شهدت لاءات إسرائيل وخطوطها الحمر، تجاه الساحتين اللبنانية والسورية، تنامياً وتراكماً ملحوظين خلال السنوات القليلة الماضية، من عمر الحرب السورية. تنامٍ يعبّر في حد أدنى عن إخفاق إسرائيلي في فرض اللاءات، و/أو عن قصور في مواجهتها. مع ذلك، إخفاق إسرائيل وقصورها لا يعنيان استسلامها.إن لم يكن بإمكان إسرائيل التصدي ومنع تشكل التهديدات، أو تناميها، فبالإمكان تحقيق جزء من التصدي. وهذا ما تقوم به، رغم عدم كفايته: ضد حزب الله وتعاظم تسلحه؛ وضد الوجود العسكري الإيراني في سوريا؛ وضد الدولة السورية نفسها وإعادة ترميم قدراتها العسكرية، التي يشار إليها بين الحين والآخر كخط أحمر إضافي للخطوط الحمر الإسرائيلية المتنامية والمتكاثرة عبر السنوات الماضية.
وإضافة إلى الجهد الخاص في التصدي، تحاول تل أبيب، وهو أمر غير مخفي، دفع الآخرين في الساحتين، الى تحقيق النتيجة المتعذرة. لكن ما يحول دون ذلك، إلى الآن، وجود مروحة واسعة من السيناريوات والفرضيات، يتداخل فيها المعطى الإقليمي بالدولي، يحول حتى الآن دون خروج خيار تحقيق المصلحة الإسرائيلية عبر طرف ثالث. فالمنازلة باتت دولية أكثر من كونها إقليمية، رغم أن ساحة المعركة إقليمية بامتياز. وتعاني المقاربة الإسرائيلية في السنوات الماضية، وتحديداً ما يتعلق بإعلان الخطوط الحمر والالتزام بها، وكذلك توصيف التهديدات، عدم وضوح ولغط يتكشفان تباعاً في مواقف إسرائيل وتصريحاتها، وكذلك في أفعالها وامتناعها أيضاً عن الأفعال. لغط لا يستند إلى قصور في فهم التهديدات أو تشخيصها، أو ربما مساراتها، بل إلى واقع الساحتين اللبنانية والسورية اللتين بات تهديدهما أوسع وأكبر، من قدرة إسرائيل على مواجهته.
قبل يومين فقط، كمثال جديد على «اللغط»، شدّد وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، على أنه «لن يكون هناك وجود إيراني عسكري في سوريا، لأننا لا نتكلم فقط، بل نقصد ما نقول». وكلام ليبرمان الذي ورد في مؤتمر نظمته صحيفة «يديعوت أحرونوت» جاء قطعياً في التعبير عن مصلحة إسرائيل، لكنه موضع شك في التعبير عن أفعالها. هذا ما أكده رئيس الاستخبارات العسكرية المنتهية ولايته، أمس، هرتسي هليفي، الذي شدد في المقابل، وعلى نحو نقيض، أن «التحدي الكبير الماثل أمام إسرائيل هو بيئتها الإقليمية المتغيرة، بدءاً من استمرار إيران في تركيز سيطرتها في سوريا، مروراً بوسائل تسلح حزب الله...». تصريح ثان، حرفي ومهني، ناقض مضمون التصريح الأول، وأكد على إخفاق في فرض الخطوط الحمر، رغم تكرار الإعلان عنها والتمسك بها.
كبرت الخطوط الحمر في سياق استراتيجية «المعركة بين الحروب»


وكبرت الخطوط الحمر الإسرائيلية وترعرعت، في سياق وضمن استراتيجية «المعركة بين الحروب»، التي تهدف إلى منع تمكين واقتدار الأعداء وتأجيل الحرب المقبلة قدر المستطاع، طالما أنه بات من المتيقن أن لا انتصار فيها. الخطوط الحمر جاءت تعبيراً عن هذه الاستراتيجية وهي الترجمة العملية لها. لكن كما يتضح، بل بات واضحاً، لم تؤد المطلوب منها، ولم تحقق أهدافها. الخطوط الحمر فشلت، وأضيف إلى الفشل خطوط حمر جديدة.
بعد مدة قصيرة من بدء الحرب في سوريا، أعلنت إسرائيل عن خطين أحمرين، قالت إنها لا تسمح بتجاوزهما: تسلح حزب الله بسلاح كاسر للتوازن من سوريا وعبرها؛ وانزلاق السلاح الكيميائي السوري لحيازة حزب الله وغيره. أضيف للخطين خط ثالث في وقت لاحق، على لسان وزير الأمن في حينه، موشيه يعلون: المسّ بالسيادة الإسرائيلية، وكأن معناه شنّ عمليات انطلاقاً من الأراضي السورية على حدود الجولان المحتل.
وراهنت إسرائيل طويلاً على إمكان إسقاط الدولة السورية، في ظل تعذر قدرتها الذاتية على فرض مصالحها بنفسها. إخفاق المسلحين ورعاتهم، أعادها إلى المربع الأول، ليس في مواجهة إخفاق فرض الخطوط الحمر الثلاثة وحسب، بل مع توسع فيها لتشمل تهديدات أكبر هي نتيجة طبيعية لنجاح الدولة السورية وحلفائها ضد خطة إسقاطها وما كان سيليها.
الخيارات الإسرائيلية لفرض مصالحها محدودة جداً، كما بات معروفاً، رغم كل القدرة العسكرية الموجودة في حوزتها. لا يتعلق الأمر بقدرة على شن هجوم أو هجمات، بل على مرحلة ما بعد شن الهجمات وعلى قدرة تحقيق النتائج وعلى تحمل التبعات في أعقابها. الساحة السورية متشعبة وتتداخل مصالح الأطراف فيها إلى الحد الذي يمنع المغامرة الإسرائيلية فيها، ويدفعها قسراً إلى الاكتفاء بهجمات قاصرة عن تغيير المشهد أو مواجهة كاملة للتهديدات.
على ذلك، وانطلاقاً من محدودية القدرة، وانطلاقاً أيضاً من عدم قدرة إسرائيل على الاستسلام والتعايش مع واقع التهديد المتشكل في سوريا، تسعى تل أبيب إلى دفع وتحفيز توسيع التدخل العسكري الأميركي لتحقيق ما تعجز عنه بوسائلها وقدراتها الذاتية. هذا الرهان لا يستند فقط إلى قدرتها على الإقناع، بل إلى المصلحة الأميركية المباشرة، المعلن عنها من قبل الإدارة الحالية، في صد وإرجاع نفوذ أعداء إسرائيل في سوريا ولبنان إلى الخلف: إيران والدولة السورية وحلفاؤهما. الأمر الذي لا يتحقق، بحسب الرؤية الإسرائيلية، من دون تدخل عسكري أميركي أوسع واشمل، وأكثر عدائية ومباشرة، في الساحة السورية، رغم كل المحاذير التي منعت هذا الخيار، حتى الآن.
هل يتحقق لإسرائيل ذلك؟ يبدو أن الرهان قائم بالفعل، بل معلن عنه في أكثر من موقف وتسريب، وتخاض الاستعدادات بناءً عليه. هذا كله، رغم ما يكتنف هذا الرهان وإعلانه، على عدم يقين وعلى معقولية عدم تحققه فعلياً. وذلك أيضاً رغم كشفه المؤذي لمكانة إسرائيل واقتدارها، لمحدودية قدرتها على خوض المواجهة منفردة ضد أعدائها.