يتضمن برنامج الاستثمار المرفوع الى مؤتمر «باريس 4» مشاريع للمياه وانشاء السدود غير الضرورية ومشاريع لمعالجة مياه الصرف. 18,1% من قيمة البرنامج لمشاريع المياه و13,9% لمشاريع الصرف الصحي، من دون ان تصحب ذلك رؤية متكاملة واستراتيجية للتنمية المستدامة التي تربط بين قطاعات ادارة مياه الشرب ومياه الصرف وقطاعات الزراعة والسياحة والصناعة وتوليد الطاقة… وغيرها. فأين الحاجات الحقيقية؟ وكيف تم ربطها تاريخياً مع المتطلبات الاممية والاستثمارية؟ وأين كانت العوائق أمام معالجة هذه الآفة؟ لطالما اهتمت منظمات الأمم المتحدة بمعالجة مياه الصرف الصحي او المياه العادمة أو المبتذلة. الا أن هذا الاهتمام كان، دائماً، شبيهاً باهتمام تجار المراحيض. اذ انطلقت الدراسات حول هذا الموضوع من مسوحات حول توفر المراحيض، وليس حول طرق المعالجة المتكاملة المرتبطة بكيفية استهلاك المياه العذبة ايضاً. في عام 2013، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً باعتبار 19 تشرين الثاني يوماً عالمياً لدورات المياه، وحثت الدول الأعضاء على تشجيع تغيير السلوك، وتنفيذ السياسات الرامية إلى زيادة فرص الحصول على خدمات الصرف الصحي بين الفقراء، والدعوة الى إنهاء ممارسة التغوط في الهواء الطلق لضرره الجسيم على الصحة العامة... لكن، في المقابل، لم تحصل على اهتمام مماثل مسائل مثل دراسة أثر ترك مياه الصرف تصب في الوديان والبحار والأراضي الزراعية!

الوضع اللبناني
لم يشذّ لبنان عن هذا النسق. تبين آخر الدراسات الصادرة عن وزارة الطاقة والمياه في «الاستراتيجية الوطنية لقطاع مياه الصرف الصحي»، ان معدل مياه الصرف المنتجة في هذا البلد تقارب 310 ملايين متر مكعب سنوياً، منها 250 مليون متر مكعب حضرية ومنزلية و60 مليوناً صناعية.

الزراعة المستهلك الأكبر

يعتبر القطاع الزراعي المستهلك الأكبر للمياه في لبنان (بين 60 و67%)، مما يفترض البحث مجددا في كيفية المعالجة والتوفير. وفي آخر دراسة لمنظمة الزراعة والأغذية الدولية (فاو) حول الموضوع (2016)، اقترحت معالجة 30% من مياه الصرف المنزلية واعادة استخدامها في الزراعة، لا سيما في النظم الزراعية الحرجية، الأمر الذي من شأنه ان يوفر 11% من استهلاك المياه العذبة.


8% فقط من هذه الكميات الضخمة تصل إلى اربع محطات عاملة لمعالجتها (صيدا وغدير وبعلبك واليمونة)، فيما مياه الصرف الصناعية لا تعالج وتصب في الأنهر والوديان والبحر. مع العلم ان انظمة معالجة المياه المبتذلة المنزلية لا تصلح لمعالجة تلك الصناعية.
وتبعا للبيانات، ثمة 166 محطة معالجة في لبنان لا تعمل بالمطلق، أو لا تعمل بشكل مقبول، بينها اكثر من 60 محطة صغيرة متعثّرة نُفّذت على مستوى بلدي. تم إنشاء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي من دون شبكات، او أُنشئت شبكات للصرف من دون محطات. وكل ذلك بقروض وفق استراتيجية لم تكن يوماً شاملة. ومع أن المشكلة ــــ كما في كيفية تأمين مياه الشرب وفي مشكلة النفايات الصلبة ــــ هي مشكلة سوء ادارة وتضارب صلاحيات، يضاف اليها فقدان الثقة بين المواطن والادارة، فقد اعتُبر التمويل، دائماً، عائقا أساسياً. وهو لا يزال يعتبر كذلك، مع إدراج مشاريع المياه والصرف الصحي ضمن برنامج الاستثمار الذي رفعته الحكومة إلى مؤتمر «باريس 4» (18,1% من قيمة البرنامج لمشاريع المياه و13,9% لمشاريع الصرف الصحي)، من دون تصحبه رؤية متكاملة واستراتيجية للتنمية المستدامة تربط بين قطاعات ادارة مياه الشرب ومياه الصرف وقطاعات الزراعة والسياحة والصناعة وتوليد الطاقة… وغيرها من القطاعات ذات الصلة.

من يشغل وبأي كلفة؟
أسئلة كثيرة ينبغي طرحها في هذا السياق: ما هو النموذج الاقتصادي الذي سنعتمده في معالجة مياه الصرف؟ هل هو خدمة عامة مثل نقل المياه العذبة ام ستتم خصخصته كما يحصل مع مياه الشرب؟ وملك من المنتج النهائي الذي يمكن أن يجد فيه الكثير من المستثمرين قيمة ما، ناهيك عن إمكانية توليد الطاقة الكهربائية من قوة تدفق مياه الصرف في الشبكات او أثناء دخولها إلى المحطات وخروجها منها...الخ؟ وكيف سيتم تسعير الكلفة، لا سيما التشغيل الذي يعتبر السبب الأول في فشل عمل المحطات الصغيرة التي تم أُنشئت بهبات وتم الطلب من البلديات تشغيلها. وهل لا يزال السعر الوسطي للمعالجة دولار واحد للمتر المكعب، مما يجعل فاتورة معالجة مياه الصرف اكبر من فاتورة تأمين مياه الشرب؟

الحمأة قيمة ام مشكلة؟
على أي حال، عندما تُنجز الشبكات، سنكون أمام مشكلة كيفية معالجة الوحول، او «الحمأة»، التي تترسب بعد عملية المعالجة. فهل هناك تصوّر لكيفية معالجة هذا المنتج النهائي من ضمن المعالجة المتكاملة، كما توصي الدراسات المسؤولة؟!
البعض في العالم يحوّل هذه الوحول إلى أسمدة، أو وقود، بينما يلجأ آخرون الى طرق اخرى مثل زرع النباتات في أحواض التجفيف، أو زرع سمك السلور في الأحواض الاصطناعية التي تستخدمها المَرافق عادة في معالجة الحمأة. ويعمل آخرون على تجفيف الحمأة، واستخدامها ضمن مواد البناء، مثل الإسمنت، وحجر الخفان. وتدرس بعض الشركات إمكانية الاستفادة من بعض الأحماض الدهنية في الحمأة في توفير مكونات مهمة لصناعة البلاستيك الحيوي، والمواد الكيميائية الصناعية، فيما تُعصر اليرقات التي تتغذى على تلك الفضلات، وتنتج عنها زيوت صناعية، أو يمكن استخدامها كغذاء للحيوانات. ناهيك عن اعادة الاستخدام إن في الزراعة (ري الاشجار والنباتات غير المثمرة) او في السياحة (غير المدروسة كفاية بعد).

استعادة الثقة
إذاً، التمويل ليس السبب الوحيد في فشل ادارة هذا الملف، كما يُروّج دائما لتبرير الفشل، او لتبرير البحث عن مصادر جديدة... للتمويل. مشاريع انشاء محطات المعالجة قوبلت بمعارضة شعبية في أكثر من مكان، لأنها لم تأت من ضمن استراتيجية متكاملة ولم تدخل في البرامج السياسية والانتخابية لمرشحي البرلمان او المجالس البلدية، ولم تشارك وزارتا الثقافة والتربية في برامجهما في حملة توعية لمواجهة المشاكل الثقافية والنفسية التي تقف غالبا خلف المواقف السلبية تجاه النفايات البشرية عامة…
الاستراتيجية، لا التمويل، هي ما ينقصنا.

في غياب الاستراتيجية أُنشئت محطات لمعالجة مياه الصرف من دون شبكات او أُنشئت شبكات من دون محطات

نهتم كثيرا بما نلبس ولا نهتم بما نزرع. نهتم بما نأكل ولا نهتم بما نرمي. جاء الوقت لنعرف أن كل ما نرميه خلفنا بسرعة من أجل أن نتقدم الى الامام، إنما نرميه بوجه أناس آخرين، يدفعون ثمنا غاليا جدا لمعالجة آثاره السلبية على حياتنا وبيئتنا. كنا نجد بعض الحياء عندما نتحدث عن البراز والمياه المبتذلة، حتى جاء وقت أصبحت كلفة معالجة مياهنا المبتذلة اكبر بكثير من كلفة تأمين مياه الشرب النقية... هذا إذا عالجناها ولم نتركها لتلوث المياه العذبة.



توفر المراحيض لا يعني السلامة
أورد تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، في تموز الماضي، أن 2.8 مليار نسمة (38% من سكان العالم)، لا تتوافر لهم خدمات الصرف الصحي، ويتخلصون من فضلاتهم في الخزانات او الآبار ذات القعر المفقود. وكثيراً ما تطفح هذه الخزانات، أو تُفَرَّغ، من دون مراعاة معايير السلامة، بينما تتسبب الابار بتلويث خطير للمياه الجوفية. ويُرجّح أن عدد الأشخاص الذين يستخدمون الخزانات والآبار سيرتفع إلى 5 مليارات نسمة بحلول عام 2030، مع توقع أن تتقلص المساعدات الدولية المخصصة للمياه والصرف الصحي. واذا نجحت المبادرات الكبرى، مثل «الأهداف الإنمائية للألفية»، في توفير مراحيض لكل الناس، كما تعد، وزاد حجم المياه المبتذلة المتدفقة في البيئة، لعدم وجود استراتيجيات وسياسات متكاملة للإدارة، فقد نكون أمام كوارث اكبر!