عاد الزعيم الماليزي مهاتير محمد إلى سدة الحكم في كوالالمبور، من بوابة الانتخابات التشريعية. صعود «صانع نهضة» البلد الآسيوي ستكون له ارتدادات في المنطقة، وخصوصاً في الرياض وأبو ظبي، حيث راهن الحكام على دعم مالي سخي لإبقاء حليفهم رئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق، الذي مني بخسارة في الانتخابات لمصلحة منافسه المعارض لسياسات السعودية، وخصوصاً في حربها ضد اليمن.لم تستفق السعودية بعد من صدمة الانتخابات البرلمانية اللبنانية، حتى أتتها الانتخابات الماليزية، لتزيد النكسات السياسية على الرياض وحلفائها، في القارة الآسيوية. عاد مهاتير محمد إلى الحياة السياسية الماليزية بشكلٍ رسمي بعد 15 عاماً من الغياب، ليفوز تحالف «الأمل» المعارض الذي يقوده، بـ 112 مقعداً من أصل 222، ويحوز الأغلبية الساحقة في البرلمان الماليزي، ما سيسمح له قانوناً بتشكيل الحكومة، فيما تعرّض التحالف الحاكم، بقيادة حليف الرياض، نجيب عبد الرزاق، لخسارةٍ مدوية بحصوله على 79 مقعداً، بعدما كان يملك في البرلمان السابق 133 مقعداً، أي أنه خسر 54 مقعداً.
على الرغم من «الهِبات» السعودية الخاصة لرئيس الوزراء عبد الرزاق، بالإضافة إلى الصفقات بمليارات الدولارات التي أبرمتها كوالالمبور مع الرياض خلال الفترة السابقة، وتحديداً خلال الزيارة الآسيوية التي قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز، في شباط 2017، فإنّ جميع تلك العوامل لم توصل عبد الرزاق إلى الحكم مجدداً، إذ إن «دبلوماسية الشيكات السعودية» لم تنفع في إبقاء الحليف رئيساً لوزراء البلاد.
الدعم المالي السعودي اللامحدود لعبد الرزاق، انكشفت معالمه في نيسان عام 2016، حين ضجت وسائل الإعلام الماليزية بخبر عن هِبة سعودية سرية قدمتها الرياض لرئيس الوزراء الماليزي، ودُفعت عبر تحويلات على دفعات بين أواخر شهر آذار عام 2013 وأوائل نيسان من العام نفسه، قبيل الانتخابات التي أجريت في الخامس من أيار من العام نفسه. الهبة حينها صدّق عليها الملك السعودي السابق، عبد الله بن عبد العزيز، حيث دفعت الأموال من حساب الملك الشخصي وخزينة الدولة السعودية، وفق ما كشفته مصادر سعودية، ليتبين في ما بعد أن الهبة الضخمة التي قدمتها العائلة المالكة السعودية لرئيس وزراء ماليزيا كانت بهدف مساعدته على الفوز بانتخابات عام 2013.
سبق للزعيم الماليزي أن اعتبر أنّ الرياض ليست شريكاً مناسباً


الاتهامات التي كانت موجهة لعبد الرزاق، كانت تتمحور حول مصدر الأموال، وإذا كانت قد حوّلت من خلال صندوق التمويل الحكومي «إم دي بي 1». تبرئة المدعي العام الماليزي له تزامنت مع مزاعم وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، حينها، بقوله إن مبلغ 681 مليون دولار الموجود بالحساب المصرفي لرئيس الوزراء الماليزي، كان هبة من السعودية مباشرة وليس من خلال الصندوق. وبغض النظر عن الأسباب، فقد أثارت تلك الفضيحة في ظل الانكماش الاقتصادي الذي كانت تعانيه البلاد بسبب أزمة انخفاض أسعار النفط، وما تبعها من تبرئة لرئيس الوزراء الماليزي، حالة من السخط الشعبي، وطرحت تساؤلات حول نيات العائلة المالكة السعودية «التبرع» بأكثر من نصف مليار دولار لرئيس وزراء ماليزيا؟
إماراتياً، ارتبط اسم عبد الرزاق بأموال حولتها شركة الاستثمارات البترولية الدولية «إيبيك» المملوكة لحكومة أبو ظبي، إلى الصندوق الحكومي ذاته. ففي عام 2005، قالت الشركة إنها وافقت على منح صندوق التنمية الماليزي مليار دولار نقداً، علاوة على تحمل 3.5 مليارات دولار من ديونه في مقابل بعض أصوله، وسط تسريبات عن أن هذه الأموال تحولت بعد ذلك لحساب عبد الرزاق. المخاوف من تداعيات تورط عبد الرزاق في قضايا فساد وغسيل أموال مع الرياض وأبو ظبي، عبّر عنها الكاتب السعودي جمال الخاشقجي، في تغريدات على «تويتر»، بقوله إن «هزيمة نجيب عبد الرزاق ستصل آثارها إلى ضفافنا، فثمة شركاء له في الفساد بعالمنا».
الدعم المالي والسياسي السعودي والإماراتي لعبد الرزاق، يشي بأن الرجل كان الأداة التي حاولت من خلالها الرياض وأبو ظبي السيطرة على القرارات السياسية والعسكرية والاقتصادية لكوالالمبور، إلا أن هذا الدعم لم يمنع «صانع نهضة ماليزيا»، مهاتير محمد، كما يصفه الشعب الماليزي، من العودة إلى الحياة السياسية الماليزية بعد 15 عاماً من الغياب. تلك العودة تأتي محملة بغضبٍ شعبي على حلفاء الرياض، ظهر في الإقبال الكثيف على الانتخابات، الذي تجاوزت نسبته الـ 70 في المئة، في الوقت الذي كان فيه تحالف عبد الرزاق يحاول تقليل نسب الاقتراع، خوفاً من التأييد الشعبي الجارف لمحمد.
مهاتير محمد عاد إلى السياسة منذ عامين معارضاً لرئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق، بعد استقالته من حزب «أمنو» الحاكم للبلاد، قائلاً إن «من المخجل أن يرتبط بحزب يدعم مظاهر الفساد في البلاد»، معلناً أنه سيتصدى لسياسات عبد الرزاق.
السلطة التي تركها مهاتير محمد طواعيةً في عام 2003، تعود إليه بزخمٍ أكبر في عام 2018 عن عمرٍ ناهز الـ 92 عاماً، بعدما حققت البلاد نهضة اقتصادية هائلة بقيادته «الجبهة الوطنية» والحكومة بين عامي 1981 و2003.
الخسارة السعودية ــ الإمارتية في ماليزيا لا تكمن في عدم وصول حليفها عبد الرزاق إلى السلطة فحسب، بل بوصول رجلٍ ضد سياساتها أيضاً. مهاتير محمد، الذي سيتسلم رئاسة وزراء أحد أكبر البلدان الإسلامية في العالم، كان معارضاً بشدة للعدوان السعودي على اليمن، ووجه نداءً إلى الرياض في تشرين الثاني الماضي، أي قبل الانتخابات بأشهر، ناشد فيه حكّام الأخيرة الرحمة بكل أبرياء اليمن العزل، معتبراً أن العالم كله يقشعر ذعراً لما تسببت به هذه المأساة، وأن كل مسلم يشعر بالخزي والعار لما يحدث في اليمن، واصفاً تلك الحرب بـ«الحرب الوحشية ضد الشعب اليمني»، قاطعاً الطريق بذلك أمام أي محاولةٍ سعودية لإشراك ماليزيا في العدوان، بتعبيره عن رفضه المطلق للسياسات السعودية في اليمن.
وقد سبقت نداءه حول اليمن، تصريحات عنيفة له ضد الرياض، إذ اعتبر خلال مقابلةٍ له نشرها موقع «فري ماليزيا توداي» في تموز 2016، أن السعودية ليست شريكاً مناسباً لماليزيا في تعزيز الاعتدال في العالم الإسلامي أو في مكافحة الإرهاب، وجاء ذلك بعد سؤاله عن رأيه بقرار حكومة عبد الرزاق الموافقة على تقديم قطعة أرض مساحتها 16 هكتاراً في منطقة بوتراجايا حيث مقر الحكومة، من أجل إقامة «مركز الملك سلمان للسلام الدولي».
إلى جانب موقفه الرافض للسياسات السعودية، كان لمهاتير محمد موقف بارز في ما يخص قضية القدس واعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالمدينة المحتلة عاصمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي. محمد، وخلال حشدٍ كبيرٍ نُظِّم احتجاجاً على الخطوة أمام السفارة الأميركية في كوالالمبور، في كانون الأول الماضي، وصف ترامب بـ«الشرير» الذي يجب استخدام كل القوة لمواجهته، داعياً جميع الدول الإسلامية إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل.
إطاحة حليف الرياض وأبو ظبي في ماليزيا، تعكس مشهداً سياسياً جديداً في البلد الإسلامي الذي يمثل قوة صاعدة في جنوب شرق آسيا، وقد برز ذلك واضحاً في مواقف مهاتير محمد في الأشهر الماضية التي سبقت الانتخابات، والمتعارضة بكاملها مع المواقف السعودية، بدءاً من اليمن، وصولاً إلى القضية الفلسطينية، وليس انتهاءً برفض مشاركة السعودية مزاعم حربها على الإرهاب.



أداء اليمين


أدى الزعيم السياسي الماليزي المخضرم مهاتير محمد، أمس، اليمين الدستورية لتولي رئاسة الوزراء في البلاد إثر فوزه الساحق والمفاجئ بالانتخابات التي كانت قد جرت أول من أمس. وارتدى مهاتير الزي التقليدي للمالاي، وأدى اليمين بحضور الملك في القصر الوطني. وقال أثناء أداء اليمين: «أنا مهاتير محمد، وبعد انتخابي رئيساً للوزراء أقسم بأن أتولى مهماتي بكل قوايَ وأن أكون وفياً لماليزيا وأصون الدستور».
(أ ف ب)