بين جلسة لجنة نيابية وموعد في أحد مكاتب مبنى النواب، وجد النائبان حسن فضل الله وعمار الحوري نفسيهما وجهاً لوجه. فبادر الأول زميله، بين المزاح والجد، قائلاً: إذا كررتم مرة واحدة بعد في بيانات كتلتكم، حول موضوع الإنترنت غير الشرعي، عبارة "ما كشفته وزارة الاتصالات وهيئة أوجيرو"، عندها سأطلب رفع السرية عن كامل محاضر لجنة الإعلام وأنشرها للناس ليكتشفوا من كشف ومن "انكشف"...
فعلياً، وبالعودة إلى الوقائع والوثائق والمحاضر، يظهر أن الحقيقة مختلفة عما يحكى. والأهم أنها أخطر بكثير مما يُكتب ويقال. بدأت العملية كلها بشيء من الصدفة. في اللجنة النيابية للاتصالات والإعلام، كان جدول أعمال الجلسات بدأ ينضب. لا مجلس يعمل ولا زحمة مشاريع أو اقتراحات قوانين. فقرّ الرأي على مناقشة مسائل ذات طابع عام ومنفعة عامة، تجنباً للبطالة أو الكسل. كانت الفكرة تتضمن عدة نقاط: من تلفزيون لبنان إلى أزمة الإعلام... انتهاء بواقع الإنترنت في لبنان، في ضوء شكاوى بعض المواطنين حول كلفة هذه الخدمة وجودتها. حاولت اللجنة الانعقاد في شباط. فلم توفق. بعدها تقرر موعد أولي. حرص وزير الاتصالات بطرس حرب على الحضور. فالموعد كان يتزامن مع ذكرى مرور سنتين على تسلّمه الوزارة.
المسؤولون عن الفضيحة كبار جداً وثلاث وزارات مسؤولة إن لم تكن متورطة
وكان قد أعد تقريراً ضخماً حول إنجازاته فيها، أراد الإطلالة من منبر اللجنة للإعلان عنه. طرأ عارض صحي على أحد أفراد عائلة الوزير، ما فرض تأجيل موعد 1 آذار. حتى حصل الموعد أخيراً بعد أسبوع في الثامن منه. يومها لم يكن أي نائب أو سياسي مهتماً بالموضوع. باستثناء حرب الذي تأبط تقرير إنجازاته وجاء على موعد وأمل تبشير كل اللبنانيين به. لم يكن النصاب مؤمّناً في الجلسة حتى. لزم الأمر بعض انتظار وبضعة اتصالات بالأعضاء، حتى تأمّن النصاب وبدأت الجلسة.
بدأ حرب بعرض تقريره. ولا تزال نسخة منه في المجلس. لا ذكر فيه إطلاقاً لأي كلمة عن أي مشكلة أو إشكال في قطاع الإنترنت. خلال النقاش، بدأت أسئلة النواب حول خدمات DSL وأوضاع السنترالات. خصوصاً أن ما أثار حشريتهم وأسئلتهم أكثر، أن الوزير أورد في تقرير إنجازاته، أنه في عهده تم رفع عدد الشركات المرخصة لتأمين الإنترنت، من 37 شركة إلى 112 شركة مرخصة حالياً. عندها سئل الوزير، بشكل عرضي، عما إذا كانت هناك في السوق شركات لتوزيع الإنترنت غير تلك المرخصة. كما طرح عليه، عَرَضاً أيضاً، سؤال ثان، عما إذا كانت هناك في لبنان أي جهة غير رسمية تملك تقنية الألياف الضوئية لنقل المعلومات. فأجاب حرب جازماً أن هذا مستحيل، مؤكداً أن هذه التقنية حكر على الدولة. وجزم أيضاً بأنه لا يمكن لأي جهة أن "تعلّق" على خط الدولة. أما عن احتمال وجود شركات غير شرعية تؤمن خدمة الإنترنت، فنظر حرب إلى عبد المنعم يوسف، ثم تابع: "لدينا معلومات غير مؤكدة عن إمكان وجود شركات كهذه. وقد أحلنا الموضوع إلى النيابة العامة المالية، كما زوّدْنا لجنتكم بنسخة عن الملف". بحثت اللجنة في بريدها وأوراقها عن الملف المذكور، فلم تجد شيئاً. عاد يوسف ليؤكد أنه أودع اللجنة النيابية نسخة عن الملف المذكور بتاريخ 4 آذار، أي بعد الدعوة إلى اجتماع اللجنة الأول الذي كان مقرراً في الأول من آذار، من دون أن يؤدي ذلك إلى العثور على الملف المذكور لدى اللجنة. لكن رئيس هيئة "أوجيرو" التزم الصمت بالكامل في تلك الجلسة، في حضور رئيسه الوزير المسؤول. أصر النواب على البحث في تفاصيل تلك المسألة، لكن حرب ظل على موقفه أن لا شيء إضافياً، وأن كل ما لدى الوزارة هو هذه المعلومات الأولية. عند إلحاح النواب على طلب تفاصيل، قال حرب: أعطيكم مثلاً. عندنا في تنورين منطقة جردية واسعة لا يمكن لأحد أن يضبطها. يأتي إلينا شخص فيقول أن هناك صحناً لاقطاً مركباً في مكان ما من هذا الجرد. لا يمكننا التأكد من ذلك. ولا إمكانات لدينا. علماً أنه يمكن لصحن كهذا أن يستجرّ سعات إنترنت من قبرص أو ربما من اسرائيل... عند ذكر هذه الكلمة، استنفرت كل حواس رئيس اللجنة النائب فضل الله. قاطع حرب قائلاً: نحن نسجل مضمون الجلسة كاملاً. الموضوع صار خطيراً. ولو كنا أصبحنا في آخر الجلسة، هذه النقطة لا يمكننا تخطيها ولا التعامل معها بخفّة. لذلك علينا أن نستعلم عن الموضوع ونطّلع على كل تفصيل فيه. استدرك حرب متمنياً عدم الخروج إلى الإعلام بهذه القضية، في انتظار المزيد من التفاصيل، متذرعاً بأن البلد تكفيه فضائحه وهزاته، وآخر ما قد يحتاجه الآن صدمة جديدة قد تسيء إلى صورة لبنان الخارجية وتطلق حالة ذعر جديدة لدى المواطنين. أصر فضل الله على كشف الموضوع، خصوصاً أنه بات أمام القضاء، كما أفاد حرب. لكن حرب تمنى عدم الكلام لأن الملف أمام القضاء ويفضل انتظار كلمته فيه. بعد نقاش، أصرّ فضل الله على الحديث في مؤتمر صحافي عقب الجلسة. فأردف حرب أنه في هذه الحال سيتكلم هو أيضاً. خرج فضل الله وقال عبارات مقتضبة عن إنترنت غير شرعي وعن احتمال خرق أمني... فانطلقت كرة الثلج.
في الجلسة التالية، كان الإعلام قد أضاء على القضية. وكانت الوزارة لا تزال تتمنى التريث وانتظار مزيد من المعلومات. بعدها بدأت تتكشّف لعبة تناقض المصالح بين "الحرامية"، فبدأت تظهر أسماء المتورطين.
في الجلسة ما قبل الأخيرة للجنة، في 30 آذار الماضي، كان دور النائبين نبيل نقولا وعباس الهاشم بارزاً. بورقتي عمل مفصّلتين، وبتقرير قانوني ووقائعي موثق وصلب، كشف النائبان كيف أن تقصير "أوجيرو" في تسلم شبكة الألياف الضوئية المنجزة منذ أعوام (وبكلفة تفوق خمسين مليون دولار)، كان السبب الأساسي لكل الكارثة الواقعة. ذلك أن هذا التصرف غير القانوني، رتب على الدولة خسارة بعشرات الملايين، وشرع الباب أمام الإنترنت غير الشرعي. والأهم أنه أدى إلى شبهة تواطؤ بين من يقنّن الخدمة الرسمية ومن يشرع الخدمة غير الرسمية. فراحت الشبهات والروائح تفوح حول أسماء القريبين من "أوجيرو" ومن مرجعياتها السياسية.
ملف الألياف الضوئية وحده قادر على إيصال كثر إلى السجن

ورد في تقارير نقولا وهاشم أن هناك مثلاً 250 محطة للخلوي في لبنان، مربوطة كلها بشبكة الألياف الضوئية، غير الموضوعة قيد العمل، لعلّة ما في نفس "أوجيرو". وأنها إذا ما صارت شغالة بكبسة زر، تؤدي فوراً إلى تخفيض كلفة الخدمات كافة وأسعارها على جميع اللبنانيين. كما تؤدي إلى مضاعفة الجودة ونوعية الاتصال وتحسينها بشكل هائل. وثالثاً يصير التواصل أكثر أمناً. لأن التنصت على كابل الألياف أشد صعوبة من التنصت على الموجات الهوائية (مايكروويف) المشرعة لكل متنصت. ورابعاً تضمن عدم انقطاع التواصل إطلاقاً في أي ظرف مناخي. تذرع يوسف بأن نوعية الكابل غير مطابقة لدفاتر الشروط، وأن لجنة مختصة رفعت تقريراً بذلك ورفضت تسلم الشبكة. فيما الفنيون يكذّبون كلامه، بحسب تقارير النائبين. علماً أن استشاري تنفيذ الملف هو شركة "خطيب وعلمي" بالذات. التقارير نفسها تكشف أن هناك نحو 80 مركزاً للجيش اللبناني مرتبطة بهذه الشبكة. فلو كانت غير صالحة، كيف قبلت المؤسسة العسكرية بذلك؟! هكذا فُتحت مغارة أخرى، واتضح للجنة أن ملف الألياف الضوئية وحده قادر على إيصال كثر إلى السجن...
استمرت مناقشات اللجنة. ووصل الأمر إلى القضاء. هنا خانة المحرمات. شهر من التحقيقات والفضائح وسلسلة مداهمات وتفكيك أربع محطات على الأقل... ولا موقوف واحداً! كيف ولماذا؟ حين كان الملف لدى النيابة العامة المالية تم توقيف شخصين مشتبه بهما في محطة الضنية. بعد انتقال الملف إلى النيابتين التمييزية والعسكرية، لم يستجد توقيف أي مشتبه به. توقفت اللجنة عند الموضوع. تدخل الرئيس نبيه بري مستوضحاً. فقيل له بصراحة ان المطلوب غطاء سياسي للمدعي العام المالي. أعطي الغطاء كاملاً. لكن الملف أحيل إلى جهة قضائية أخرى. أكثر من ذلك شهدت إحدى جلسات اللجنة النيابية مثالاً واضحاً حول أزمة القضاء. أثناء مداولات أعضاء اللجنة، بحضور بعض المسؤولين القضائيين، وصل النقاش إلى قضية محطة الزعرور والملابسات التي رافقتها. سئل المسؤول القضائي عن المعطيات التي لديه حول هذه النقطة تحديداً. فكانت المفاجأة أن طلب المسؤول السماح له بإطفاء المذياع المخصص له، قبل أن يتطرق إلى الموضوع. علماً أن الكلام عبر المذياع هو من أجل ضمان تسجيل المناقشات في المحضر. وعلماً أيضاً أن مثل هذا الطلب هو حق لمن يدلي بإفادته أمام اللجنة النيابية. بعد إطفاء المذياع بدأ الكلام غير المباح. تفاصيل كثيرة ووقائع ومستندات وروايات... خلاصتها أمران: جهة حكومية عليا تدخلت فتبدل تقريران. أولاً، تقرير داخلي مسلكي حول ما حصل مع العناصر الأمنية التي حاولت مؤازرة عمال "أوجيرو" أثناء مداهمة الزعرور. ثانياً، التقرير الفني حول المصادرات المنفذة هناك. وبالتالي صار أمام القضاء ملف فارغ: ما صودر على الورق غير كاف لإثبات تهمة استجرار الإنترنت من الخارج. وهو غير ما صودر على الأرض فعلياً. وما أفاد به عناصر القوى الأمنية، في التقرير الجديد، هو غير ما حصل فعلياً على الأرض، كما أثبته تقرير "أوجيرو" الأول. إذن لا مخالفات قانونية ولا شبهات ولا من يتهمون!
علماً أن المعطيات التي وضعت أمام اللجنة في البداية واضحة: عشرون مسلحاً. عناصر مخفر. اعتقال الدرك. اتصالات معيبة... بعدها مضبوطات مغايرة للمصادرات! هكذا تحول الملف في هذه الجزئية إلى مأزق. هناك أمام القضاء تقريران رسميان متناقضان بالكامل. نتيجة هذا الواقع هناك احتمال من ثلاثة لا غير: إما أن يذهب يوسف إلى السجن بتهمة تقرير مزور. وإما أن يذهب أصحاب محطة الزعرور إلى السجن بتهمة الاعتداء وسرقة الإنترنت وينضم إليهم من زوّر تقارير الحادثة. وإما أن يذهب مسؤولون حكوميون على أكثر من مستوى إلى المساءلة...
عند هذا الحد صارت الصورة واضحة: المسؤولون عن الفضيحة كبار جداً. أقله لناحية التقصير، إن لم يكن أكثر. هناك ثلاث وزارات مسؤولة إن لم تكن متورطة: الاتصالات، الداخلية والدفاع. والمستفيدون كبار جداً. إذن لا بد من تقديم كبش. لا بد من ضحية. اعتقد البعض أنه يمكن حصر الضحية بمستوى متوسط. أوقف أحد الأشخاص. لكن المفاجأة كانت أنه أعطى اسم من فوقه. الآن صارت اللعبة حساسة. إذا أوقف من فوقه، من يضمن ألا يكشف من فوقه أيضاً؟ من يضمن ألا يتصرف بشكل انتحاري. لا يمكن توقيفه إذن قبل الاتفاق معه. المرجح أن هذا ما يحصل الآن. وإلا فكل السيناريوهات مفتوحة. من الحفظ إلى التصفية، بكل أنواعها... على سبيل المثال، هل من يذكر شيئاً عن فضيحة الطوابع البريدية؟!