حددت طهران مسارها لما بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني. حصلت حكومة روحاني على ضوء أخضر مشروط من المرشد الأعلى علي خامنئي، لمواصلة التنسيق مع الأوروبيين، وسط اضمحلال فرص مشاورات كهذه. وعلى رغم أن الأوروبيين يواصلون التأكيد على التمسك بالاتفاق والتجارة مع إيران، فإن الضغوط الأميركية تظهر بحجم يبدد الرهان على قدرة أوروبا مقاومة التصعيد الأميركي.تفاوتت المواقف الإيرانية من إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خروج بلاده من الاتفاق النووي. في ردود الفعل المتنوعة بين المؤسسات العسكرية والإدارية والدبلوماسية قواسم مشتركة، تؤشر إلى أن الرد سيكون موحداً ومدروساً ومتدحرجاً. بات الجميع في طهران أمام «حقيقة» أن التوصل مع الولايات المتحدة إلى اتفاق، وتحقيق التزام به، أمر صعب المنال. «حقيقة» مثّلت، منذ اليوم الأول لظهور بوادر التهديدات الأميركية، وجهة نظر المرشد علي خامنئي، الذي ظهر أمس «غير متفاجئ» بقرار ترامب. إلا أن الزعيم الإيراني، الذي لم يعرقل مشروع حكومة الرئيس حسن روحاني وقتها، ليس اليوم في وارد استخدام «حق الفيتو» لتبني رؤيته، ما سيسمح بـ«المحاولة الأخيرة» لكل من روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف، من أجل استكشاف هامش المناورة الأوروبي، في ظل قرار التصعيد الأميركي.
وشكّك خامنئي، في أول ردٍّ له على انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، في وجهة كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وتمايزها عن واشنطن، قائلاً: «سبق أن قلت مراراً أن لا تثقوا بأميركا... إنني لا أثق بهذه الدول الثلاث أيضاً، وأقول: لا تثقوا بهم. إن أردتم توقيع اتفاق، فاحصلوا منهم على ضمانات حقيقية وعملية، ودون ذلك سيفعل هؤلاء غداً ما قامت به أميركا اليوم، لكن بأسلوب آخر». وأضاف أنه لا يمانع مواصلة التفاوض مع الأوروبيين إذا ما قدموا ضمانات، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن تقديم الترويكا الغربية لمثل ضمانات كهذه «أمر مستبعد جداً». وإذ عزا التحركات الأميركية إلى «عداء بنيوي» مع النظام الإيراني، رفض التفاوض على برنامج إيران الصاروخي ودورها في المنطقة، مشدداً على أن واشنطن تريد «عملاء» لها مثل دول الخليج، بينما حققت الثورة الإيرانية استقلال البلاد. وتوجه إلى الحكومة بالقول: «لو أعلنتم غداً أننا لن نصنع الصواريخ أو أننا سنحدد مدياتها لن تنتهي هذه القضية، من المؤكد أنهم سيطرحون ذريعة وقضية أخرى».
خامنئي: واشنطن تريد عملاء لها مثل دول الخليج


وفيما بدت تصريحات القادة العسكريين في الجيش متريثة بانتظار مهلة الرئيس، حدد روحاني، أمس، وجهة عمل الحكومة للمرحلة المقبلة، في اتصال هاتفي مع نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مشترطاً التوصل إلى اتفاق «خلال فترة قصيرة ومحددة»، يوضح «مصالح إيران» من الاتفاق ويضمن استمرارها، مثل قضايا «بيع النفط والعلاقات المصرفية والتأمين». وشدد على أن «اتفاقاً واضحاً وشفافاً» يجب التوصل إليه «خلال سلسلة من الاجتماعات المتتابعة» بين إيران والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. من جهته، ركّز ماكرون في الاتصال على انضمام طهران إلى فرنسا وبريطانيا وألمانيا «في تمسكها ببنود الاتفاق»، مبدياً استعداد باريس «لمواصلة العمل بالاتفاق النووي في جميع النواحي». وبحسب بيان للإليزيه، كشف عن اجتماع قريب لوزيري خارجية إيران وفرنسا، فإن ماكرون صارح روحاني بنيته «إجراء مناقشات أوسع نطاقاً مع كل الأطراف المعنية بشأن تطور برنامج إيران النووي بعد 2025، عندما ينقضي أجل بعض بنود الاتفاق الحالي»، بالإضافة إلى «برنامج إيران للصواريخ الباليستية وقضايا أوسع نطاقاً تتعلق بالشرق الأوسط».
الموقف الفرنسي المائل إلى تبني الضغوط الأميركية يؤكد وجهة النظر المتشائمة حيال إمكانية التوصل إلى اتفاق مع الإيرانيين يحفظ الصفقة النووية، خصوصاً مع تركيز ماكرون على مناقشة ملفي الصواريخ والدور الإقليمي، فيما تنصبّ جهود إيران على تطبيق الاتفاق المبرم نفسه والمصالح الناجمة عنه. وبهذا الموقف، يكون ماكرون مترجِماً لضغوط واشنطن التي باتت ترى أن الموقف الإيراني صار ضعيفاً، ويمكن ابتزازه أكثر لعقد اتفاق جديد. وهو ما سارع ترامب، أمس، إلى قوله عبر إطلاقه تهديداً جديداً ضد إيران في حال رفضها التفاوض من جديد، بقوله «إن على إيران أن تتفاوض، وإلا فسيحدث شيء ما».
تهديد ترامب أتبعه البيت الأبيض بإعلان تأكيد وجود رزمة عقوبات جديدة ستفرض الأسبوع المقبل «على أقرب تقدير»، تضاف إلى تفعيل «كل العقوبات التي كانت قائمة قبل الاتفاق» بهدف ضمان «عدم تطوير أسلحة نووية».
وأمس، توالت الاتصالات الدبلوماسية عقب تواصل روحاني وماكرون. إذ هاتف كل من وزيري خارجية فرنسا وبريطانيا نظيرهما الإيراني، وجرى الاتفاق على تكثيف المشاورات. في غضون ذلك، توسعت ردود الفعل المنددة بقرار ترامب. وفيما أبدى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، «بالغ قلقه» من القرار، دعت الهند إلى «بذل الجهود الدبلوماسية لحل الخلاف». أما عربياً، وعلى عكس السعودية والإمارات، المرحِّبتين بقرار ترامب، خرجت الكويت وقطر بموقف حذر من القرار، فيما أعلنت سلطنة عمان «تقديرها» لموقف الشركاء الخمسة الآخرين «في تمسكهم بهذا الاتفاق بما يسهم في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي».
على صعيد الشارع الإيراني، الذي تداخلت لديه مشاعر الغضب والقلق في آن واحد، بات الاهتمام مشدوداً إلى مآلات الوضع الاقتصادي وتأثيرات القرار الأميركي، وذلك في وقت لا تظهر فيه بوادر إيجابية إلى تماسك الموقف الأوروبي، سوى تأكيد وزارة الخزانة البريطانية دعمها لاستمرار العلاقات التجارية مع الجمهورية الإسلامية، وكذلك تلميح باريس إلى لجوء أوروبا للطعن أمام منظمة التجارة العالمية «ضد أي إجراءات أحادية تضر بمصالح الشركات الأوروبية». في المقابل، أعلنت الحكومة الإيرانية، أمس، أنها أعدت «خطة تتناسب مع ظروف انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي»، وكشف المتحدث باسم الحكومة، محمد باقر نوبخت، عن أن «هناك ميزانية قد رصدت وتتناسب مع مختلف الأوضاع».



السعودية: سنغطي النقص في الأسواق
تحاول السعودية، التي رحّبت قبل ثلاث سنوات بالاتفاق النووي وعادت ورحّبت بانسحاب واشنطن منه، أن تظهر بموقف الشريك للأميركيين في الحرب ضد إيران. وسارعت، أمس، على لسان وزير الطاقة خالد الفالح، التلويح باستعدادها لسد النقص المحتمل من العقوبات على إيران في مجال تصدير النفط. وقال الفالح: «على إثر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، نؤكد على التزام المملكة بدعم استقرار الأسواق البترولية لما فيه مصلحة المنتجين والمستهلكين للحد من آثار أي نقص في الإمدادات». وأضاف: «إننا على اتصال وثيق مع رئاسة منظمة أوبك وروسيا والولايات المتحدة وسنتواصل مع المنتجين الآخرين داخل أوبك وخارجها، إضافة إلى المستهلكين الرئيسيين خلال الأيام القليلة المقبلة لضمان استقرار أسواق النفط».
في المقابل، نقلت «رويترز» عن مصدر في «أوبك» قوله إنه «ينبغي ألا يتعامل الناس مع قيام السعودية بإنتاج المزيد من النفط بمفردها كأمر مفروغ منه. نحتاج أولاً إلى تقييم الأثر إذا كان هناك أثر على صعيد التعطيلات وعلى صعيد تراجع إنتاج إيران من جهة ثانية». وأشار المصدر إلى جهود سعودية مع الإمارات وروسيا من أجل «التنسيق ومشاورات السوق»، مشدداً على أن أي إجراء سيتخذ سيكون منسقاً. في غضون ذلك، جدد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، التهديد بأنه «إذا حازت إيران على قدرات نووية سنبذل كل ما بوسعنا للقيام بالشيء نفسه».
(رويترز)