لم تعد اللغة تعجز عن شيء، وباتت للمشاعر أوصاف ملموسة.
يحمل صوت الزوجة المخنوق عبر الهاتف مشاعر الهلع التي انتابتها، وكأنها لا تصدّق نجاتها من الانفجار. ويرتدي الخوف وجه أمّ كانت تركض بحثاً عن ابنها الذي قال لها إنه سيمرّ لزيارة ابن عمه في الشارع العريض. والقلق له وجه شاب دخل إلى المستشفى بحثاً عن والده الذي قيل له إنه استشهد. ويرتسم الحزن دموعاً في عيون تصاعد الدم إليها مع تبلّغ نبأ الوفاة. ويبدو الانكسار على وجوه فتيات حُمّلن حقائب صغيرة لمغادرة البيت الذي تضرّر.
لا شيء يفوق الوصف. حتى الغضب تلبّس رجالاً كانوا يحاولون عبثاً إبعاد المواطنين عن مكان الانفجار لتسهيل عمليات الإنقاذ. لم يستطيعوا إقناع أحد بالمغادرة. لم تنجح عبارات التوسّل والرجاء، ولا إطلاق الرصاص في الهواء. كان لا بدّ من حيلة تقنعهم، فأُعلن العثور على سيارة مفخخة ثانية، وهجم البعض فعلاً على سيارة كانت موجودة أمام «مطعم الجواد»، الذي يبعد قرابة عشرين متراً عن مكان الانفجار. عندها فقط صدّق المتجمهرون أن انفجاراً ثانياً سيقع، فركضوا هرباً متيحين لسيارات الدفاع المدني الدخول.
يدوّي صوت سيارات الإسعاف في مختلف أرجاء حارة حريك، ترافقه تمتمات الصلوات والأدعية بأن يرأف الله بحال المصابين. عبارات الحمد تكرّرت على ألسنة سكان الحيّ المحاذي لشارع الرويس حيث وقع انفجار الضاحية الثاني. عُقدت المقارنات بين الانفجارين، من الصوت، إلى شكل النار وقوتها، وصولاً إلى حجم الدمار وعدد الضحايا. انفجار أمس كان أصغر وأقلّ ضرراً. لكنه لم يمنع صرخات الاحتجاج على «الخطة الأمنية» من الارتفاع. لم يسلم أحد من الانتقاد. اتُهم عناصر قوى الأمن الداخلي بأنهم يسمحون للجميع بالدخول، انتقد الجيش الذي يفتش السيارات التي لا يعجبه شكل سائقيها. حتى عناصر «حزب الله»، الذين كانون يمنعون الناس من الدخول إلى موقع الانفجار، وُجد من يصرخ عليهم «كان عليكم أن تمنعوا السيارة من الدخول، وليس منعنا نحن الآن».
انتقادات لم تلاق صدى لدى كثيرين وجدوا في حجم العبوة الضئيل دليلاً على الجهد الأمني المبذول لحماية الضاحية. «لو استطاعوا إدخال عبوة أكبر لفعلوا، هذا ما استطاعوا إدخاله، وربما يكون الشخص الذي أدخل السيارة مات فيها» يقول أحد أصحاب المحالّ التجارية. يؤكد، وهو شبه مقيم في الشارع، إنّ «الشباب عيونهم عشرة عشرة، ولولاهم لكنا سنشهد انفجاراً كلّ يوم».
الثقة، تعبّر عنها ملامح هذا الرجل. وتظهر رباطة الجأش على وجوه رفاقه الذين تحلّقوا ليرووا الحكاية مجدداً. كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة عصراً، عندما دوّى صوت قويّ، ترافق مع سقوط الزجاج. خرج أحدهم من محلّه، ليرى النار مشتعلة في الشارع. وقع الانفجار أمام محل قصعة الشهير. وتردّد أن السيارة ركنت أمام المحل، فيما قال آخرون إنهم شاهدوا سائقها يترجّل منها قبل أن يتطاير جسده في الهواء.
المتحدّثون كانوا يقفون في شارع الشهيد الشيخ راغب حرب، على بعد خطوات من لوحة تحمل اسم الاستشهادي أحمد قصير، أو الشارع الذي وقع فيه الانفجار. ليس في الأمر صدفة برأيهم. من ارتكب جريمة أمس، يستهدف المقاومة ورموزها. هو يكره حتى شهداءها. أهالي هذا الحيّ معتادون على الضربات. في تموز 2006 تحوّل شارعهم إلى ركام. لعبوره كان عليك أن تصعد جبلاً من الحجارة، ثم عاد «أحلى مما كان»، يغصّ بالروّاد بسبب طابعه التجاري.
يدلّ أحد سكان بناية مطلّة على موقع الانفجار إلى صورة للسيد حسن نصر الله على جدار منزله، ويقول إنها سلمت خلال حرب تموز وسلمت أمس، رغم دمار الغرفة التي كانت تحضنها عام 2006، ووقوع الشباك الملاصق لها أمس. وهذا أيضاً ليس صدفة. للإيمان وجهه أيضاً. أن تنجو صورة نصرالله، فهذا يعني هذا إشارة من الله إلى صدق الخط الذي يسير عليه هؤلاء. لذلك كان أبو محمد حريصاً على أن يسرد قصتها.
يختلف المشهد تماماً في مستشفى بهمن الذي استقبل العدد الأكبر من الضحايا: ثلاثة شهداء وثلاثة وخمسون جريحاً. الحركة في قسم الطوارئ لا تهدأ، بين الأطباء والممرّضين المنهمكين في الإسعافات، وبين الأهالي اللاهثين وراء خبر يطمئنهم إلى سلامة أقاربهم. يدخل شاب عشريني غاضباً، رافضاً الإجابة على أسئلة عناصر الأمن. يكتفي بترداد كلمة «بيي جوا». تلحق به سيدتان، وما إن تصلا إلى ممرّ الطوارئ حتى ترفعا صوتها بالسؤال عن عدنان عوالي. صمت مريب يسيطر على الجميع، لا أحد يجيب، فيرتفع صوت الشاب غاضباً، ويقول إنه يعرف بأن والده استشهد لكنه يريد أن يراه. تحضنه مجموعة من العاملين في المستشفى، وتدخله إلى غرفة جانبية يخرج منها باكياً بعد ربع ساعة.
يخرج الشاب، وتبقى الممرضات مسمرّات في أماكنهنّ لبعض الوقت قبل أن يعدن إلى الاهتمام بالجرحى. عدد منهنّ كان قد أنهى دوامه، وصل إلى بيته، ثم عاد ليلتحق بعمله قبل أن يتناول طعامه. ما كان يعدّ ظرفاً طارئاً، بات يتحوّل إلى عاديّ في ظلّ المسلسل الجاري.