثة اعتقال شقيقيها محمد ومحمود. يومذاك، أعلنت إضرابها عن الطعام، لكنها لم تصمد أكثر من يومين، في حين استمرّ أخواها بالإضراب مدّة 85 يوماً، فقد خلالها محمد بصره، وعانى محمود من شلل نصفيّ من تداعيات إضراب «ماء وملح».
كانت «الفورة» فرصتها الوحيدة للخروج من عتمة سجنها. خلال تلك الاستراحة، كانت تتذكر أمها الوحيدة على مائدة الإفطار بلا أبنائها. خرجت البلبول من السجن بنصف حرية، إذ فرض الاحتلال عليها البقاء في السجن لمدة شهر. فعلت ذلك، «لأن فلسطين بدها، وضريبة الوطن غالية».

«آل أبو حميد» وثلاثون عاماً من الانتظار



مرت ثلاثون عاماً، ولم ينته الانتظار. لا تزال لطيفة أبو حميد، الملقّبة بـ«خنساء فلسطين» على موعد لم يأتِ حتى هذه اللحظة. موعد خروج أولادها الأربعة من المعتقل. لكنها، طوال فترة الانتظار، لم تبك مرة واحدة. اعتادت أن تقاوم إلى جانب أبنائها الأربعة المحكومين بالمؤبد والخمسة المحررين.
حفظ جنود الاحتلال في السجن وجه «أم ناصر» واعتادوا زيارتها. عند طلب الزيارة يكفي أن تسجّل اسم ناصر، حتّى ينده السّجّان لـ«آل أبو حميد». 45 دقيقة فقط، هي المهلة التي تتحدّث خلالها مع أبنائها عن أحوالهم ويسألونها عن صحّتها. عن البيت. عن رام الله. عن كل الحياة خارج ذلك السور.
«لم يعد هناك أكثر من المرارة التي مررت بها»، تقول أم ناصر، مؤكّدة أنها «ومهما طالت فترة الأسر ستبقى السنديانة التي منها يستمدّ أبناؤنا العزيمة والصبر». تتنهّد، ثم تقول «فلسطين تستاهل نضحّي كرمالها».

ثلاجة الموتى

ثمّة ما هو أقسى عذاباً من السجن: الطريق التي تسلكها الأسيرات وصولاً الى المحكمة، أو التي يسمينها «ثلّاجة الموتى». العذاب هو في مدّة الرحلة في البوسطة، والتي تتخطى في بعض الأحيان 20 ساعة ذهاباً وإياباً.
البوسطة مقسّمة من الداخل الى غرف صغيرة بجدران حديدية، لا تكاد تتّسع لكرسيّ صغير. شديدة البرودة. تجلس الأسيرة داخلها من دون أن تتمكّن حتّى من طلب المياه في حال العطش. وبين كل أسيرة وأخرى جدار زجاجي عازل للصوت. وحده صوت الجنزير الذي يقرع باب الغرفة هو ما تسمعه الفتيات، كأشدّ نوع من العذاب النفسيّ.