«نعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مواطناً فخرياً»، قال رئيس بلدية نوفي بازار، الشهر الماضي، خلال احتفالات استمرت أسبوعاً بمناسبة الذكرى الـ 557 لبناء المدينة الواقعة جنوب غرب صربيا. «اللفتة الرمزية» جاءت لـ«شكر» الرئيس التركي على «جهوده في بناء البنية التحتية» للمدينة ذات الأغلبية المسلمة، التي زارها في تشرين الأول الماضي، وسط ترحيب شعبي حاشد من قبل آلاف المواطنين الصرب الذين توافدوا من عموم أرجاء البلاد.المشهد في المدينة التي تتفاخر الأوساط التركية بأنها تأسست على يد قائد عسكري عثماني في عام 1461، يختصر النفوذ التركي المتصاعد ليس في جزء من صربيا فحسب، وهي الدولة التي طالما كانت «حذرة» من أنقرة، إنّما في البلقان ككل، وهي المنطقة التي منها بدأ أردوغان يشعر بنشوة التحوّل من رئيس تركي إلى قائد إقليمي وزعيم إسلامي.
التقارب التركي ـــ الصربي، أو التركي ـــ البلقاني، ليس مفاجئاً، وذلك في ظل الروابط التاريخية والثقافية والإنسانية بين الطرفين، فضلاً عن المصالح المشتركة من الناحية الجغرافية والسياسية والاقتصادية. إلا أن النشاط التركي في البلقان كان مباغتاً بالنسبة الى الأوروبيين الذين، بعد 15 عاماً من التجاهل والاستخفاف، عقدوا اجتماعاً مع ست دول بلقانية (ألبانيا والبوسنة والهرسك وصربيا ومونتينيغرو ومقدونيا وكوسوفو)، أمس، بغية لملمة الوضع والحد من «الخسائر». تحرك أوروبي يخشى المراقبون أن يكون قد جاء متأخراً.

بديل من أوروبا
في كتابه «العمق الاستراتيجي: الموقع الدولي لتركيا»، رأى رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، في منطقة البلقان الباب الذي من خلاله ستفرض تركيا نفسها كقوة أوروبية حقيقية وتستعيد مكانتها ودورها كقوة عظمى في السياسة الدولية. «السياسي العبقري» الذي تقلّد منصب وزير الخارجية بين 2009 و2014، ومنصب رئاسة الوزراء بين 2014 و2016، رسم خطوط العودة على بقايا الخرائط العثمانية، معتبراً أن إحياء الإمبراطورية يجب أن يبدأ من المنطقة التي بدأ فيها الانهيار، وهي البلقان. هذا الطموح التركي عادت وكشفته برقية سرّبها موقع «ويكيليكس»، تعود إلى كانون الثاني عام 2010، تقول إن وزير الخارجية (حينها) داود أوغلو، «يسعى لأن يعيد لتركيا في البلقان النفوذ الذي كانت تتمتع به في عهد السلطنة العثمانية».
منذ عام 2009، وانطلاقاً من فهمها التاريخي المعمق للقضايا المرتبطة بالولاءات والنفوذ في البلقان، استثمرت تركيا بهدوء البعد الإسلامي والأثر العثماني السابق في عديد من دول تلك المنطقة، ونجحت، إلى حد ما، في ملء الفراغ الكبير الذي تركه الاتحاد الأوروبي في الجناح الشرقي من القارة.
فالمنظومة الأوروبية ركّزت بصورة أساسية على دول غرب أوروبا ووسطها، واكتفت بضم بلغاريا ورومانيا في شرق القارة، إلى الاتحاد، في خطوة واجهت أصلاً معارضة شرسة من بعض القادة المتحفّظين والقوميين. أما باقي دول جنوب شرق أوروبا، فبقيت طوال العقود الماضية خارج إطار اهتمامات الاتحاد وأولوياته، ما ساعد أنقرة (ومعها روسيا) على إبراز نفسها كبديل سياسي واقتصادي قادر على احتضان هذه الدول «اليتيمة».
في 24 نيسان عام 2010، وبينما كانت أوروبا منهمكة في تدارك أزمتها الاقتصادية والمالية، استطاعت إسطنبول أن تجمع للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب قادة كل من البوسنة والهرسك وصربيا، في قمة «تاريخية» تُوِّجت بـ«إعلان اسطنبول»، الذي يؤكد تمسك الثلاثي بالسلام والاستقرار في منطقة لم تعرف أياً منهما.
كان أردوغان قد استهزأ من انزعاج البعض من أنشطة تركيا في البلقان


ومع نجاح أنقرة في تأدية مهماتها كرئيس دوري لـ«عملية التعاون في جنوب شرق أوروبا»، وهو منتدى للحوار بين دول البلقان وجيرانها المباشرين، ما بين حزيران 2009 وحزيران 2010، ورعايتها المصالحة بين كرواتيا والبوسنة والهرسك، طرحت تركيا نفسها كقوة إقليمية فاعلة ومؤثرة. في تلك الفترة، نشّطت أنقرة علاقاتها مع دول البلقان، وتفيد البيانات بأنّ حجم الصادرات التركية إلى تلك المنطقة حتى عام 2000 بلغ 2.9 مليار دولار، ليرتفع إلى 7.53 مليارات دولار حتى 2011، والأرقام في تصاعد متواصل منذ ذلك الحين. وفي هذا الصدد، لفت التقارب التركي ــ الصربي الأنظار أخيراً، ولا سيما أنّ صربيا دولة مرشحة «جدياً» للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ عام 2012.
ففي الثامن من الشهر الجاري، استهزأ أردوغان من «انزعاج البعض من أنشطة تركيا في البلقان وتعاونها القوي مع صربيا والبوسنة والهرسك»، مؤكداً أن «الجهود التركية توجه صفعة قوية للذين لديهم أطماع في المنطقة ويعقدون آمالهم على الاستفادة من الأزمات والاضطرابات فيها». كما أكّد الرئيس التركي أن بلاده ستواصل سعيها وجهودها لـ«إعادة بناء الآثار التاريخية في البلقان وإحيائها»، وذلك عبر «وكالة التعاون والتنسيق التركية ـــ تيكا»، «سواء أعجب ذلك الغرب أو لم يعجبه».
وفي مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الصربي ألكسندر فوسيتش، أعرب الرئيس التركي عن سعادته لتخطي حجم التبادل التجاري بين تركيا وصربيا المليار دولار العام الماضي، للمرة الأولى، مشيراً إلى أن لـ«تيكا» أكثر من 220 مشروعاً في صربيا. من جهته، قال وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي، إن بلاده وصربيا تتطلعان إلى رفع التبادل التجاري بينهما إلى 5 مليارات دولار سنوياً في الأعوام المقبلة، موضحاً أن حجم التجارة بين البلدين ارتفع بنسبة 40 بالمئة خلال الأشهر الأربعة الأولى من 2018، مقارنة مع الفترة نفسها في 2017.
وليست صربيا الوحيدة المعنية بهذا التبادل، إذ تعتبر جمهورية البوسنة والهرسك في مقدمة الدول التي تستفيد من الاستثمارات التركية. ففي شباط الماضي، كشف رئيس وزرائها دينيس زيفزديش، أن حجم التبادل التجاري مع تركيا خلال السنوات الثلاث الماضية ارتفع إلى 700 مليون يورو، ومن المتوقع أن يبلغ مليار يورو بحلول عام 2020.
كما تعتبر تركيا من أهمّ الشركاء في كوسوفو، اذ احتلت أنقرة عام 2016 المركز الثاني (35 مليون يورو) في قائمة الدول صاحبة «الاستثمار الأجنبي المباشر»، فيما احتلت سويسرا المركز الأول (62 مليون يورو).
وتعد ألبانيا حليفاً استراتيجياً لتركيا، فوفق الأرقام استثمرت تركيا في ألبانيا ما يزيد على مليار دولار خلال السنوات العشرين الماضية، فيما تحتلّ المرتبة الثالثة في مجال التجارة مع ألبانيا بعد إيطاليا واليونان، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين قرابة 420 مليون دولار. وتطمح تركيا إلى رفع هذه القيمة إلى خمسة أضعاف في السنوات المقبلة، مع إبرام 160 اتفاقية مشتركة في مختلف المجالات.
في المقابل، لا تقدّم البلقان أي مكاسب اقتصادية تذكر لأنقرة. فالصادرات التركية للمنطقة تشكّل 1.32 في المئة من عموم الصادرات التركية، بينما تشكّل الواردات منها 0.32 في المئة فقط. لكن في الواقع، فإن «المكسب» التركي الكبير استراتيجي.

الولاء لتركيا
«زرت (الرئيس الأول للبوسنة والهرسك علي عزت) بيغوفيتش في المستشفى قبيل وفاته، وهمس في أذني حينها قائلاً: البوسنة والهرسك في عهدتك، هما ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية»، قال أردوغان، في شباط الماضي، في رسالة مصوّرة ضمن برنامج لإحياء الذكرى الـ 25 لاستقلال البوسنة.
توفي عزت بيغوفيتش في عام 2003، ليحمل بعدها الرئيس التركي «الأمانة» وينصّب نفسه الوريث الشرعي لجمهورية قالت التيارات التي تمثل الأقليات فيها، ومن ضمنها الأقلية الصربية، إنها «ليست أرضاً خاصة لتكون موروثة».
التغلغل التركي فيها بات واقعاً لا يمكن تجاهله، وخاصةً في صربيا. فبالإضافة إلى البعد الاقتصادي، هناك بعد أمني (وقّعت تركيا وصربيا 6 اتفاقات تعاون، أبرزها بروتوكول تعاون بين أكاديمية الشرطة التركية وأكاديمية الدراسات الجنائية والشرطة الصربية)، وآخر سياسي، انعكس في شكر الرئيس التركي لنظيره الصربي على «الدعم الذي قدمه لبلاده خلال مكافحتها لمنظمة فتح الله غولن الإرهابية... وحزب العمال الكردستاني الإرهابي».
ولأنقرة دور في كل المبادرات الدولية في دول البلقان، إذ تشارك بعناصر من الجنود والشرطة في القوات الدولية الموجودة في البوسنة والهرسك وكوسوفو، سواء كانت عسكرية (قوات حفظ السلام في كوسوفو KFOR وقوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوربي في البوسنة والهرسك EUFOR)، أو مدنية (بعثة الأمم المتحدة للإدارة المؤقتة في كوسوفو UNMIK وبعثة سيادة القانون في كوسوفو التابعة للاتحاد الأوربي EULEX). كما تقدم تركيا دعماً قوياً للقوات المسلحة الألبانية في جهودها لتطوير ذاتها، وسبق أن شاركت القوات الألبانية في مهمات «حلف شمالي الأطلسي» في كل من كوسوفو وأفغانستان تحت القيادة التركية.
وتخصّص «تيكا» 18.5 في المئة من عموم المساعدات التي تقدّمها للبلقان، وبالذات إلى كل من البوسنة وصربيا ومقدونيا، في حين تستهدف بشكل خاص الأقليات المسلمة من خلال إعادة ترميم التاريخ العثماني في المنطقة، بما في ذلك مئات المساجد والجسور والحمامات الأثرية. كما تعمل على نشر الحضارة الإسلامية بنسختها التركية من خلال إرسال الأئمة وبناء المساجد (مسجد «نامزغا» في العاصمة الألبانية تيرانا، الذي يعتبر أكبر مسجد في البلقان) من جهة، واللغة التركية من خلال معاهد التعليم المنتشرة في جميع دول غرب البلقان، ولا سيما في البوسنة ومدارسها بموجب اتفاق موقّع بين البلدين، من جهة أخرى. وفي هذا السياق، يُذكر أن وزير الخارجية التركي السابق، داود أوغلو، كان قد صرح بأنّ «عدد مواطني البوسنة والهرسك وألبانيا وكوسوفو في تركيا يفوق عدد الذين يقطنون هذه الدول»، وبالتالي فإن الروابط بين هذه الدول «متجذّرة».
والشهر الماضي، تجلّى حجم النفوذ التركي في الداخل الكوسوفي عقب إعلان أنقرة أنها أعادت إلى البلاد 80 شخصاً يشتبه في أنهم من أتباع «حركة فتح الله غولن»، وذلك بعد سلسلة عمليات «طرد سرية». ومن بين هذه العمليات السرية، ما قامت به وزارة الداخلية الكوسوفية وجهاز الاستخبارات التركي، في آذار الماضي، حين أعادت إلى تركيا خمسة معلمين وطبيباً يعتقد بأنهم من «أتباع غولن». وأثارت العملية أزمة كبيرة بين البلدين، نظراً الى عدم إبلاغ كلّ من الرئيس الكوسوفي ورئيس الوزراء، ما دفع الأخير إلى إقالة كبار مسؤوليه الأمنيين، في خطوة أثارت غضب الرئيس التركي.
وفي تصريح استفزازي واستعلائي، قال أردوغان: «أنت يا رئيس وزراء كوسوفو، من قال لك أن تفعل ذلك؟ منذ متى بدأت تحمي هؤلاء الذين حاولوا القيام بانقلاب في تركيا؟».

أوروبا قلقة: لماذا الآن؟
أسباب عدة دفعت القادة الأوروبيين إلى عقد القمة الأوروبية ـــ البلقانية، من بينها الصعود الروسي و«الصمود السوري» والتوسع الصيني، وصولاً إلى صاحب شعار «أميركا أولاً» في البيت الأبيض وانقلابه على حلفائه، وفي مقدمهم الأوروبيون.
تضع الصحف العالمية القمة في إطار التصدّي للنفوذ الروسي في البلقان، في حين لا يقل النفوذ التركي خطورةً. ولعل خير مثال على ذلك ما كشفته الأزمة السورية. يقول داود أوغلو في كتابه، إنه من دون منطقة نفوذ وخطوط دفاع في البلقان، لن تتمكن تركيا من ممارسة نفوذها بشكل فعال في الشرق الأوسط أو «أوراسيا».
مع اشتعال الجبهة السورية، استغلت أنقرة موقعها الجغرافي لتتحكم بحركة عبور ليس فقط المسلحين، بل أيضاً اللاجئين، سامحة لهم بالتدفق عبر «طريق البلقان» (نقطة العبور الأساسية للاجئين الوافدين إلى أوروبا). السيطرة التركية على تلك المنطقة الحساسة، سرعان ما تحولت إلى ورقة رابحة أخضعت الاتحاد الأوروبي وكشفت ضعفاً ضمن مجتمعاته التي لجأت إلى التطرف المضاد عند أول تهديد أمني. لكن خطورة ملف اللجوء بالنسبة الى أوروبا تتعدى الصراعات الداخلية. فالأزمة السورية، بطريقة أو بأخرى، رفعت الستارة عن النفوذ التركي المتنامي في منطقة البلقان، التي يحذّر المحللون من أنها باتت بالفعل «خاصرة ضعيفة يمكن من خلالها التحرك لضرب أوروبا».



أين روسيا؟
إذا كان الدور التركي طموحاً في البلقان، فإنّ لروسيا وزنها السياسي أيضاً، المعزز تاريخياً وثقافياً، بخاصة في صربيا. وتواجه روسيا هناك محاولات «أطلسية» جدية للتوسّع، كان أبرزها انضمام جمهورية الجبل الأسود (مونتينيغرو) إلى الحلف العام الماضي. وفي نيسان الماضي، أعلنت رئيسة المجلس الأعلى في مجلس الاتحاد الروسي فالنتينا ماتفيينكو أنّ توسيع حلف شمال الأطلسي ليضمّ أعضاءً من دول البلقان «يُقوّض الأمن والاستقرار في المنطقة»، في إشارة إلى انضمام الجبل الأسود واحتمال التحاق مقدونيا بها. وعقب زيارة نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، إلى مقدونيا في الصيف الماضي، نشرت صحيفة «كوميرسانت» الروسية مقالةً تتحدث عن توسيع واشنطن لوجودها في البلقان عبر توسيع وجود «الأطلسي». وقد ترافقت الزيارة مع تصريح للمبعوث الأميركي إلى البلقان هويت براين يي، يقول فيه: «نتخذ خطوات لتعزيز بلدان منطقة غرب البلقان... ضد التأثير السلبي لروسيا أو أي دول أخرى».
(الأخبار)