قرّر مجلس الوزراء منع دخول بعض المنتجات التركية المنافسة للمنتجات الوطنية، ووافق على التشدّد في الرقابة على الألبسة المستوردة. القرار أثار انقساماً بين من يرى فيه خياراً «سيادياً» لحماية الإنتاج الوطني، وبين الذين يعتقدون أنه قرار «انتقائي» سبقته محاولات فاشلة لفرض قيود حمائية على منتجات أوروبية وعربية تغرق أسواق لبنان، أي أن الاختبار الاقتصادي الحقيقي يبدأ يوم تباشر حكومات العهد مناقشة «غزو» السلع من دول أوروبا والخليج.قبل بضع سنوات، اشتكى مصنّع دفاتر OPP من وجود منتجات أجنبية مماثلة تُغزو السوق المحليّة بأسعار تنافسية. وقتذاك، استنفر السفير الفرنسي أمام محاولة وضع رسم حمائي على استيراد الدفاتر، وسجّل اعتراضه لدى وزير الاقتصاد اللبناني بالاستناد إلى اتفاقيات التجارة بين لبنان والاتحاد الأوروبي. لاحقاً، تبيّن أن السفير الفرنسي يدافع عن واردات دفاتر بقيمة 100 ألف يورو سنوياً إلى لبنان!
تهديدات مماثلة تكرّرت بعد محاولة وزارة الزراعة وضع رسم جمركي على واردات الأجبان الفرنسية، وبعد محاولة وزير الصناعة حسين الحاج حسن حماية مصانع الألومنيوم ورقاقات البطاطا من الإغراق السعودي. بعد كل محاولة، كانت الدولة المتضرّرة تستنفر عبر سفيرها أو أحد وزرائها للدفاع عن مصالح منتجيها. «المتضررون الأجانب» هدّدوا بمنع إدخال المنتجات اللبنانية إلى بلدانهم، ولجأوا إلى التلويح بوقف المساعدات، أو الاعتراض لدى منظمة التجارة الدولية وعرقلة انضمام لبنان إليها... ورغم أن كل هذه الدول المعترضة تدعم منتجاتها وتضع قيوداً حمائية على دخول السلع والأفراد إليها، إلا أن الحكومات اللبنانية المتعاقبة لم تضع أي استراتيجية لحماية السلع اللبنانية. لا بل لم تظهر أي نيّة جديّة لحماية مصالح المنتجين اللبنانيين، بل كانت تقام حملات الترويج والتخويف من أي تغيير في نمط العلاقات التجارية والسياسية مع دول الخليج وأوروبا.

تركيا هي «العدو»
سياسة الخضوع للمصالح الخارجية كانت هي المسيطرة، فغدت قرارات مجلس الوزراء في جلسته ما قبل الأخيرة، مفاجئة نوعا ماً. في الجلسة المذكورة، أُقّر بناءً على اقتراح وزير الاقتصاد رائد خوري، منع استيراد منتجات البسكويت والويفر ومواد التنظيف من تركيا. ورفض المجلس منع استيراد البرغل من تركيا، لاعتبارات تتعلق بأهمية هذه السلعة للمستهلك وضرورة عدم التحكّم بسعرها من أي جهة. كذلك قرّر المجلس الإيعاز إلى الجمارك اللبنانية بالتشدّد في مراقبة بعض منتجات الكرتون التي تدخل إلى لبنان مهرّبة تحت بند جمركي معفى من الرسم، وفرض على الجمارك أن تحوّل كل شحنات الألبسة المستوردة من تركيا على أنها «ألبسة مستعملة» إلى الخطّ الأحمر، أي أنها ستخضع للتفتيش والتدقيق.
لماذا استنساب تركيا، أم أن مصنع «غندور» وحده يستحق الحماية على حساب باقي مصانع البسكويت والويفر


الخطوة قد توصف بأنها جيّدة، لكنها ــ حتى الآن ــ لا تعبّر عن توجهات استراتيجية، ولا تندرج في إطار سياسة وخطة اقتصادية واضحة. فما حصل يكاد يكون انتقائياً، أي أنه من أصل 26 شكوى إغراق وتزايد واردات درسها أو يستكمل درسها في جهاز حماية الإنتاج الوطني في وزارة الاقتصاد والتجارة وباقي الأجهزة المعنية، لم يُرفع أي اقتراح إلى مجلس الوزراء سوى ما يتصل منها بالمنتجات التركية نظراً لعدم وجود اتفاقيات تجارية بين لبنان وتركيا تفرض على البلدين ألا تكون هناك قرارات منفردة تخصّ تبادل السلع.
بحسب الإحصاءات الجمركية لعام 2017، تبيّن أن واردات البسكويت والويفر من تركيا تبلغ 21.2 مليون دولار من أصل واردات إجمالية بقيمة 51.3 مليون دولار. صحيح أن الواردات التركية تشكّل 41.4%، إلا أنها ليست الوحيدة التي تنافس لبنان. فهناك واردات كبيرة تأتي من السعودية قيمتها 6.35 ملايين دولار، ونسبتها 12.3% من الواردات، وهناك واردات لها وزن تجاري تأتي من بريطانيا وبلجيكا وقطر... فلماذا استنساب تركيا، أم أن مصنع «غندور» وحده من يستحق الحماية على حساب باقي المصانع المنتجة للبسكويت والويفر في لبنان؟
الأمر الثاني الذي يثيره قرار مجلس الوزراء يتعلق بمواد التنظيف. ففي الواقع، إن الشكوى التي اتخذ القرار على أساسها جاءت من الوكيل الحصري لشركة «هنكل» الألمانية، مدّعياً أن الشركة الأم منحت امتيازات متفرقة لتعبئة مواد تنظيف تبيعه إياها! مشكلة الوكيل أن لديه نزاعاً تجارياً مع الشركة الأم، فتدخّلت الدولة اللبنانية لتعطي الأفضلية لشركته على حساب الشركة الأم. ما يقوم به الوكيل الحصري هو تجميع مواد التنظيف المستوردة من الخارج في الأكياس وبيعها في لبنان، فيما يقوم منافسه في تركيا بتجميع مواد التنظيف نفسها، ولكن بصيغتها السائلة، وتصديرها إلى لبنان. هل هكذا نحمي الصناعة اللبنانية؟
لا يقتصر الأمر على ذلك، بل هناك مشكلة في بنية استيراد مواد التنظيف المشار إليها تحت البند الجمركي 34020، فالإحصاءات الجمركية تشير إلى أن لبنان استورد عام 2017 مواد تنظيف بقيمة 58.79 مليون دولار، منها 22.7 مليون دولار، أو ما يوازي 38.6%، من مصر (!). ويستورد لبنان من تركيا مواد تنظيف بقيمة 7 ملايين دولار فقط، ومن سوريا بقيمة 8.7 ملايين دولار، وهناك واردات أخرى أصغر قيمة من البحرين وإسبانيا وأميركا والإمارات والسعودية وفرنسا وإيطاليا.

أين مصادر الخطر؟
القرارات ليست انتقائية فقط، بل هي عجائبية أيضاً. وهذا الأمر ينطبق على القرارات المتعلقة بالتشدّد في دخول الألبسة المستعملة. اللافت في هذا القرار، أنه لم تكن لدى الحكومة الجرأة لاتخاذ قرار يحمي الصناعة الوطنية. فعلى مرّ السنوات الماضية أغلقت مئات مصانع الألبسة في لبنان بسبب منافسة الألبسة الآتية من الخارج، سواء من الصين أو تركيا أو سواهما من البلدان. ولطالما طالب أصحاب معامل الألبسة في لبنان بوقف استيراد الألبسة المستعملة أو «البالات» أو التشدّد في مراقبتها بعدما تبيّن أن غالبية تجار الألبسة يدخلون تحت البند الجمركي المعفى من الضريبة «ألبسة مستعملة» تكون في الواقع ألبسة جديدة تُغسَل وتُكوى وتُعلَّق وتُرتَّب على رفوف المتاجر، وتُباع على أنها جديدة وبأسعار زهيدة أيضاً. هذا الواقع ليس جديداً، لكن المشكلة تكمن في الآتي:
يستورد لبنان ألبسة جديدة بقيمة 521.2 مليون دولار، ويستورد ألبسة مستعملة بقيمة 19.1 مليون دولار.
النسبة الأكبر من الألبسة الجديدة تأتي من الصين بقيمة 147.4 مليون دولار، تليها تركيا بما قيمته 75 مليون دولار، أو ما يوازي 14.4% من مجمل الواردات.
النسبة الأكبر من الألبسة المستعملة تأتي من ألمانيا بقيمة 12.1 مليون دولار، أو ما يوازي 63%، وتليها أميركا بما نسبته 24% أو ما قيمته 4.4 ملايين دولار.
هذه الأرقام ترسم صورة واضحة عن تجارة الألبسة. فالضرر الأكبر على الصناعة المحلية يأتي من الألبسة الجديدة الآتية من الصين وتركيا، لا من تلك الألبسة الآتية من ألمانيا وأميركا.

التوازن في الحماية
ومع خضوع قطاع الألبسة لمزيد من التدقيق في المبيعات والضرائب والرسوم المفروضة على الاستيراد وعلى الصناعة المحلية، ستتضح صورة التهديد الذي تشكّله الألبسة الجديدة المستوردة. وهذا الأمر يفرض عدم التسرّع والإفراط في حماية المنتجات الوطنية. صحيح أن الصناعات المحليّة تتعرض لمنافسة غير مشروعة من مصانع خليجية وشرق أوسطية وأوروبية تحصل على دعم من حكوماتها بشكل أو بآخر، ما يخفض أسعارها ويرفع قدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية، إلا أنه بالنسبة إلى لبنان، وفي ظل ضعف القطاعات الإنتاجية، تبقى هناك حاجة لإقرار صيغة متوازنة بين حماية الصناعة الوطنية والحفاظ على القدرة الشرائية للمستهلك. الإفراط في حماية الصناعة المحلية قد يخلق احتكاراً يؤدي إلى ارتفاع اصطناعي في أسعار المنتج المحلي والتحكّم في عرضه في الأسواق.

لبنان بحاجة إلى خطّة إنقاذ من شقين: مالي ــ اقتصادي واجتماعي


في كل الأحوال، لا يمكن أن تكون حاجة المنتج الوطني إلى قرارات انتقائية مع دول محدّدة مثل تركيا، بل هناك حاجة لوجود استراتيجية رسمية واضحة وشفّافة للدفاع عن الإنتاج الوطني. وأزمة المنتج اللبناني، سواء كان صناعياً أو زراعياً أو غيره، لا تنحصر بحماية الإنتاج اللبناني عبر قيود جمركية أو حمائية على الواردات، بل يجب البحث في تعزيز تنافسية هذه القطاعات لجهة خفض كلفة الإنتاج وإيجاد أسواق تصريف جديدة... باختصار، لا يجب التعامل مع هذه القطاعات بالمفرّق.
القرارات الحكومية الأخيرة، يضعها وزير الاقتصاد رائد خوري، في خانة «الضرورة المرحلية»، على اعتبار أن القرارات الحاسمة والمسار الذي ستسلكه الحكومة «يفترض أن يتقرّر في ضوء الخطّة الاقتصادية التي كُلِّفَتها شركة ماكينزي».

الاختبار الأقصى
إذاً، لماذا لا توضع قيود حمائية على واردات الألومنيوم، وعلى الأجبان والألبان، وعلى مئات الأصناف التي تأتي من مختلف دول العالم لتنافس منتجاتنا المحلية، فيما نعاني في تصريف بضائعنا في السوق المحلية وفي الأسواق الخارجية؟ السؤال سيكون برسم الحكومة الجديدة. يفترض أنها «حكومة العهد الأولى»، حسب رئاسة الجمهورية، وأن انطلاقتها ستأخذ في الاعتبار الأولويات الاقتصادية والاجتماعية. الاختبار الأقصى هو الغوص في منع استيراد منتجات خليجية أو أوروبية، حماية لمصالح المنتجين اللبنانيين.
حتى الآن، كانت أولوية الاقتصاد «الرسمية» متروكة على مصرف لبنان الذي ركّز جهوده على دعم استقطاب الأموال من الخارج عبر أدوات ريعية: المصارف والعقارات. هذان القطاعان يعانيان اليوم من أزمة ارتباطهما أو ترابطهما الخطير إلى درجة أن محفظة التسليفات المصرفية فيها 90% ديوناً عقارية مباشرة أو مرتبطة بعقارات. زواج عقاري ــــ مصرفي قابل للانهيار في أي لحظة بعدما بدأت تظهر أنباء عن إفلاسات محتملة لتجار عقارات بسبب عدم قدرتهم على الإيفاء بالتزاماتهم التعاقدية مع الزبائن، أو بعدم إيفاء بالتزاماتهم تجاه المصارف. هل ستبقى الأولوية الرسمية للريوع على حساب الإنتاج؟ هل ستبقى التهديدات الأجنبية ذريعة لترويض المنتجين اللبنانيين؟
مصالح لبنان بخطر أشدّ اليوم، في ظل وضع مالي حرج وشبه انهيار اقتصادي. اليوم أكثر من قبل، لبنان بحاجة إلى خطّة إنقاذ من شقين: مالي ــ اقتصادي واجتماعي. الحلّ لا يجب أن يكون مالياً ونقدياً حصراً.



كل الطرق تزيد العجز التجاري
معاناة المنتجين اللبنانيين تزداد. يظهر الأمر من خلال تقلّص قدرة لبنان التصديرية بين 2014 و2017. كان لبنان يصدّر بقيمة 3.3 مليارات دولار، وأصبح اليوم يصدر بقيمة 2.8 مليار دولار. خلال هذه السنوات الأربع، فقدت الصادرات أكثر من 15% من قيمتها. هي أصلاً فقدت 36% منذ بلوغها 4.4 مليارات دولار في 2012. يومها، سجّلت الصادرات أعلى مستوى لها خلال السنوات العشر الأخيرة. من يومها بدأ المسار التنازلي. علامات الضعف ظهرت أيضاً على الواردات. في السنوات الثلاث الأخيرة عادت فاتورة الاستيراد إلى الارتفاع لتبلغ 19.5 مليار دولار في 2017، علماً بأن فاتورة الاستيراد انخفضت بين 2012 و2015 نحو 2.7 مليار دولار بسبب انخفاض أسعار النفط التي تشكّل ثلث الواردات، وبسبب انقطاع طرق التهريب بين لبنان وسوريا، إذ كانت هناك كميات كبيرة من السلع المستوردة تهرّب إلى سوريا. أدّى هذا الأمر إلى تراجع فاتورة الاستيراد من 21 مليار دولار في 2012 إلى 18.6 مليار دولار في 2015. ومع تزايد حاجات السكان ونزوح نحو مليوني سوري للإقامة في لبنان وعودة أسعار النفط العالمية إلى الارتفاع ازدادت فاتورة الاستيراد إلى 19.5 مليار دولار في 2017. لا شيء يوقف ارتفاع الواردات. كل المسارات تؤدي إلى زيادة في العجز التجاري. خلال السنوات الثلاث الأخيرة ارتفع العجز التجاري إلى 16.7 مليار دولار. بعض الإحصاءات تشير إلى أن العجز أكبر، لكن إدارة الجمارك تلاعبت بالأرقام في مطلع هذه السنة. نشرت على موقعها الإلكتروني أرقاماً تظهر بلوغ العجز التجاري 20 مليار دولار، ثم عدّلتها. المهم أن العجز في مسار تصاعدي. هو عجز قاتل في حالة لبنان وأثره في الوضع المالي سيكون كارثياً إذا لم يُضبَط.


قصّة البرغل
رغم منع استيراد البسكويت والويفر ومواد التنظيف من تركيا، إلا أن مجلس الوزراء أبقى استيراد البرغل (قمح مسلوق ومطحون) بحجّة أنه يعدّ سلعة استهلاك أساسية يجب التعاطي معها انطلاقاً من أهميتها لدى المستهلك وليس على قياس مصالح المنتجين فقط. فالإنتاج المحلي من البرغل لا يكفي لإمداد السوق الاستهلاكية بحاجتها، ما يعني أنه يجب إبقاء الواردات من هذه السلعة، سواء من تركيا أو من غيرها. في المقابل، هناك وجهة نظر تشير إلى أن تعزيز الزراعة وحمايتها يبدأ بخطوة الحماية. فإذا كان مزارعو القمح في لبنان يعانون من الإغراق التركي، يجب إزالة هذا الضرر عنهم وحمايتهم من المنافسة الأجنبية، ولا سيما أن كلفة الإنتاج في تركيا تدنّت كثيراً مع انخفاض سعر الطن المستورد بنسبة 35% بين 2013 و2016. أما على الجهة اللبنانية، فلم يسجّل انخفاض كبير في كلفة إنتاج البرغل التي يعدّ ضمان الأرض أبرز عناصرها.


بين لبنان وتركيا
استورد لبنان في عام 2017 من تركيا بما قيمته 777.1 مليون دولار، وصدر إليها بقيمة 119.5 مليون دولار: العجز لمصلحة تركيا يساوي 657.6 مليون دولار
استورد لبنان في عام 2016 من تركيا بما قيمته 664.7 مليون دولار وصدر إليها بقيمة 71.5 مليون دولار: العجز لمصلحة تركيا يساوي 593.2 مليون دولار
استورد لبنان في عام 2015 من تركيا بما قيمته 656.2 مليون دولار وصدر إليها بقيمة 77.4 مليون دولار: العجز لمصلحة تركيا يساوي 578.8 مليون دولار
استورد لبنان في عام 2014 من تركيا بما قيمته 705.6 مليون دولار وصدر إليها بقيمة 144.8 مليون دولار: العجز لمصلحة تركيا يساوي 560.8 مليون دولار