«يتبادل رفاقي صوري على الواتساب ويسخرون مني. يصفونني بالـchubby (بدين)». يقول محمد (9 سنوات) شاكياً من مُضايقات زملائه الذين يدّعون «أنّني أحب رفيقتي في الصفّ، لكنها لا تُحبّني لأني ناصح»! يشكو إيهاب (10 سنوات)، أيضاً، من رفاقه الذين «يتكتلون حولي ويتناوبون على ضربي بالسحاسيح»، ساخرين منه بسبب نحافته الشديدة: «يعايرونني بضعفي ويقولون إنّي أمشي مثل البنات». رُبى (13 سنة)، هي الأخرى ضحية مضايقات رفاقها في المدرسة الذين يصفونها بـ«إم نص لسان»، بسبب مشاكل النطق التي تعاني منها. تقول إنها لا تحبّ المدرسة ولا زميلاتها اللواتي يصفنها بـ«البشعة».هذه نماذج عن «يوميات» نحو ربع الطلاب في المدارس اللبنانية، كما جاء في دراسة «التنمّر في البيئة المدرسية: دراسة في مدارس خاصة في بيروت» التي أجرتها «الجمعية الفرنكوفونية للأمراض النفسية» العام الماضي وكشفت عنها أخيراً. الدراسة التي شملت ثلاث مدارس فرنكوفونية في بيروت واستهدفت صفّي الخامس والسابع ابتدائي، قدّرت نسبة الطلاب الذين يتعرّضون للتنمّر بنحو 23.9%. و«هذا يضع كلاً من الجو المدرسي والعائلي الذي يعيش فيه الطفل موضع تساؤل»، بحسب رئيس الجمعية رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى أوتيل ديو الدكتور سامي ريشا الذي أشرف على الدراسة.
الدراسة «شبه الوحيدة» في لبنان التي تناولت مُشكلة التنمّر أظهرت أنّ غالبية المُتنمّرين من الذكور، إذ قال 62,1% من الضحايا إنهم تعرّضوا للتنمّر على أيدي ذكور، و17,3% من قبل إناث. واحتلت الكلمات المسيئة المركز الأول في مظاهر التنمر بنسبة 67.9%، تبعها الضرب بنسبة 23,1%، ثم الوصم (إطلاق ألقاب) بنسبة 5,1% فالتهديد (3,8%).
ويُعرّف التنمّر، وفق مفهوم الدراسة، بأنّه «سلوك عدواني يتميز بتكرار عمدي للأفعال المؤذية الجسدية والمعنوية من قبل طالب أو شلّة من الطلاب ضد طالب لا يمكنه الدفاع عن نفسه». وحددت ثلاثة شروط أساسية لتحديد التنمر منها: «نية الأذى؛ التكرار؛ وعدم تكافؤ القوى بين الطرفين، سواء كان ذلك حقيقياً أو متخيلاً». بهذا المعنى، لا تعدّ الإغاظة الودّية أو المُشاجرة بين طرفين يتمتعان بـ«توازن قوى» تنمّراً.

الضحايا معرّضون للانتحار!
يوضح ريشا لـ«الأخبار» أنّ «المُتنمّر عليهم» هم من ذوي الهشاشة الداخلية، أو ممن يعانون مشاكل جسدية، سواء مشاكل صحية أو إعاقة حركية أو بدانة أو تشوّهات خلقية.
ولهذا الأمر تداعيات خطيرة، إذ يؤدي التنمّر الى ظهور عوارض اكتئاب وقلق لدى الضحايا، وأعراض نفسية وجسدية كآلام الرأس والبطن، ما يؤثر على تركيزهم وتحصيلهم الدراس،. فضلاً عن الانعزال الاجتماعي، «حيث يشعر الطفل أو المراهق بالعار ويفقد ثقته بنفسه، وتصبح لديه صعوبة في التواصل مع الآخرين، ما يؤثر على تطوّر شخصيته. وقد يرافقه ذلك مدى الحياة ما لم تتم معالجة المشكلة». وبحسب الدراسة، «فإن من لديهم استعداد جيني للاكتئاب، يمكن أن يُشكّل التنمر عاملاً محفزاً لظهور الاكتئاب لديهم، وقد يؤدي إلى نتيجة مأساوية كالانتحار».
وفي دراسة استقصائية سابقة عن الصحّة النفسيّة لجمعية «إدراك»، فإن ضحايا التنمر معرّضون للتفكير في الانتحار 9 مرات أكثر من غيرهم!

المُتنمِّر ضحيّة أيضاً
المرشدة الاجتماعية التربوية هناء فضل الله قالت لـ«الأخبار» إن «المتنمر يعبّر بفعلته هذه عن حالة من القلق وعدم الثقة والاختلال الداخلي». أمّا مُسبّبات التنمّر، فهي «في المقام الأول ذات طبيعة تربوية أسرية. فالجو الأسري المضطرب والمتشنج والنقص العاطفي يتسبّبان في نموّ رغبة التنمّر. عندما لا يهتم الأهل بمتابعة سلوك ابنهم بشكل كاف، ولا يقدمون له العاطفة بالقدر الذي يحتاج إليه، سيولد لديه نقص في التعاطف مع الآخرين ونقص في الإحساس بالذنب تجاه من يؤذيهم»، مُشيرةً الى أن الطفل المُهمل يسعى أحياناً إلى السيطرة والهيمنة. كما أن الحياة المدرسية تُشكّل عاملا إضافياً، «فعندما يضعف نظام المدرسة يلجأ الطالب الى التنمر كوسيلة للهيمنة على الآخرين ونيل حقوقه بالبلطجة في ظل غياب مرجع يؤمنها له». ولفتت فضل الله الى أن الألعاب الإلكترونية «قد تُشكّل عاملاً غير مباشر في نمو حسّ التنمّر لدى الأطفال، إذ يمضي الطفل جلّ وقته أمامها ويتلقى ما تبثّه من رسائل عنفية، حتى يصبح العنف لديه مرادفاً للعب ويسعى الى تطبيقه في حياته اليومية».

31% من الضحايا يتكتّمون
وبحسب الدراسة، فإن 23,3% فقط من ضحايا التنمر أخبروا راشداً في المدرسة عمّا يتعرضون له، فيما يُقدم 47,3% على إبلاغ ذويهم. ويتكتّم 31,6% عمّا يتعرضون له باعتبار أن ذلك لن يغيّر شيئاً، أو خشية تعرضهم للانتقام من رفاقهم، أو لاعتبارهم أنهم سيخسرون اهتمام أهلهم إذا اكتشفوا هشاشتهم.
ضحايا التنمّر معرّضون للتفكير في الانتحار 9 مرات أكثر من غيرهم


من هنا تكمن أهمية الاستماع الى الطفل المُتنمّر عليه ودعمه من قبل الأهل والمدرسة. بحسب فضل الله، الاستماع الى الطفل المتنمر عليه «هو أحد أهمّ الحلول لمكافحة التنمّر»، مُشيرةً إلى ضرورة وجود مرشد اجتماعي أو نفسي في كل مدرسة. كما أن على الأهل «الابتعاد قدر الإمكان عن الإملاءات. عليهم ألا يقدموا للطفل تعليمات عمّا يجب فعله. المهم أن نسمعه ونتفهم مشاعره وأن نساعده على أن يطوّر بنفسه آلية خاصة للدفاع عن نفسه، من دون أن نملي عليه طريقة معينة، كأن نقول له من يضربك اضربه ومن يتحدث معك رد عليه بهذه الطريقة...»، إذ إن الإملاء «يُشعر الطفل بالعجز، لأن ما يُطلب منه قد لا يكون بمقدوره فعله. عندها، سيشعر أنه يخيّب ظن الأهل، ما يفاقم المشكلة. الطفل يعاني بسبب ما يتعرض له من قلة ثقة بالنفس، لذلك عندما يطلب منه أن يقوم بفعل هو غير قادر على الإتيان به سيزيد ذلك من قلة ثقته بنفسه».
من المهم جداً، وفق فضل الله، «دفع الطفل الى الابلاغ عمّا يتعرض له للأشخاص المسؤولين، وأن يعرف أن هذا حقه». كما ينبغي تعليم الطفل على تخفيف ردود فعله على التنمر، «عادة عندما يستهزئ المتنمر بطفل آخر ينتظر منه رد فعل كالخوف أو الانفعال أو الغضب. إذا حافظ الطفل على تماسكه ولم يعبّر عن استيائه وجزعه في وجه المتنمر، فسيشعر الأخير أنه فقد تأثيره وقوته، وسيشعر الطرف الثاني بقوة. وشيئاً فشيئاً يعود توازن القوة بينهما».



للمدارس مسؤوليتها أيضا

(بلال جاويش)

بيّنت الدراسة أن للمدارس وبرامجها في محاربة التنمر تأثيراً كبيراً على هذا الواقع. وبحسب المشرف على الدراسة الدكتور سامي ريشا، فإنّ إحدى المدارس الثلاث التي شملتها الدراسة نفّذت برنامج توعية حول التنمر قبل شهر واحد من الدراسة، «وسجلت نسبة تنمر أقل (22,4%) مقارنة بالمدرستين الأخريين (25,9% و23,9%). ويوضح ريشا أن برنامج مكافحة التنمر في المدرسة «بسيط»، إذ «يكفي أن تخصص المدرسة حصة شهرية لكل الصفوف للتوعية حول التنمر، شرط أن لا يكون الحديث بالمطلق، بل من خلال أنشطة جماعية تتطلب تفاعلاً وتبادلاً في الأدوار، وأن لا يتم التركيز على الطالب الذي يتعرض للتنمر، بل أن يجري تبادل أدوار؛ فمرة يكون الشخص المتنمر متنمّراً عليه والعكس...». وشدد على ضرورة ألا يكتفى بهذا النشاط لمرة واحدة، بل أن يتكرر بطريقة دورية.
الى ذلك، أوصت بضرورة وضع مقاربة متعددة التخصصات ينخرط فيها الأطفال والأهل والمدرسة والإعلام والمنظمات غير الحكومية والوحدات الأمنية لتحسين نوعية الحياة الفردية والجماعية، والتوعية حول التنمر من أجل الوقاية المبكرة والحد من أضراره. فالكشف المبكر وتوفير الرعاية النفسية العاجلة للمعتدي والضحية على حد سواء وتغيير المدرسة عند الفشل في معالجة التنمر هي من الوسائل التي تنبغي متابعتها بجدية.