لندن | لم يكن أحد ليتصور أن جريدة بريطانيّة مرموقة مثل «ذي غارديان» ستنتهي يوماً بافتتاحيّة عنوانها «تعالوا إلى البرلمان يا شين فين، لتنقذوا إيرلندا... وبريطانيا». فالجمهوريّون الإيرلنديون تبنّوا سياسة مقاطعة جلسات التصويت في البرلمان البريطاني منذ أكثر من مئة عام، بداية من أوّل نائب لهم (جوزيف ماجينييس في برلمان 1917)، والتزموا بتلك السياسة بتجرّد عبر العقود، بل وقاطعوا جلسات برلمان الجمهوريّة الإيرلنديّة نفسه لكونه انعقد بعد تقسيم إيرلندا إلى شماليّة وجنوبيّة. لكن ظروف اللحظة التاريخيّة التي تعيشها المملكة المتحدة اليوم، والتي قد لا تتكرر، وضعت أوراق قوة حاسمة في أيدي سبعة من نواب «شين فين» المنتخبين للبرلمان البريطاني عن إيرلندا الشماليّة، بحيث يمكنهم نظرياً قلب الطاولة في لندن على الجميع: ضد «البريكست»، ولإسقاط حكومة المحافظين التي تحكم بأغلبية هشّة، ومن ثم منح اليساري جيريمي كوربن، وهو زعيم «حزب العمال» المعارض، فرصة تشكيل حكومة بريطانيّة جديدة تعيد ترتيب أوراق العلاقة مع أوروبا وتفتح البوابة لإجراء استفتاء تاريخي على إعادة توحيد الجزيرة الإيرلنديّة كجمهوريّة موحدة.هذا السيناريو ليس مجرد تفاؤل أو أحلام يقظة، بل هو نقاش مفتوح في الكواليس في لندن وبلفاست ودبلن في الوقت ذاته، ولا تبدو بروكسل غافلة عنه في حال، وقد لا يمنع تحققه سوى تمسك الجمهوريين الإيرلنديين الحرفيّ بمواقفهم الأيديولوجيّة القاضيّة بعدم أداء قسم الولاء لملكة بريطانيا، وهو شرط امتلاك النواب لحق التصويت. وقد علّق وزير في الحكومة لصحيفة «ذي تايمز» البريطانيّة على هذا السيناريو، قائلاً: «إذا التحق نواب الشين فين بالبرلمان، فستكون تلك طامة كبرى لنا».
أغلبيّة حكومة تيريزا ماي الهشّة في البرلمان الحالي (13 صوتاً)، فتحت الباب بالطبع لمثل سيناريو كهذا، إذ بعد الانتخابات المبكرة الأخيرة التي دعت إليها وانتهت إلى تآكل أغلبيتها في البرلمان، اضطر الحزب الحاكم من أجل البقاء في السلطة إلى التحالف مع حزب «الوحدويين الديموقراطيين» اليميني في إيرلندا الشماليّة (10 نواب) وذلك في مقابل فاتورة باهظة قيمتها بليون جنيه استرليني ستدفعها تيريزا ماي للحكومة المحليّة في بلفاست من جيوب دافعي الضرائب البريطانيين. هذه الأغلبيّة قد تتطاير إذا أقسم نواب «الشين» الولاء للملكة، إذ إنّ برلمان ويستمنستر مقبل هذا الربيع على تصويت بشأن «البريكست» تحديداً، وهو أمر يتسبب في استقطابات حادة عابرة للأحزاب: فبعضٌ من نواب «العمّال» مثلاً قد يصوّت إلى جانب تيريزا ماي، لكنّ عدداً أكبر من معارضي «البريكست»، في
حزب المحافظين الحاكم، يتجهون بدورهم إلى التصويت ضدّها. وبحسبة بسيطة، وبإضافة أصوات نواب الـ«شين فين»، فإن تيريزا ماي قد لا تنال ثقة المجلس على سياسة أساسيّة لمستقبل البلاد، فتضطر ساعتها إلى الاستقالة، وبالتالي استدعاء الملكة لكوربن لتشكيل حكومة ستبنى حول قواسم مشتركة لجبهة عريضة من «العمال» والـ«شين فين» و«الخضر» و«الليبراليين الأحرار» والمستقلين.

ماذا يعني سيناريو كهذا؟
بداية، سيمتلك كوربن تفويضاً شعبيّاً لإعادة النظر في سياسة التفاوض حول العلاقة مع الاتحاد الأوروبي (البريكست)، فيدفع عندها كحد أدنى باتجاه تنفيذ ملطّف يضمن بقاء بريطانيا في السوق الأوروبيّة الواحدة واتحادها الجمركي، وهو أمر يرضي بالتأكيد نصف البريطانيين على الأقل إضافة إلى دبلن ـــ ومن خلفها بروكسل ـــ، فضلاً عن الأغلبيّة الحاسمة من الإيرلنديين الشماليين (جمهور الشين فين) التي صوّتت للبقاء في الاتحاد الأوروبي. كحد أقصى، قد يدعو كوربن إلى استفتاء جديد ينتهي بالفعل إلى إلغاء مفاعيل «البريكست» بالكليّة.
دبلن القلقة من تنفيذ ماي توجهاتها بشأن إعادة الحدود الرسميّة مع إيرلندا الشمالية ـــ المحكومة من لندن ـــ لم تخف أنها تضغط على الـ«شين فين» لاتخاذ قرار تاريخي بالتصويت في البرلمان لضمان وحدة ولو شكليّة على الأرض مع جزئها الشمالي من خلال السياسة الأوروبيّة للحدود المفتوحة بين الدول الأعضاء في الاتحاد (الذي يضم جمهورية إيرلندا والمملكة المتحدة). وقد دعا ليو فارادكار، رئيس وزراء الجمهوريّة الإيرلندية، نواب الـ«شين فين» علناً إلى أخذ مقاعدهم في البرلمان البريطاني «ليجعلوا الأمور أفضل لإيرلندا».
الـ«شين فين» لن يخدم جميع المتضررين من سياسات حزب تيريزا ماي في الحكم فحسب، بل وربما يكون بتسليمه مفاتيح «10 داوننيغ ستريت» لجيريمي كوربن قد حقق، ومن دون أيّ مبالغات، الحلم الإيرلندي المؤجّل منذ بداية الاستعمار البريطاني للجزيرة في 1780. فالزعيم اليساري لحزب العمّال المعارض متعاطف مزمن مع الميول الوحدوية للجمهوريين الإيرلنديين، وهو كان النائب البريطاني الوحيد الذي تجرّأ على استقبال اثنين من منتسبي الجيش الجمهوري الإيرلندي في مكتبه في البرلمان عام 1984، وهو من دون شكّ لن يمانع في تفعيل موضوع إجراء استفتاء شعبي في إقليم ايرلندا الشماليّة بشأن الوحدة مع دبلن، وفق ما تنص عليه اتفاقيّة 1998. استفتاء مثل هذا قد لا يعني الإيرلنديين فقط، بل إن شعوباً أخرى ستبدو مهتمة كذلك: اسكتلندا، جبل طارق بل وويلز أيضاً، وهو ما يشكل نهاية حتميّة للشكل القانوني للمملكة المتحدة بالكامل.
وزير بريطاني: التحاق نواب الـ«شين فين» بالبرلمان طامّة كبرى


قيادة الـ«شين فين» تواجه بالفعل مأزقاً شكسبيرياً للإجابة عن مسألة «أن نصوّت أو لا نصّوت في البرلمان». فهناك تيار قوي لا يخفي رغبته في اقتناص الفرصة لتوجيه صفعة قاسية، سواء لتيريزا ماي أو لشريكها الإيرلندي الشمالي حزب «الوحدويين الديمقراطيين»، لا سيّما بعد تولي قيادات سياسيّة جديدة مواقع رئيسة في الحزب، سواء في دبلن أو في بلفاست، لا تحمل معها تراث النضال العسكري للقيادات التي تقاعدت مؤخراً عن العمل السياسي من جيل جيري آدامز ومارتن ماكجينيس، وهي عازمة على إعادة تأهيل الـ«شين فين» كلاعب سياسي أساسي في بلفاست ودبلن معاً. لكنّ قادة الحزب يعلمون تماماً أنهم حصلوا على مقاعدهم السبعة في البرلمان من خلال تعهدهم بالاستمرار في سياسة عدم أداء قسم الولاء لملكة بريطانيا، وأن تراجعهم عن ذلك سيكون سابقة قد تسيء إلى تاريخ الحزب الذي يحقّ له أن يفتخر دائماً بأنه ما غيّر وما بدّل في بازارات السياسة، وربما تنتهي إلى انشقاقه ـــ وهو أمر سبق أن حدث في 1926 وأيضاً في 1986 جرّاء اختلاف حول قضايا أقل أهميّة من هذه ـــ وبالتالي المخاطرة بانقسام شعبي بين الإيرلنديين الشماليين أنفسهم، يؤجلّ تحقيق حلم الوحدة.
إذن، حكومة تيريزا ماي التي تترقب استحقاق تصويت حرج هذا الربيع في البرلمان على مسألة البقاء في الاتحاد الجمركي الأوروبي كجزء من مفاوضات «البريكست»، وكذلك تصويتاً آخر في تشرين الأول/أكتوبر المقبل على قيمة فاتورة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، يُخشى أن تكون على موعد مع كارثة محققة على الاقتصاد البريطاني لن يتعافى منها لعقود مقبلة. تبدو حكومتها بالفعل على كف عفريت إيرلندي ـــ بامتياز هذه المرّة ـــ، ولعلّ مكر التاريخ وسخرية الأقدار قد اجتمعا، ليجعلا رئيسة وزراء مملكة بريطانيا العظمى تدعو في ليلها ونهارها أن يثبُت عتاة الجُمهوريين الإيرلنديين على مواقفهم الأيديولوجيّة فلا يلتحقون بالبرلمان، فتسقط الحكومة، وربما تسقط وراءها فكرة المملكة المتحدة برمّتها.