لم يترك أي خيار للفقراء. يجزم الخبير الاقتصادي كمال حمدان أن 800 ألف أسرة فقيرة ستنتخب الـ«حيتان» أنفسهم. هؤلاء الفقراء هم الذين يقفون على أبواب المرشحين اليوم لاستعطاء وظيفة واستجداء عمل ما. بحسب نائب يسعى إلى تجديد ولايته في المجلس النيابي، فإن معظم الطلبات الواردة من الناخبين في منطقته هي طلبات توظيف. «ليس باستطاعتنا أن نلبي هذا العدد الهائل من الطلبات، كما ليس بإمكان سوق العمل استيعاب كل طالبي العمل» على حدّ تعبير النائب نفسه. ليس هذا النائب، وغيره ممن يتلقون على الدوام عشرات وربما مئات طلبات التوظيف، سوى المثال الواضح عن واقع الفقر والبطالة. قبل بضع سنوات، كانت الحجّة الأكثر استعمالاً للتملص من طلبات الناخبين بالحصول على وظيفة في الدولة أو القطاع الخاص هي «سوء الأوضاع الاقتصادية». بعد نزوح السوريين إلى لبنان، صارت الذريعة هي الضغط الذي يشكّله النازحون على سوق العمل ومزاحمتهم للعمالة اللبنانية. حجّة لم تُستعمل للتهرّب من التوظيف الزبائني فحسب، بل للتهرّب من مطلب زيادة الأجور في القطاع الخاص تعويضاً عن تضخّم الأسعار. ففي الأشهر الماضية، كانت هناك نقاشات غير رسمية بين الاتحاد العمالي العام وهيئات القطاع الخاص برئاسة محمد شقير. قال الأخير للاتحاد العمالي «نتخوّف من أن تؤدي الزيادة على الأجور إلى زيادة معدلات البطالة التي ارتفعت بسبب منافسة العمالة السورية للعمالة اللبنانية. الأولوية بالنسبة إلينا أن يكون هناك وظائف إضافية للبنانيين بدلاً من زيادة الأجور».
طرح شقير لاقى رواجاً واسعاً لدى قيادة الاتحاد العمالي برئاسة بشارة الأسمر. قيادة لم تحِد قيد أنملة عن النهج السابق برئاسة غسان غصن. فمنذ أكثر من سنة، يصرّح الأسمر مطالباً بتصحيح الأجور، لكنه لم يقم بأي خطوة في هذا الاتجاه، لا بل رفض أن يعقد مفاوضات رسمية مع أصحاب العمل، إذ يقول شقير: «طلبنا الاجتماع رسمياً لمناقشة مطلب زيادة الأجور وأبلغنا (الأسمر) أنه يمكن تحديد موعد للقاء بعد الانتخابات».
شقير والاتحاد العمالي لا يعبّران عن مصالح مترابطة أو متباعدة بين طبقات وفئات اجتماعية مختلفة، بل هما يمثّلان مصالح النظام وجوهر ديمومته. «فلسفة النموذج أنه قائم على نظرة دونية لمستوى الأجر في القطاع الخاص، وأن القطاع العام هو أساس عملية احتواء الطوائف» وفق الخبير الاقتصادي كمال حمدان. برأيه، «النموذج لا ينظر إلى الطبقة الوسطى سوى أنهم سلعة للتصدير، لذا يغلب على النشاطات الاقتصادية الطابع الريعي أو المالي أو الخدماتي، وتقع الغالبية ضمن خط الـ 1200 دولار». كل أسرة تحت هذا الخط، أي أن دخلها يقلّ عن 1200 دولار، تعدّ أسرة فقيرة. «وعلى افتراض أن معدل عدد أفراد الأسرة يتجاوز 4 أفراد، وأن معدل النشاط ضمن الأسرة الواحدة يبلغ 1.6، وأن هناك أكثر من 1.5 ناشط اقتصادي في لبنان، فإن عدد الأسر الفقيرة يتجاوز 800 ألف. هذه الأسر تشكّل طبقة مشتتة، وهي ذاهبة الأحد المقبل للتصويت للحيتان أنفسهم»، يقول حمدان.
لا يرى حمدان في سلوك هذه الطبقة أي جديد. المثال هو الحركة النقابية التي «فرطت منذ أكثر من 25 سنة». ما يريد حمدان قوله، هو أن حماة النظام كثر، وأن غياب قضية تصحيح الأجور عن برامج الساعين إلى الفوز بمقعد نيابي، ليست إلا تعبيراً عن انتشار ثقافة معادية للعمّال، وليس مسموحاً تسرّبها إلى أسوار نادي الطبقة الحاكمة التي تحمل منهجاً واحداً لإدارة الشؤون السياسية.
الاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية: وجهان لعملة سياسية واحدة


حماية النظام لا تقتصر على اختيار نواب ووزراء يعملون بدوام كامل لخدمة زعماء يسهرون على تطييف المجتمع واستغلاله، بل يجب أن يضمنوا أن المسار التشريعي والرقابي سيخدم المصالح التي تموّل استمرار الزعامات والأحزاب والسياسيين المساهمين في هذا النموذج. ويتم التعامل مع المطالبين بتصحيح رؤية النظام تجاه سوق العمل وفصل السياسة عن الوظائف العامة، على أنهم خوارج. هذا بالتحديد ما حصل مع وزير العمل السابق شربل نحاس يوم خاض معركة زيادة الأجور في 2012، إذ اضطر في النهاية إلى الاستقالة. لم يكن نحاس نائباً، بل كان وزيراً من ضمن تكتل التغيير والإصلاح الذي يملك كتلة نيابية وازنة ويحارب اليوم من أجل توسيعها واستعادة ما يسميها «الحقوق المسيحية».
هذه الكتلة ليست وحدها في مجال الدفاع عن أركان النموذج. ففي عام 2012 اتفق رئيس مجلس النواب نبيه برّي مع ممثلي أصحاب العمل على ألا يتم التطرّق إلى شطور الأجر في حال الحديث عن أي زيادات مستقبلية. الشاهد على ذلك، هو شقير الذي يجزم بالآتي: «نحن نثق بدولة الرئيس نبيه بري وبالتزامه معنا في ما اتفقنا عليه يوم وافقنا على إعطاء زيادة على الأجور في 2012، لذا يجب أن ننسى أي زيادة على شطور الأجر». ويردّ شقير على سؤال يتعلق بعدم تبني أي من المرشحين خطاب تصحيح الأجور، رغم أنه مطلب شعبوي ومناسب للعمل السياسي والانتخابي بالقول: «إنهم عاقلون وهم يعلمون أن البلد لا يتحمّل».
في الواقع، يتبنى خطاب شقير كل الطبقة السياسية التي ترفض الخوض في طبيعة الأزمة الاقتصادية وحقيقتها ودور العمّال فيها. هذه الطبقة لا ترى في العمال إلا ناخبين مطيعين يمكن تصديرهم في مقابل استيراد الدولارات من الخارج. بالنسبة إلى حمدان «إن تصحيح الأجور ليس وارداً اليوم على المدى القصير. ليس على الأقل قبل تشكيل الحكومة بعد الانتخابات».
هلّلوا يا ناخبي لبنان.