في عزّ الحملة الإنتخابية، قرّر رئيس الوزراء سعد الحريري ووزير الثقافة غطاس خوري إطلاق أعمال «متحف تاريخ بيروت» في وسط المدينة بعد غدٍ الخميس، في ما يعدّ تجاوزاً للشكوك والأسئلة التي تطرحها الاكتشافات الأثرية الأخيرة في الموقع وسياسة التعامل معها. اكتشافات نادرة لتاريخ العاصمة اللبنانية على مرّ العصور يشكّل «طمسها»، كارثة تاريخية وأثرية وحضارية! على يمين الطريق المؤدية من «بيت الكتائب» في الصيفي إلى مبنى جريدة «النهار» في وسط بيروت، يمرّ المرء بموقف السيّارات الضخم وإلى جانبه الشارع الذي افتتح العام الماضي باسم الصحافي الراحل غسان تويني. شارع يفصل بينه وبين مقرّ الصحيفة العريقة، موقع أثري نجا حتى الآن من العملية الممنهجة لطمس معالم المدينة الأثرية وتاريخها والتي قادتها شركة «سوليدير» تحت عنوان «إعادة الإعمار» بعد الحرب الأهلية. في غضون حوالى ثلاث سنوات، يُفترض أن يحتضن الموقع «متحف تاريخ بيروت»، غير أنّ معطيات جديدة برزت أخيراً إلى الواجهة، تحتّم طرح أسئلة ملحّة وجوهرية حول مدى خطورة المشروع على جزء أساسي ومميّز من تاريخ بيروت عبر العصور.
في صيف 2016، وبعد سبع سنوات على توقيع الاتفاق بين «صندوق التنمية الكويتي» و«مجلس الإنماء والإعمار» في لبنان، بدأ العمل على الأرض لإنشاء هذا المتحف في العقار الملاصق لمبنى «النهار»، حيث كانت سينما «ريفولي» الشهيرة قبل أن تهدم في التسعينيات.
بالمبدأ، يهدف المشروع الذي صمّمه المعمار الإيطالي الشهير الحائز جائزة «بريتزكر» رينزو بيانو (شركة Renzo Piano Building Workshop, architects بالشراكة معFouad Menem Consultants & Partners في بيروت ــ المهندس الشريك المسؤول عن المشروع أنطوان شعيا) إلى «رواية تاريخ بيروت عبر الحضارات، ليكون أوّل متحف يعرض قطعاً أثرية في مكان أثري أيضاً»، على حدّ تعبير وزير الثقافة غطاس خوري بعد إحدى زياراته لرئيس الوزراء سعد الحريري العام الماضي.
يعدّ الموقع الملاصق لجريدة «النهار» امتداداً لـ«تل بيروت الأثري»

وفي مقابلة مع جورج صليبي، ضمن برنامج «الأسبوع في ساعة» على قناة «الجديد» في كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي، شدّد الوزير على أنّ المبنى ذا الطبقات الأربع سيكون زجاجياً بحيث «لا يحجب الرؤية من ساحة الشهداء باتجاه البحر»، مضيفاً بنبرة فيها الكثير من الحماسة والرضى أنّ شركة «سوليدير» ستعمل كذلك على تطوير المنطقة بأكملها وتزوّدها بممرّات للمشاة، تمكّن الناس من التجوّل بحرية و«الاستمتاع»، موضحاً أنّ الكلفة الإجمالية لكل ذلك هي «35 مليون دولار أميركي».
سبق حديث الوزير الآتي من عالم الطب، تقرير مصوّر لفتت فيه مديرة المتحف الوطني، آن ماري عفيش، إلى أنّ الحفريات التي جرت في وسط بيروت في تسعينيات القرن الماضي أفرزت مجموعة مهمّة جداً من القطع والمعالم الأثرية التي «تفسّر تاريخ المدينة والناس الذين سكنوها سابقاً»، مؤكدة أنّه من خلال المتحف الجديد «سنخبر قصصاً عن الفترات الزمنية الماضية، كعصر البرونز والحديد والروماني والبيزنطي والأموي والفينيقي والمملوكي... وكيف تطوّرت هذه المنطقة». ورأت عفيش في سياق مداخلتها أنّ المتاحف الموجودة في المواقع الأثرية (بعلبك وبيت الدين وجبيل مثلاً) تستطيع «الترويج للثقافة الموجودة في كل المناطق اللبنانية».

من الموقع (هيثم الموسوي)

قد تكون بعض النيات «سليمة»، وقد يكون جزء من الكلام «صادقاً». ولا شكّ في أنّ مشاريع كهذه ضرورية ومفيدة، لكنّ ما كشفه باطن هذه الأرض من تلقاء نفسه لا بدّ من أن يغيّر قواعد اللعبة، ويخفّف من «استماتة» عرّابي المتحف والقائمين عليه ومن يقف وراءهم لإنجازه.
قبل الدخول في تفاصيل القضية وآخر تطوّراتها، لا بد من الإشارة إلى أنّ تلّ بيروت الأثري يمتدّ من واجهة بيروت البحرية خلف القاعدة البحرية الحالية التابعة للجيش اللبناني حتى منطقة قريبة من موقع المتحف الملاصق للتل من الناحية الجنوبية ويعدّ امتداداً له، ومن خلفه نجد بقايا السرايا الصغيرة لناحية ساحة الشهداء، علماً بأنّ لتل بيروت الأثري امتدادات شرقاً وغرباً.
لا تتطلّب معرفة أهمية منطقة التل الكثير من البحث، إذ يختصر موقع شركة «سوليدير» الإلكتروني المسألة بفقرتين واضحتين مكتوبتين بالإنكليزية، تسلّطان الضوء على نقاط أساسية. يفيد النص بأنّه حوالى عام 2500 قبل الميلاد، كانت «بيروتا» الكنعانية بلدة صغيرة مطلّة على خليج طبيعي، حيث تبحث السفن عن مأوى. في الحقبة الفينيقية، «أنشأت المدينة ميناءين وتوسّعت الروابط التجارية في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط وما بعده»، قبل أن ينتقل المركز المقدّس والإداري مع الرومان «من منطقة الـ«تلّ» إلى الـ«فوروم»، تحت ما يعرف اليوم بساحة النجمة». وفي الفترة الأموية، استعاد الجزء الشمالي من «تل بيروت» أهميته الاستراتيجية مع بناء تحصينات تطل على الميناء، تحوّلت أيّام الصليبيين إلى قلعة جرى التقاتل عليها على مدى قرون… قصْفها من قبل الأسطولين الروسي في عام 1827 والبريطاني في 1840، شكّل «الضربة القاضية للقلعة المتضرّرة التي لم يعد بناؤها». وتشير «سوليدير» إلى أنّ المتحف المنتظر سـ«يحتفي بالاكتشافات الكبيرة لعلماء الآثار، ويعيد إحياء قصّة نمو وتطوّر هذه المدينة من العصور القديمة إلى الماضي القريب».


يحتوي «تل بيروت» على نواة المدينة الفينيقية وتحصيناتها، كما يُظهر توسّعها والتغييرات التي طرأت عليها عبر العصور لأسباب مختلفة (سياسية، طبيعية، اجتماعية، حروب..)، مقدّماً رواية تاريخية أثرية عن تاريخ هذه المدينة على امتداد الأزمنة. ويجمع عدد من الخبراء الذين اطلعوا على صور للموجودات على أنّ ما تم العثور عليه حتى الآن في موقع الـ«ريفولي» يُظهر بما لا يرقى للشك أنّه امتداد فعلي للتل، كما أنّه يقع على حدود أسوار بيروت الفينيقية. وأزاحت الحفريات الستار قبل أسابيع عن فسيفساء بيزنطية، مع احتمال وقوع الأركيولوجيين على آثار تؤرّخ لكل الحضارات التي تعاقبت على بيروت، كالإغريقية والهيللينية والرومانية، مروراً بالأمويين والعباسيين والصليبيين والمماليك، وصولاً إلى العثمانيين!؟ وهو ما أشار إليه الكثير من المتخصّصين والناشطين الذين رفعوا أصواتهم التحذيرية في الآونة الأخيرة، منها جمعية «نحن» التي أصدرت بياناً بهذا الخصوص أوّل من أمس (راجع الكادر)، علماً بأنّ «الأخبار» حاولت زيارة الموقع، إلا أنّها مُنعت من الدخول والتقاط الصور بطريقة «شرعية».
إذاً، وبما أنّ هذا الموقع غير المصنّف يعدّ امتداداً للتل، وفي ظل وجود مؤشّرات على المزيد من الآثار المهمّة في باطن هذه الأرض (عصرَيْ البرونز والحديد وغيرهما ربّما)، ناهيك عن أنّه قد يكون الشاهد الوحيد على توسّع المدينة خارج حدود الأسوار, ألا يجب إطلاع الرأي العام على طبيعة الآثار التي أفرزتها الحفريات؟
تولّى المعمار الإيطالي رينزو بيانو تصميم المشروع

وهل ستتعدّل خطة إنشاء «متحف تاريخ بيروت» بحيث لا تتضرّر الآثار، أم أنّ كل شيء سيبقى على حاله ولو كان الثمن طمس اكتشاف كبير هو متحف قائم بحد ذاته لمصلحة إقامة مبنى «صديق للبيئة وللجوار المحيط»، وفق ما قال أنطوان شعيا ذات مرّة؟ أسئلة كثيرة حاولنا وضعها في عهدة وزير الثقافة غطاس خوري، الذي باءت محاولاتنا المتكررة للتواصل معه بالفشل، إلى جانب المدير العام للآثار سركيس خوري الذي حاول استمهال النشر، ريثما يحصل على إذن رسمي لإجراء الحوار. لكنّ مصادر مقرّبة من الوزارة شكّكت في صحة ما «يشاع في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي»، مشيرة إلى أنّه لم يتم تقديم تقرير رسمي مفصّل لما تم اكتشافه. وحين تحصل الوزارة على المعلومات التي طلبتها، سـ«يُبنى على الشيء مقتضاه»! لكن في اللحظات الأخيرة، أرسلت لنا وزارة الثقافة بياناً استلحاقياً ننشره في مكان آخر من الصفحة.



نداء إلى رينزو بيانو
تحت عنوان «موقع تل بيروت الأثري في خطر ــ جرف أمتار من الآثار في الأيام القليلة المقبلة؟!»، أصدرت جمعية «نحن» أوّل من أمس بياناً تطرّقت فيه إلى تفاصيل الموضوع، معتبرة أنّ ما وجد يجعل من الموقع «متحفاً لا مجال لاحتوائه داخل متحف أساساً. لكنه لا يبدو كافياً لدفع أصحاب المشروع إلى تغيير خططهم». وطالبت الجمعية وزارة الثقافة ومديرية الآثار بـ«الكشف فوراً على الموقع وتوضيح سبب وجود ركائز الدعم عليه، والتصريح عن تقدّم عملية التنقيب وعن أهمية الاكتشافات الأثرية التي تمّت حتى الآن»، إضافة إلى «تقديم تفسيرات واضحة عن كيفية إنشاء مشروع «متحف تاريخ بيروت» على هذه الآثار من دون إلحاق الضرر بها». وطالبت «نحن» رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس الحكومة سعد الحريري بالتدخّل فوراً لـ«حماية تاريخ لبنان وبيروت».
على خط موازٍ، تستعدّ الجمعية لمراسلة مصمّم المتحف المعمار الإيطالي رينزو بيانو (80 عاماً) خطياً، بعدما أطلعته شفهياً على التطوّرات الأخيرة، ويبدو أنّ هناك أجواء «بلبلة» في انتظار حسم الموضوع، وفق ما أكد رئيس «نحن» محمد أيوب في اتصال مع «الأخبار». ومما جاء في نص الرسالة: «نكتب إليكم في حالة طارئة وضيق كبيرة في ما يتعلق بالتطوّرات الأخيرة المتعلقة بالحفريات في الموقع، حيث من المقرر إقامة «متحف تاريخ بيروت»، والتي كشفت عن ثراء غير متوقّع للاكتشافات... يتضح أنّ هذا الموقع بالذات هو موطن لبعض أهم البقايا التي تربط تاريخ بيروت عبر آلاف السنين، أهمها التحصينات الفينيقية...». وأضاف: «نكتب إليكم مدركين أنه تم تكليفكم بتصميم المتحف قبل انتهاء أعمال التنقيب. ونحن على يقين من أنّ شخصاً يملك مؤهلاتك وحساسيتك الشديدة للهندسة المعمارية والتاريخ سيأخذ هذا الأمر في الاعتبار ويحاول تجنّب كارثة يتردّد صداها محلياً وعالمياً». ودعت الجمعية بيانو إلى التداول مع علماء الآثار الدوليين واللبنانيين المعروفين بنزاهتهم العالية لإعادة تقويم الوضع قبل استئناف الأعمال من أجل الحفاظ على هذا الموقع الأثري الفريد والمهم».


وزارة الثقافة: ننتظر الملف
أصدرت وزارة الثقافة اللبنانية بياناً عن الحفريات الأثرية المكتشفة في موقع مشروع «متحف بيروت التاريخي». وجاء فيه: «تجري حفريات موقع Bey 208 من قبل فريق أثري من الجامعة اللبنانية ويعمل مباشرةً تحت إلإشراف العلمي للمديرية العامة للآثار حيث تتقدم أعمال التنقيب وفق الأصول المتبعة من حفر وتوثيق وتوضيب القطع الاثرية بالموازاة مع دراسة الكسر الفخارية للمساعدة في تأريخ الطبقات الأثرية.
لم تتخذ المديرية العامة للآثار أي تدبير في شأن الأعمال المنفذة من قبل الفريق الأثري في انتظار تسليمها ملفاً علمياً أثرياً وفق الأصول يظهر بشكل واضح نوع المكتشفات وإمتدادها وجردة باللقى الأثرية المكتشفة لغاية تاريخه.
يعمل الفريق الأثري حالياً على متابعة أعمال التنقيب، كما يقوم فريق آخر بمتابعة أعمال توثيق ورسم بقايا الفسيفساء المكتشفة لتحديد مصير عرضها وفق الأصول المتبعة.
إنّ المديرية العامة للآثار تدرك جيداً أهمية تاريخ بيروت وما تم إكتشافه وما تم دمجه أو إعادة دمجه داخل المباني والأمثلة لكثيرة في هذا الخصوص.
تم تلزيم دراسة التل الأثري الى شركة هندسة محلية بهدف تحضير ملف شامل حول سبل تأهيل التل الأثري، لاسيما أسواره ومداخله وفتحه لاحقاً أمام الزوار وفق مسارات منظمة إنطلاقاً من متحف تاريخ بيروت». وتابعت أنّه فور إكتمال المعلومات العلمية المتعلقة بالحفرية الأثرية، ستعرض النتائج على الرأي العام، «مع التأكيد بأنها غير مربكة في تقرير مصير الإكتشافات الأثرية وهي تعمل على بناء متحف يلخص تاريخ مدينة بيروت وفق الأصول والشروط العالمية المتبعة».