هنا شارع الاستشهادي أحمد قصير. ثمّة لوحة رخامية، صغيرة، تحمل اسمه: «فاتح عهد الاستشهاديين». هنا قلب الضاحية الجنوبية لبيروت. قبل 31 عاماً، في الجنوب، دمّر قصير مقر «الحاكم العسكري الإسرائيلي» في مدينة صور. يوم أمس، تفسّخت اللوحة الصغيرة، من دون أن تنهار. بقيت مقروءة، رغم أن السيّارة التي انفجرت كانت أمامها تماماً. الطريق المعروف باسم الشارع العريض، أيضاً، كان على موعد مع الموت أمس. ضربه الإرهاب، الآتي من الصحراء غالباً، بعدما ضربه الإسرائيلي، في المكان نفسه بالضبط، قبل أكثر من 7 سنوات، في حرب تموز ـــ آب 2006. هناك المباني التي رُممت، بعد العدوان الإسرائيلي، ومنها مبنى قناة «المنار» القديم. هناك الشارع الذي احتضن مركز حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس) لسنوات طويلة. الشارع، ذو الاتجاهين، الذي كان يقيم حزب الله وسطه مجالس عاشوراء المركزية قديماً، قبل بناء مجمع «سيد الشهداء» في منطقة الرويس. هو أحد أكثر الشوارع شهرة في الضاحية.

الناس، وفي ردّة فعل ليست في محلها، يركضون من كل المسارب إلى حيث نقطة الانفجار. علامتهم عمود الدخان الذي ارتفع في السماء. الدموع في عيون بعضهم، فيما وجوه أخرى تضج بالغضب، وآخرون يقفون بصمت عند جوانب الطرقات. لو حصل انفجار ثانٍ لكنا أمام كارثة أضخم. لكن، كيف لا يركضون وكل منهم يفترض أن له قريباً هناك، صديقاً أو حبيباً، يودّون الاطمئنان أو أن يكونوا أول المسعفين. الفضوليون كثر، سيبقون في المكان رغم كل التحذيرات والدعوات الى الابتعاد، مثل كل مرّة، ولا قوة تفلح في إبعادهم، حتى إطلاق النار في الهواء.
التفجير لا يقارن بسلفه في منطقة الرويس الذي كان أضخم، وخلّف حريقاً هائلاً، أودى بحياة العشرات. انفجار أمس كان «صغيراً نسبياً»، إذ قيل إن زنة العبوة 20 كيلوغراماً من المواد المتفجرة. الأكيد أن سيارة انفجرت، لكن هل مع انتحاري أم من دونه؟ سؤال ظل بلا جواب حتى ساعات متأخرة من الليل. في الشارع أشلاء بشرية، صحيح. لكن، هل هي لانتحاري أم لمواطن بريء كان قريباً جداً من السيارة؟ في تفجير الرويس، رأى الناس أشلاء بشرية، قيل بداية إنها لانتحاري، ليتضح لاحقاً أنها سيارة مفخخة فقط. الناس هناك يختلفون في كل ما ذكر، لكنهم يجمعون على أن الفاعل هم «التكفيريون السلفيون». ستسمع كثيراً اسم بندر بن سلطان (رئيس استخبارات آل سعود) بين الحشود. بعض الناس كانوا يصرخون بوضوح: «الموت لآل سعود». بندر عندهم هو محرّك تلك المجموعات «الشيطانية». في ذاك الشارع الذي لطالما ضجّ، على مدى عقود، بعبارة الموت لإسرائيل، يجد أهله اليوم أنهم باتوا مستهدفين من بعض العرب. هكذا، في نظرهم، يرد عرب الصحراء وآل سعود الجميل للضاحية التي كسرت شوكة إسرائيل ومنها خرج أول انتصار عربي واضح على «عدو الأمة». العدو؟ من العدو، أو الأعداء، الآن؟ لقد خلطت الأوراق. أهل الضاحية يسألون اليوم: «ماذا فعلنا للعالم حتى نستحق هذه المكافأة؟». من أين يأتي كل هذا الحقد؟ ولماذا؟ في الضاحية ستسمع من يقول: ابحث عن مملكة القهر الوهابي ـــ السعودي. بعض الغاضبين، وبأصوات عالية، طالبوا حزب الله بوضع حد لـ«تلك الوحوش». بدا واضحاً أن المزاج الشعبي، بعد التفجير، ازداد اقتناعاً بضرورة مواجهة التكفيريين في سوريا ولبنان. ربما كان يظن القاتل أنه بضرب الناس الأبرياء سيجعلهم يخرجون من حزب الله، أو يطلبون منه الخروج من سوريا. ولكن ما يحصل، بعد كل انفجار، هو العكس تماماً. من لم يكن من الناس يعرف الوجه الحقيقي لهؤلاء، قبلاً، بات اليوم يعرف إجرامهم جيداً، وبات ممتنّاً لكل دور يقوم به حزب الله ضدهم. من كان يقف على الحياد، من بين هؤلاء الناس، أو أقله من غير المتحمسين، تجده يصبح أكثر رغبة في مواجهة الذين يقطعون الرؤوس ويأكلون القلوب. يُحكى كثيراً، في الآونة الأخيرة، عن أفواج من الشباب الذين يطرقون باب حزب الله للتطوع لديه في قتال هؤلاء. لن يكون صعباً على أحد أن يستشف هذه الحالة من داخل بيئة الضاحية.
عُثر على أشلاء بشرية على هيكل السيارة التي انفجرت، أمس، ما عزز فرضية وجود انتحاري. لكن ما جعل الأجهزة الأمنية تنتظر نتائج فحوص الحمض النووي (DNA) للجزم هو أن أحد من يعملون في المنطقة مفقود، وعُثر على دراجته النارية ملاصقة للسيارة التي انفجرت. السيارة هي من نوع «جيب غراند شيروكي» لون زيتي داكن طراز 1993، تحمل اللوحة رقم 341580/ج، بحسب ما ورد في بيان الجيش اللبناني (مثل نوع السيارة التي ضبطت في منطقة المريجة سابقاً قبل تفجيرها).
وزير الصحة علي حسن خليل أعلن أن الحصيلة هي 4 شهداء ونحو 80 جريحاً؛ بعضهم في حال حرجة. لاحقاً، تحدث البعض عن ارتفاع في عدد الشهداء، من دون حصيلة نهائية، ليبقى عداد الدم مفتوحاً. البعض، حتى ساعات متأخرة، كانوا لا يزالون يبحثون عن أقاربهم في المستشفيات. بعض قاطني الشارع تحدثوا عن أشلاء صغيرة طارت إلى أسطح المباني وبعض الشقق، تماماً مثلما حصل في التفجيرين الانتحاريين أمام السفارة الإيرانية. كان هذا مما يعزز فرضية الانتحاري.
السيارة كانت بملكية سيدة من آل عثمان، باعتها سابقاً إلى شخص يدعى محمد عز الدين، الذي باعها بدوره لشخص اسمه سامي الحجيري من بلدة عرسال. وفيما سلّم الاثنان نفسيهما للجيش، أمس، ذكرت قناة «المنار» أن السيارة اشتراها في ما بعد عبد الباسط أمون، ثم أعطاها لصهره ركان أمون. والأخير «باع السيارة قبل 4 أشهر لأشخاص سوريين ناشطين في المعارضة»، بحسب مسؤولين أمنيين لبنانيين.
هنا شارع الاستشهادي أحمد قصير. حلّ المساء وغابت الشمس. مئات المحتشدين، سيارات الإسعاف والصليب الأحمر، شاحنات المطافئ التابعة للدفاع المدني، عناصر الجيش والأجهزة الأمنية. كثيرون أمس، من أهل الضاحية، أيقنوا أنهم أمام «مسلسل موت». خرجوا من نظرية الحادثة العابرة، التي بدأت مع انفجار بئر العبد، ثم الرويس وبعده بئر حسن. الضاحية كلها، بكل من فيها، مستهدفة. لهذا همس شاب في أذن صديقه وسط الحشود، أمس، قائلاً: «لا شيء سيوقف هذا المسلسل إن لم تُدوّ الانفجارات في قصور آل سعود».

يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | @Nazzal_Mohammad