ينتج العمّال القيمة المضافة عبر عملهم الذي يضعونه في المنتج ويتحول مالاً يستفيد منه صاحب المعمل ويحتكره تحت تسمية الأرباح. وإن اعتبرنا أعضاء الجسد البشري عمالاً في مصنع وفي حركة دائمة، وجب التساؤل عن القيمة المضافة التي تنتجها هذه الحركة على الصعيد الإنساني، وعمن يحتكر هذا الإنتاج. يتم إعطاء الأعضاء ما يكفيها لتجديد قوتها، والاستمرار بالعمل عبر الطعام والشراب. لكن القيمة المضافة الإنسانية التي ينتجها الكائن البشري على صعيد الوعي العاطفي والعقلي، لا يتم استثمارها في خدمة تحرر هذا الكائن البشري لتنطلق به الى أبعاد أعلى في الفضاء الإنساني.هذا المدخل يصلح لقراءة وتقييم أي عمل إنساني على الصعيد السياسي أو الفني أو العقائدي وفي مختلف تجليات الوعي البشري. لكن سنستخدمه هنا لقراءة الحركة المسرحية في لبنان انطلاقاً من عملين يعرضان حالياً هما «حكي رجال» للينا خوري و«من كفرشيما للمدفون» ليحيى جابر.
عندما ينضج العقل، ينبذ فكرة المظلومية، فلا مظلومية في الحياة، بل قواعد علمية تخلق الأحداث وتوزع الأقدار على الصعيد الفردي والجماعي. يحلّل العقل الناضج المشكلات بعد اكتشافها بهدف استنباط الحلول ورسم أفقها، وكما قال روجيه غارودي: «إنّ الوسيلة هي غاية في طور التمخض».
وسيلة المظلومية في الحياة إن سلكها العقل، ولّدت غاية العجز ورفع المسؤولية عن النفس في رسم أقدارها. وهذا ــ بحسب التحليل النفسي ـــ انغماس في الطفولة والإصرار على متعتها الإدمانية، ما يمنع الفرد من النضوج والارتقاء على الصعيد العاطفي والعقلي، فتحيله بنظر نفسه من فاعل الى مفعول به ومن مسؤول إلى إنسان فاقد حسّ المسؤولية.
في أوائل طفولته، يكتسب الإنسان وعياً مادياً تنمو متعته عبر حاجاته المادية كالطعام والشراب والجنس. والمال اختصار لهذه الحاجات. مع نضج هذه الأنا، يولد الوعي العاطفي الذي يتجسد في تعريف النفس عبر أحاسيسه وعواطفه وانتماءاته. ثم مع تطور التجربة وبعامل العمر، يتمخّض عنه الوعي العقلي حيث يعي الإنسان فرديته ومسؤوليته عبر أيجاد الحلول لمشاكله ومشاكل الوجود الذي ينتمي إليه. إن تم قمع هذا الأنا في مراحل تطوره، غرق في فكر المظلومية الذي يريحه من ذنب الهروب من المسؤولية ويسمح له بالاستمتاع بوعيه المادي فقط، فيصبح كالمدمن على المخدرات الذي كلما أصرّ على إدمانه، كلما غرق في متعته هارباً من تحمل مسؤولية واقعه الذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
نحن نعيش في حضارة عجزت عن توليد غايتها الإنسانية، فتعامت عن واقعها وغرقت في متعها الاستهلاكية الطفولية. حين أصبح الاستهلاك معيار النجاح، كطفل سعيد بامتلاء بطنه، أصبح الإنسان الناجح هو من اشترى السيارة والبيت وحصّل المزيد من المال. وكلما زاد استهلاكه زاد معيار نجاحه، فيسود البؤس في الواقع وتتسلل المظلومية الى كل الميادين: على الصعيد السياسي، تتنافس الأحزاب في إظهار مظلوميتها وتتبارى في من يحصد مظلومية أكبر، ينافسها مَن يسمى «ناشطو المجتمع المدني» حين تبلغ ذروة نشاطهم السياسي تعرضهم لعنف «ملطف» من القوى الأمنية، مثلهم مثل الأفراد الذين يعرضون مظلوميتهم بشكل مستمر وينتظرون أي حادث للاستمتاع به من سعر الجنارك إلى انقطاع الكهرباء إلى أي قضية تهم الشأن العام. على الصعيد الاقتصادي، يتنامى الدين العام ويقترب الانهيار الاقتصادي ولا من مسؤول. البيئة أصبحت سرطان العصر والكل مطمئن لأرباحه. تُزرع المظلومية للجماعات ليحصد الأرباح بعض الأفراد.
من الطبيعي أن يكون الفن جزءاً من هذه المنظومة التي شكلت الأفراد. لكن حين ينبري الكاتب والمخرج والممثل لخشبة المسرح، فلا يجب أن يكون أمامه إلا خيار الوقوف أمام المنظومة ومحاولة طرح حلول، وإلا فالتواطؤ على الواقع والانسياق وراء مفرداته.
حين نقل زياد الرحباني واقع الشارع إلى المسرح، لم يفعل هذا بهدف النقل للنقل أو الفن للفن. لقد استعمل قدراته الفنية لنقل الشارع إلى مشرحة المسرح حيث عرّاه وأضاء على تناقضاته، مقدماً أمراضه بشكل كوميدي عميق وخال من فكرة المظلومية، كما يفعل المعالجون النفسيون عندما ينقلون تناقضات اللاوعي إلى الوعي ليسمحوا له بالتحرر من أوهامه.
في مسرحية «حكي رجال»، حاولت لينا خوري نقل واقع الشارع الذكوري، ونجحت في الإضاءة على بعض الجوانب من حياة الرجل، كالمتزوج الغني الذي يمضي وقته في تحصيل المال لإسعاد زوجته وأولاده، أو الفقير الذي يعمل 18 ساعة يومياً لإعالة عائلته وأبيه المريض، أو الشاب الذي يسعى وراء الفتيات لكنه يقع ضحية استغلال إحداهن وهو خجول يعجز عن التعبير عن مشاعره، فيستبدلها بالسعي للجنس، أو الشاب المخدوع من صاحبته التي تخونه وتفرض عليه رجولته الانتقام... لكنّ النص غرق في أحاديته حين وقع في فخ المظلومية التي عانتها الشخصيات طيلة الوقت، فعجز عن تقديم القوى المحركة للواقع الذكوري. لو أردنا رسم شخصية الثري الذي يمضي حياته في العمل وينتج لعائلته، واستبدلنا العِلم بدل المظلومية، لكان رجلاً يعمد إلى الإغداق المالي على عائلته لارتباطه العاطفي بمعشوقات يمارس معهن لا نضوجه العاطفي، حيث يكون الجنس خالياً من المسؤولية تجاه الآخر. هكذا يعيش نضوجه المادي مع عائلته عبر الالتزام العائلي ولا نضوجه خارج المنزل، مما سيضعه أمام خيار التغيير وتحمّل المسؤولية وممارسة الحب تجاه زوجته أو البقاء مشرذماً بين حيوات كثيرة.
كانت الكوميديا في المسرحية جميلة وخفيفة، وعرض الشخصيات ذكياً ومتنوعاً، لكنّ المسرحية سقطت في فكر المظلومية.
«من كفرشيما للمدفون»، محاولة للإضاءة على واقع المجتمع المسيحي خلال الحرب الأهلية من خلال عيون فتاة مارونية نشأت في عين الرمانة. هربت خلال الحرب إلى بعبدا، ثم تزوجت محامياً من طائفة الروم الأرثوذكس من الأشرفية، وأنجبت منه فتاة سافرت إلى فرنسا لتتعلم هناك.
تداخل العام بالخاص في المسرحية. من خلال حياة لورا (نتالي نعوم)، أضاء يحيى جابرعلى التناقض بين الطائفتين، وعدّد الحروب التي شهدتها المنطقة، والضحايا الذين سقطوا خلالها. أضاء على واقع التناقص الديموغرافي المسيحي، ليصل من خلال حادثة اكتشاف الزوجة خيانة زوجها لها مع صديقتها المقربة، إلى لجوء الزوجة لمار شربل كحبيبها الأزلي. وفي هذا محاولة تفسير ربما للارتباط بالدين بسبب الإحباط المستمر في الواقع المعاش.
نقل زياد الرحباني واقع الشارع إلى المسرح، عرّاه وأضاء على تناقضاته


عبر وعيه المادي، نجح جابر في رسم الشخصيات، فرسم ظواهرها عبر إبراز النظرة المشوّهة للآخر (المسلم)، وتعداد الأحداث التي حفرت في الذاكرة المسيحية الجماعية. لكنه عجز عن استعمال وعيه العاطفي والعلمي ــ المفقود أصلاً في مجتمعاتنا ــ للخوض في حقيقة هذه الشخصيات وإعطائها أبعادها الحقيقية التي تصنعها في الواقع. اختصر نمو الفتاة بمشاهدتها فيلماً جنسياً وجدته في خزانة والدتها وتساؤلها الدائم عن الجنس أكان في مدرسة الراهبات التي أعطتهن دروساً عن إنجاب الأطفال، أو في أحاديثها مع رفيقة طفولتها. حتى إنّ مسيرتها كامرأة تختصرها الخيانة الجنسية التي مارسها زوجها، فلم تظهر لشخصيتها أبعاد عاطفية أو اجتماعية، حتى في علاقتها مع ابنتها الضائعة بخياراتها الدراسية في فرنسا. حياة تدور حول المتخيل والمعاش الجنسي (وفي هذا ربما تجسيد لفكرة لاواعية كانت مغروسة في العقل الجمعي لسكان بيروت الغربية تقول إنّ بيروت الشرقية منطقة متحررة جنسياً، مما جعلهم يؤطرون الفتاة المسيحية في الإطار الجنسي)... بدلاً من أن تكون علاقتها بزوجها مدخلاً لتشريح البلد، بخاصة في زمن الحرب حين انهارت الدولة وحكمت الميليشيات فأهانت وتحكمت. ألم يوجد هناك أيضاً أجمل الأمهات؟ وحين أصبحت الهجرة هاجساً في الواقع المسيحي والخوف على الوجود والمستقبل دفع الجميع إلى خيارات صعبة، كما أنّ العامل الإسرائيلي والفلسطيني لعبا على الوتر السياسي بشكل دائم، بالإضافة الى الفقر الذي أصاب بعض الشرائح الاجتماعية خصوصاً أثناء مرحلة انهيار الليرة في عهد الرئيس أمين الجميل، وعوامل كثيرة حكمت هذا المجتمع ولم نجد لها أثراً في حديث المحامي الساكن في الأشرفية وزوجته لور. فقد قدمتهما المسرحية كمراهقين تجمعهما فقط علاقة جنسية قائمة على المداعبات المثيرة لضحك الجمهور.
كالعادة، تتسلل المظلومية إلى العقول وتتجسد في النص، فتمنعه من التطور والوصول إلى نضوجه. كانت حادثة الخيانة التي مارسها الزوج تجاه زوجته لورا، هي المتن التي حُمّلت عليه المسرحية لإثارة العواطف من دون أن ينتج عن هذه الخيانة أي تحليل أو تطور درامي يخدم القصة. علماً بأنها حادثة عابرة للطوائف. كما أن كثرة استعمال الأغاني في سياق المسرحية، أثقلت النص وأدخلته في نوع من الاحتفالية التي لا تخدم التطور الدرامي للقصة.
لا نريد تحميل المسرحيين مسؤولية إصلاح العالم. هم في النهاية منتوج منظومة العصر. امتلكوا حساً كوميدياً متطوراً استعملوه في قراءة الواقع، فعرضوا على المشاهد حياته بشكل مسل وأخبروه حكايته من دون أن يضيفوا الوعي الذي يحتاجه كي يتطور، محتفظين بالقيمة المضافة، مما جعلهم ناجحين بمعايير هذا العصر.
العمر هو القيمة الحقيقية التي يملكها الإنسان. هو وقود نستهلكه إما للغرق في المتع المادية أو لإنتاج الوعي الذي تتولد منه المتع الوجودية. وهكذا في العودة الى المسرح، عملت أعضاء الجسد عند المشاهد لمدة ساعتين من دون إنتاج الوعي المطلوب، بل أنتجت أرباحاً لمن عرف كيف يجذبها بالمتعة التي قدمها لها.
ما يحدث في الفن يحدث في السياسة والاقتصاد والطب وفي شتى المجالات. لذا فلينظر كل منّا إلى المرآة، وليراقب قلبه متسائلاً: هل أنا مسؤول؟

* «حكي رجال»: حتى 31 آذار (مارس) ــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/753010
* «من كفرشيما للمدفون»: حتى 29 آذار (مارس) ـــ «تياترو فيردان» ـ للاستعلام: 01/800003