أمس، كانت أوجيرو مسرحاً لحملة ترهيب واسعة للموظفين، بدأت صباحاً مع ورود أخبار عن حركة مناقلات، يجريها المدير العام للهيئة عماد كريدية، لعدد من العاملين فيها. وبالفعل، سرعان ما طُلب من الموظفين المشمولين بالنقل تسلّم «الموافقة على نقلهم»، بالرغم من أن أحداً منهم لم يقدم أي طلب نقل. لم يشكّ أحد في أوجيرو أن الإجراء تأديبي، ويأتي على خلفية ما نشر في «الأخبار» قبل أيام بشأن المخالفات والفضائح التي تعجّ بها الهيئة، وصولاً إلى استدعاء المدير العام إلى النيابة العامة المالية وهيئة التفتيش، فيما نقل، أمس، عن رئيس الجمهورية ميشال عون، أنه لن يسمح للهيئات المعنية بأن تتراجع، بل عليها أن تمضي قدماً في هذا الملف حتى بلوغ التحقيق خواتيمه.
الملاحظ أن الإجراءات التأديبية التي اتخذها كريدية لم تكن مبنية على أي أدلة أو براهين، وبلا مساءلة لأي موظف، ليتمكن من الاستفادة من حق الدفاع المكفول دستورياً.
ما حصل أن المناقلات تمت بقرار منفرد من المدير العام، وبناءً على وشايات، ومن دون علم المديرين المباشرين للموظفين المنقولين أو المديرين الذين سيعمل من نقلوا عندهم. لا بل أكثر من ذلك، فإن معظم المديرين فوجئوا بالقرار. ولذلك، لم يترك كريدية مجالاً للشك في أن حركة المناقلات كيدية من خلال تعمّد إبعاد «المشاغبين» عن مناطق عملهم الحالية، إلى مراكز بعيدة عن أماكن السكن أيضاً.
عملياً، فإن «طلب النقل» هو مستند معتمد في أوجيرو، يوقعه الموظف، بعد ذكر الأسباب الموجبة لطلبه، ثم يوقّعه مديره الحالي، فالمدير الجديد. بعد ذلك، يحال الطلب إلى مديرية الموارد البشرية التي تصدر توصية إلى المدير العام مرفقة بالأسباب الموجبة، على أن يكون القرار النهائي للمدير العام بالموافقة أو عدمه.
كل هذه الآلية لم تراعَ، مع أن المستند نفسه اعتمد. كُتبت أسباب موجبة عامة على شاكلة «ضرورات العمل» أو «شغور في المركز»، ثم استثني كل شيء آخر، لا توقيع الموظف موجود ولا توقيع مديره الحالي أو الجديد، ولا توقيع مدير الموارد البشرية. رأساً إلى أسفل الصفحة، إلى حيث توقيع المدير العام بالموافقة على النقل.
ذلك أمر ليس بجديد. سبق أن فعله المدير العام السابق عبد المنعم يوسف عندما كان يريد تأديب هذا المعارض له أو ذاك، وبينهم بعض من شملتهم قرارات كريدية، لكن يوسف يسجل له أنه كان يمرر قراراته بهدوء وبالتقسيط، وبشكل أقل استفزازاً. كريدية أراد أن يذكّر بأنه الآمر الناهي في الهيئة، ولو كان ذلك على حساب مصلحة أوجيرو وموظفيها. أراد أن يثبت أنه يحق له أن يتعاقد مع من يريد من المستشارين، ومنهم أبناء مسؤولين، حتى لو لم يعملوا، من دون أن يعطى حق الاعتراض لأحد. كما يحق له رفد الهيئة بالمياومين قدر الإمكان، بغض النظر عن حاجات المؤسسة أو ضرورات العمل. من ضرورات العمل أيضاً إفساح المجال أمام المياومين لتسجيل الدوام في محل إقامتهم. يحدث أن المياومين الذين يسجلون دوامهم في بيروت خلال الأسبوع، ويرغبون في قضاء «عطلة» نهاية الأسبوع في مناطقهم، أن تنقل بصماتهم إلى مراكز قريبة من قراهم، فيتمكنوا من البصم أيام السبت والأحد، كي يحصلوا في النهاية على راتب شهر كامل! ذلك ممكن ولا يستوجب المساءلة، وهو أمر مثبت. أما الشبهة، مجرد الشبهة، فتحتم القصاص، «فأنا ربكم الأعلى».
لا يندرج ما يجري في إطار التدبير الإداري، وإن تشير مصادر المدير العام إلى أن «المناقلات طبيعية»، كما لا يدل على وجود مؤسسة تراعي القوانين في عملها. هذا أقرب إلى الاستبداد لا إلى الإدارة. للمناسبة، المستبد بحسب تعريف الكواكبي هو «الذي يحكم بمقتضى الهوى». لا يفترض أن تكون هذه هي الحالة في الإدارة. المدير مقيد بالقوانين وعليه احترامها.
لمزيد من التخصيص. يجزم خبير في القانون الإداري أن القرارات الأخيرة لم تراع حق الوصول إلى المعلومات، الذي يشير إلى أنه لا يمكن إصدار قرار من دون تعليل. والتعليل هنا لا يكون على شاكلة شغور في المركز أو الحاجات الوظيفية، بل يجب ذكر الأسباب الواقعية والقانونية التي كانت السبب في إصدار القرار، تحت طائلة الإبطال، بعد الطعن أمام القضاء المختص. وبذلك، يجب أن يكون النقل معللاً تعليلاً كافياً، لأنه إذا لم يكن ترفيعاً، فهو يلحق الأذى بالموظف، على ما تشير الاتفاقيات العامة والقوانين التي تحمي الموظف من كيدية الإدارة. وعليه، فإنه لا يمكن اتخاذ قرارات تلحق الأذى بالموظف بدون أي مبرر، فهو ليس عبداً، بل كيان يخدم المصلحة العامة. أما المدير فهو رأس الإدارة وليس حاكمها أو ملكها.
مناقلات كيدية أجراها كريدية على خلفية تسريب معلومات... ومصادره تعتبرها عادية


كل ذلك ليس مهماً بالنسبة إلى إدارة أوجيرو على ما يبدو، فالأكثر أهمية أن تتم معاقبة من سرّب رواتب المديرين فيها. وهنا لا حاجة إلى التحقيق أو التأكد من «الجرم». الاشتباه كاف لإصدار الحكم. وبهذه المعايير، يصبح بديهياً إصدار قرار تأديبي مقنّع قضى بنقل رئيس قطاع الموردين في المديرية المالية في الهيئة في بئر حسن أسامة عمرو الى مديرية الشبكات في مركز الذوق، على خلفية الشك بأنه هو من سرب المعلومات والمستندات الى «اﻷخبار». لم يُسأل عمرو أو يُستجوب. لم يسمح له بالدفاع عن نفسه. لم يُسمع رأي رئيسه المباشر، المدير المالي محمد محيدلي. كما لم يكلّف جهاز التفتيش والمتابعة بإجراء التحقيق اللازم أو يحال المتهم إلى مجلس تأديبي. كل هذا المسار القانوني، الذي يفترض اعتماده في حالات مشابهة جرى تجاهله لمصلحة قرار لا يحتمل التأجيل، ما يجعله قراراً تعسفياً انتقامياً ﻻ يرتكز على أي معطى قانوني أو أي وقائع فعلية، بل يكون الموظف أسامة عمرو قد ذهب ظلماً ضحية حالة التوتر والتشنج والريبة العامة والشكوك التي تخيم حالياً على هيئة أوجيرو وعلى تصرفات القيّمين عليها ونظرتهم الى الموظفين.
أسامة عمرو ليس وحده. إلى جانبه تطول لائحة المعاقَبين، الذين تردد أنهم ليسوا سوى الدفعة الأولى، ومنهم: ميرفت منصور، مازن مزرعاني، ملاك الدهيني، نبيه عواضة، رفيق شلبي، أحمد الدنب، وصفي طاهر، وسيم الطويل، ربيع عيتاني، وليد بوضرغم وعلي قبلان.
وفيما توضح مصادر نقابة أوجيرو أن رئيسها يتواصل مع المدير العام لمعرفة أسباب الإجراءات المتخذة، يتخوف أحد المتابعين من أن يكون هؤلاء المستهدفون عبرة لكل الموظفين العاملين في الهيئة. ذلك ترهيب لا لبس فيه، عنوانه: كل من ينتقد أداء الهيئة أو يفضح مخالفاتها سيكون عرضة لإجراءات عقابية. هل يسري ذلك الترهيب على من يتعاون مع التحقيقات التي يجريها التفتيش المركزي أو الادعاء العام المالي حالياً؟ ماذا سيكون موقف الهيئات الرقابية المعنية من هذا القرار التعسفي؟ ثم ماذا عن المسؤولين، ولا سيما النواب منهم، الذين لم يُسمع صوتهم، عندما نشرت فضائح أوجيرو، هم الذين أشهروا سيف محاربة الفساد في حملاتهم الانتخابية. إذا بقي هؤلاء صامتين على ما يحصل من تجاوزات، فكيف سيتجرأ أي موظف على فضح الفساد في الإدارة وكيف ستصرف الوعود الرسمية بأن تكون المرحلة المقبلة مرحلة مكافحة الفساد؟
وللمناسبة، على كريدية أن يضع في الحسبان أن وثائق جديدة ستسرب وستنشر، حتماً، وليفكر في التدابير التي سيتخذها بحق من سيحكم عليهم بالنقل والإبعاد، وربما بالطرد لاحقاً.