في ختام نيسان الماضي، شهدت مدينة برمينغهام البريطانية مؤتمراً لمؤيدي نظرية تقول بأن الأرض مسطحة. مؤيدو هذه النظرية ليسوا طارئين على عالمنا المعاصر، إذ إن «مجتمع الأرض المسطحة» هي جمعية تعود جذورها إلى منتصف القرن الماضي. لكن الجديد هو أن معتنقي هذه النظرية وجدوا في وسائل التواصل الحديثة سبيلاً للتلاقي ولتوسيع أنشطتهم «حول» العالم.
(ماغي تيلور ــ الولايات المتحدة)

نعم، هناك مجموعة جديدة تضم مئات الأشخاص ترمي حصيلة خمسة آلاف سنة من العلوم التي أكّدت كرويّة الأرض. يعتقد هؤلاء أنهم ضحية مؤامرة ارتكبها العلماء، لا سيما وكالة «ناسا» التي تعمد برأيهم إلى فبركة صور معيّنة للأرض. المؤتمر الأول من نوعه الذي تشهده بريطانيا، استمر ثلاثة أيام، وتضمّن محاضرات وورش عمل أتاحت للـ«Flat earthers» (مؤيدو النظرية) اللقاء والتواصل للمرة الأولى على هذا المستوى. الموضوع ليس نكتة، إذ من المقرر أن يتجه مؤيدو النظرية إلى كندا في آب المقبل، حيث سيلتقون مجدداً، على أن ينعقد مؤتمراً موسعاً في تشرين الثاني المقبل في ولاية دنفر الأميركية.
المثير في هذا الخبر ليس غرابته فقط، فهو مثل أحداث شبيهة، أثار في بعض وسائل الإعلام الغربية نقاشاً مرتبطاً ببُنى المعرفة في عصرنا وبعلاقتها التقليدية بالسلطة وبـ«لا مركزية المعرفة» بعد تنامي منصات التعبير الجديدة. لكنه ينقلنا، على وجه التحديد، إلى نقاش مرتبط بما بات يُعرف بثقافة الـ«Post-truth» (ما بعد الحقيقة) التي تنامى الحديث عنها بشكلٍ ملحوظ في السنوات الأخيرة.
من منّا لم يسمع بالـ«Fake news» (الأخبار المزيّفة) مع ازدهار وسائل التواصل الاجتماعي؟ إلى جانب الأخبار اليومية التي قد تحتوي على قدر كبير من التضليل، يكفي بحثٌ صغير على الانترنت، للعثور على المواقع التي تدحض بعضاً من أكثر الحقائق شهرةً. الأرض مسطحة، الهولوكوست خدعة، الهبوط على القمر لم يحدث. كلها أمورٌ نسمعها وسمعها آباؤنا قبلنا، لكن الجديد، أنه بات لمؤيدي هذه النظريات منبر و«شرعية» ما، أعطتهم إياها وسائل التواصل الاجتماعي حيث يستطيعون نشر أي محتوى يريدون.
لعلّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب خيرُ مجسّدٍ لهذه الثقافة. هناك أمثلة كثيرة على تبنيه وترويجه لأخبار ومعلومات مزيّفة: التغيّر المناخي خدعة، الجرائم في ألمانيا إلى ارتفاع، والد المرشح الرئاسي السابق تيد كروز ساعد في اغتيال جون كينيدي. يكفي أن يغرّد ترامب بما يعتقد أو بما يشعر، حتى يصدّق آلاف الأشخاص من مؤيديه في الولايات المتحدة الذين يبدون غير آبهين كثيراً بالتحقق من ادعاءاته. ليس ترامب وحده رمزاً للـ«Post-truth». إبان حملة «بركسيت»، برز تصريح ذو دلالة كبرى لداعم رئيسي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مايكل غوف، رداً على دحض أحد الخبراء لحجة قالها: «أعتقد أن الناس في هذا البلد اكتفت من الخبراء». هذه الجملة أصبحت أشبه برمز لهذه الثقافة. هذا السلوك جعل رموز التيارات الشعبوية في الغرب ومؤيديهم، يبدون كارهين لـ«الحقيقة»، أو بمعنى أوضح، كارهين لحقيقةٍ ترمز بالنسبة لهم إلى النظام القائم الذي يرفضونه. تبدو «الحقيقة» اليوم كأنها من الماضي، في ظلّ ميلٍ عام لتخطّي الوقائع لمصلحة الحدس والمعتقد مع طوفان بحرٍ من التعبير عن الآراء.

ماذا نعني بـ«Post-truth»؟
اختار قاموس أكسفورد «Post-truth» كلمة العام في آخر 2016. وعرّفها على النحو الآتي: «حين تكون الوقائع الوضعية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام من الاحتكام إلى العاطفة والاعتقاد الشخصي». في اختصار لبعض المقاربات الأكاديمية والإعلامية لهذا المصطلح، يمكن القول إن «البوست تروث» هو وجهة معرفية تتغذى بحجج عاطفية غير آبهة كثيراً للوقائع. يحاول المصطلح تكثيف السياسات القائمة على الحدس والفطرة والعواطف المناهضة للاستبلشمنت، وقد لعبت هذه السياسات دوراً أساسياً في إيصال ترامب إلى البيت الأبيض، كما ساعدت مؤيدي «بركسيت» في تحقيق انتصارهم عام 2016.
بالنسبة إلى سلافوي جيجك، فقد الناس ثقتهم بالمجال العام، وذلك لعب دوراً أساسياً في الصعود المستمر للشعبوية في العالم


في مقابلةٍ مع شبكة «بي بي سي»، أرجع المفكر البريطاني، أنتوني غرايلينغ، بروز المصطلح وارتدائه هذا المعنى، إلى ما بعد أزمة 2008 الاقتصادية. فمع موجة الاستياء الاقتصادي حينها، لم يكن من الصعب إثارة المشاعر تجاه قضايا مثل المهاجرين، وإلقاء اللوم في الأزمة على السياسيين التقليديين. بالنسبة إلى غرايلينغ، أدى بروز السوشل ميديا دوراً كبيراً في ثقافة «البوست تروث». الظاهرة القائمة في الأساس على فكرة أن «رأيي أهم من رأيك»، ببساطة لأنني «أشعر» هكذا حيال أمرٍ معيّن، من دون العودة إلى معايير ووقائع دقيقة أو واضحة. ولكن هذه الركيزة دعمها وعززها أمرٌ أساسي وهو أنه يمكنك أن تنشر رأيك ولا تحتاج لتفعل ذلك سوى أن تمتلك هاتفاً ذكياً. في هذا الإطار، حذّر المفكر من ثقافة يمكن فيها لبضعة مزاعم على «تويتر» أن تمتلك مصداقية تماماً مثل مكتبة مليئة بالأبحاث.
في كتابه «Post-truth»، أعطى الصحافي البريطاني، ماثيو دانكونا، ترامب مثالاً عن كيف أن الـ140 حرفاً التي يتيحها «تويتر» للكتابة (أصبحت 280 حرفاً)، باتت تشكّل أفكارنا. أي أن معظمنا بات يفكر وفقاً لآلية قائمة على الاختزال والتكثيف والجزم السريع، في أي موضوعٍ كان. بهذا العدد المحدود من الأحرف، بإمكانك أن تخبرنا عن طبقك المفضّل على سبيل المثال، مثلما بإمكانك أن تعطي رأيك بسياسات الولايات المتحدة نحو كوريا الشمالية.

لا جديد تحت الشمس
لكن قبل «البوست تروث»، كان هناك الـ«Factoid» التي يعرّفها قاموس «أكسفورد» بـ«الشيء الذي يصبح مقبولاً كواقعة مع أنه ليس كذلك» أو ما نسميه بالعربية «خطأً شائعاً»، إلى درجة يصبح تصويبه بحد ذاته «خطأً». يعود أول استخدام منشور لهذه الكلمة إلى أوائل سبعينيات القرن الماضي، ما يؤكد مجدداً أن الانترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، جعلت «الفاكتويد» تتكاثر بشكل هائل، لكنها بالطبع ليست هي من خلقها.
كذلك الأمر بالنسبة للفيلسوف الايطالي، موريزيو فيراريس، «لا جديد تحت الشمس، الناس يكذبون ويصدقون الكذب منذ أن تكلموا. لسنا الآن أكثر سذاجةً أو غباءً، لكن ما تغير ببساطة هو أنه بات لدينا حظوظ أكبر في أن نعي ذلك». يقول إن واقع الحقيقة وواقع الرأي تغيّرا بشكل عميق منذ عشرات السنين بسبب الثورة الرقمية. «التحوّل الفريد يكمن في هذا الشيء الذي نملكه في جيوبنا: الهاتف الذكي، هذه الوسيلة لا تتلقى فقط مثلما كان الراديو والتلفزيون، لكنها أيضاً ترسل معلومات». يعطي فيراريس مثال هتلر الذي كان يتكلم عبر الراديو فيما يستمع الآخرون، مقابل ترامب الذي يتكلم الآن من وسيلة يتكلم عبرها أي شخص في العالم. «في السابق كانت «البرافدا» تقول إن «نيويورك تايمز» تكذب والعكس، أما الآن فأي إنسان، سواء كان الرئيس الأميركي أو غيره، يمكنه أن يقول ما يريد من دون أن يصوّب له أحد». يوضح الفيلسوف الإيطالي أن «البوست تروث» ليست اختفاء الحقيقة وانتصار الكذب، بل هي بالأصح ضوضاء ملايين الأشخاص، كل واحد منهم يريد إقناع الآخر بأنه على حق. «لم يكن هناك قط آراء وقناعات بهذا التنافر من قبل (...) قد نصل مجدداً إلى الدوغمائية، ولكنها دوغمائية فردية عدائية».
في السياق نفسه، يرى الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك، أن الأخبار المزيّفة موجودة في الإعلام منذ الأزل. لا جديد إلا على المستوى التقني، فاليوم يمكن للناس أن ينظمون نفسهم عبر الوسائل الالكترونية من دون سلطة عُليا تدير الأمور. لكن لماذا هذا الميل لدى الناس إلى تصديق المزيّف وإنكار الحقيقي؟ بالنسبة لجيجك لأن الناس فقدوا ثقتهم بالمجال العام، وذلك لعب دوراً أساسياً في الصعود المستمر للشعبوية في العالم.
يربط جيجك بين ثقافة «البوست تروث» وثقافة تعددية الحقيقة (Multi-truth). الأخيرة نابعة من سياسات الهوية (Identity politics) التي هيمنت في الغرب خلال العقدين الأخيرين. تقوم هذه السياسات بجانب كبير منها على فكرة النسبيّة، في السياسة والثقافة والحياة عموماً، فلكلٍّ «حقيقتُه» بحسب تاريخه وبيئته ومعاناته ونضاله. وبالتالي لا يحق لأحد أن ينتزع مني هذه الحقيقة أو حتى محاججتها، لا سيما إذا كان لا ينتمي إلى مجموعتي المستضعفة ذاتها. يعطي جيجك مثالاً على ذلك حادثة شهدها شخصياً عندما اعترضت طالبة في نيويورك على أقواله مقدّمةً حجة وحيدة هي أنها «سوداء البشرة، مثلية، أم عازبة، مصابة بالإيدز». هكذا يصبح الوضع الفردي وكونك ضحّية أشبه بحقيقة وضعية. من هنا يكرر جيجك خلاصة مفادها أن الشعبوية ليست سوى إحدى نتائج فشل النظام الرأسمالي الليبرالي الذي يرعى سياسات الهوية. ومن هذه الزاوية، يصبح «البوست تروث»، مثل الشعبوية، عارض من عوارض فشل سياسات هذا النظام. مفيد جداً للتوضيح ما نقله الأكاديمي الأميركي، سبنسر كلافان، عن صحيفة «بابيلون بي» الساخرة عنوان «ثقافةٌ كل الحقيقة فيها نسبية، أصبحت فجأة قلقة بشأن الـFake news». هذا التكثيف يلقي الضوء على ارتباط ثقافة «البوست تروث» بثقافة سبقتها بعقود، وهي ثقافة لم يكن للنظام القائم في الولايات المتحدة أو في أوروبا مشكلة فعلية معها.

«ما بعد الحقيقة» vs «ما بعد الحداثة»
لكنّ النقاش المتصل بشكل وثيق بالسياسة، ليس سياسياً بالدرجة الأولى، هو قبل كل شيء فلسفي. بالنسبة لدانكونا، إن ثقافة «البوست تروث» تسرّبت عبر الأكاديميا الغربية قبل عقدٍ كامل من انتشار استخدام الإنترنت. ألقى الصحافي البريطاني باللوم على «فلاسفة ما بعد الحداثة» عبر إنكارهم وجود حقيقة. بدوره، صنف غرايلنغ ما بعد الحداثة والنسبية (Relativism)، من بين الجذور الكامنة لـ«البوست تروث». بالنسبة له، بعض الفلسفات فتحت الباب (من غير قصد) إلى نوع من السياسات «التي لا تزعجها الوقائع».
حين نقول «فلسفة ما بعد الحداثة»، غالباً ما تكون النظريات النسبية والتشكيكية (Skepticism) في القرن العشرين هي ما نقصده. يعود المصطلح إلى كتاب ليوتار «الوضع ما بعد الحداثي» الذي يُعتبر مانيفستو لهذه المرحلة من عمر الفلسفة. ببساطة، أراد أعلام تلك الفترة تخطّي مبادئ ومفاهيم حقبة الحداثة الأوروبية. اعتبر هؤلاء وأشهرهم ليوتار، فوكو، دولوز وديريدا، أن الحقيقة تنتمي إلى «السرديات الكبرى» التي أعلن ليوتار انهيارها في كتابه المذكور. تلام فترة «ما بعد الحداثة» بشكلٍ خاص على تفكيك مفهوم الحقيقة إلى «حقيقات» متعددة، تناسب كل المجموعات والهويات والعقائد. فمع انهيار «السرديات الكبرى» الذي أفسح المجال أمام تلك الصغرى، أي النابعة من خطابات المستضعفين والمهمشين، أصبح الطريق سالكاً للتنظير إلى انعدام «الحقيقة» بأل التعريف.
يُحمّل نيتشه المسؤولية الأولى عن هذا المآل، ويعتبره البعض بطريقةٍ أو بأخرى مؤسس لهذه النظرة التي هيمنت على حقبة ما بعد الحداثة. الفيلسوف الألماني الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر، هو من قال «لا يوجد حقائق، هناك تأويلات فقط». حتى أن أشهر مقولاته «الله قد مات» تُفسّر بكونها إعلان نهاية الحقيقة كمفهوم ميتافيزيقي متعالٍ. بالنسبة لنيتشه، نحن لا نختبر العالم كما هو، ولكننا نختبره دائماً بشكلٍ انتقائي وبطريقةٍ تعكس أفكارنا وقيمنا: «المعرفة النسبية هي نوع المعرفة الوحيد، وكلما كثرت مشاعرنا ونظراتنا لقضية ما، كلما كان مفهومنا عنها وموضوعيتنا تجاهها أكثر كمالاً». لكنّ هناك نظرة أخرى ترى أن ما كان يقصده نيتشه في نفيه للحقيقة، هو «الاعتراض على اليقينيات التي تشجع الأحكام القطعية وبدلاً منها تعقيد نظرتنا للسلوك الإنساني»، وليس مجرد قول إنه «ما من حقيقة». ساءل نيتشه قيمة «الحقيقة»، واعتبر أن «إرادة الحقيقة» بأي ثمن يعني رفضاً لاستيعاب ما هو عبثي وتراجيدي بشكل جوهري، في الشرط الإنساني. تقرّ نسبية نيتشه بأن الحقيقة يجب أن تكون دائماً متمثلة بوجهة نظر معينة (Perspective). بالنسبة له الحياة تتشكل من العاطفة ومن النسبيّة، وأي إرادة تسعى إلى حقيقة خالية من هذين العنصرين، هي حقيقة «مفتقرة إلى الحياة».

ما هي «الحقيقة»؟
بين بعض التعريفات المتعددة للفلسفة، نجد أنها «البحث عن الحقيقة». من سقراط وأفلاطون إلى ولادة مصطلح الإبيستمولوجيا (فلسفة المعرفة) في القرن العشرين، جرى الفصل القطعي بين «الحقيقة» و«الرأي». الرأي هو عدو الحقيقة، ومن يريد الوصول إلى هذه الأخيرة عليه أن يغلق الباب نهائياً على الآراء. منذ «أسطورة الكهف» الشهيرة لأفلاطون، ظلّت المعرفة المستندة إلى الآراء والانحيازات الذاتية مكروهة، لأنها «تخلق الوهم الذي نظنه حقيقة». هذه الحالة هي أكثر خطورةً من الجهل أو الوقوع في الخطأ، لأننا في حالة الوهم، نظنّ أننا نعرف، ما يجعلنا نجهل أننا نجهل، فلا نعود نهتم بالبحث عن الحقيقة. بالنسبة لأفلاطون، يجب تجاوز هذه المعرفة المزعومة، المصنوعة من الآراء والاعتقادات المتعددة وغير الثابتة، و«الخروج من الكهف». سقراط وأفلاطون مقتنعان بأن هناك وراء الآراء الذاتية، حقيقة كونية يمكن لجميع البشر الوصول اليها.
قد يأتي الرأي من الخيال ومن الرغبة. ويقول مؤسس الابيستمولوجيا، غاستون باشلار، إن الفيلسوف لا يجب أن يكون له رأي. على الحكيم أن يطمح إلى الحقيقة، لا إلى تكوين رأي. فحين يكون هناك الكثير من الآراء لا يمكن للمعرفة أن تتقدم.
استندت الفلسفة الكلاسيكية (الإغريقية والقروسطية) إلى كون الحقيقة هي التطابق بين العقل والشيء/ الموضوع. بالنسبة للفيلسوف توما الاكويني (القرن الثالث عشر) الله يخلق الشيء وفي الوقت نفسه يخلق عقل الإنسان، ثم يُجري التطابق بينهما.
مع ديكارت، أصبح العقل هو المحور الذي يسمح للإنسان أن يوظف كل قوته للتوصل إلى المعرفة الحقيقية. هناك «أنا» ثابتة، معروفة وتتعرف الى العالم عن طريق العقل. معيار اليقين لدى ديكارت يجب أن يكون عالياً جداً، إلى حد يصبح معه احتمال الخطأ بحد ذاته موضع شك. الطريقة الوحيدة للتوصل إلى يقين كهذا هو أن نصبح موضوعيّين بشكل كامل، واضعين جانباً جميع المواقف «الذاتية»، التي يُنظر إليها كمصدر للانحياز والتحريف.
القطيعة الفعلية مع مفهوم «التطابق» الكلاسيكي حدثت مع كانط في القرن الثامن عشر. الفيلسوف التنويري قلب الأمور رأساً على عقب، حين أكد أن الشيء يطابق طريقتي في التفكير، ما يعني أن تفكيري سابقٌ على الشيء. هناك ما هو قَبْلي في العقل (a priori)، فمن يعرف لغتين على سبيل المثال لن يفهم الشيء بالطريقة نفسها التي سيفهمه بها من يعرف خمس لغات مثلاً. إذاً «نعرف» عندما يوافق الشيء الفكر، بعكس النظرية الكلاسيكية عن الحقيقة (الفكر يوافق الشيء، أي نحن نفهم ما نرى). لهذا السبب، بالنسبة له إن الإنسان عاجز عن معرفة «الشيء في ذاته» (Noumena) لأننا نعرف ما تتلقاه عقولنا فقط. ما يوجد حولي بالنسبة للفيلسوف التنويري، ممكن أن يمتلك مئة بعد لكنّ عقلي لن يلتقط الواقع الا عبر ثلاثة أبعاد. اذاً، نحن لن نفهم الواقع بشكل كامل. الإنسان محدود بالزمان والمكان ومهما فعلنا لن ندرك الواقع إلا عبر بنيتنا الخاصة. وبالتالي، يمكن للإنسان أن «يعرف» الظاهر فقط، أما الأشياء بنفسها فهي تتجاوز معرفتي.

يكفي أن يغرّد ترامب بما يعتقد أو بما يشعر، حتى يصدّق آلاف الأشخاص من مؤيديه في الولايات المتحدة الذين يبدون غير آبهين كثيراً بالتحقق من ادعاءاته


من جهة أخرى، نوع اليقين المطلق الذي بحثت عنه الفلسفة الغربية الحديثة، بالنسبة لكيركيغارد، لا يمكن للإنسان، ذي الوجود المحدود، الوصول إليه. يرى للفيلسوف الدنماركي الذي تُنسب له بداية الفلسفة الوجودية، أن الإنسان كائن محدود تاريخياً، وهو غير قادر على التفكير «من كل أبد» (Sub specie æternitatis) وفقاً لتعبير اسبينوزا. أن تمتلك معرفة تتمتع بيقين مطلق يعني أن تمتلك معرفة كاملة ونهائية، أن تمتلك «سيستام» مثل ذلك الذي امتلكه هيغل. لكن كيركيغارد رفض هذا الأمر، معتبراً أن امتلاك سيستام منطقي أمرٌ ممكن، ولكن قيام سيستام يشمل الوجود (Existence) فهذا غير ممكن: «المشكلة أن الناس ليسوا الله. لذلك لسنا قادرين على رؤية العالم من وجهة نظر الله». يخلُص كيركيغارد من ذلك، إلى كون عدم اليقين هو ببساطة جزء من الشرط الإنساني، فيما يرى أن مساعي «التأسيسية الكلاسيكية» (ديكارت) هي مساعي لتجاوز هذا الشرط. يقول إن الذاتية والاهتمام بالذات، أمور تقع في قلب الوجود الإنساني: «من دون الرغبات، الآمال، المخاوف والحب، الحياة الإنسانية مستحيلة، لأن القرار الإنساني والفعل يصبحان مستحيلين». لكن هذه الوجهة لا تعني أن كيركيغارد كان إلى جانب المذهب التشكيكي أو النسبي، فهو يعترف بوجود معرفة إنسانية أساسية يكوّنها الإنسان تبعاً لالتزامات معيّنة «حتى يكون إنساناً كاملاً ويعيش حياة إنسانية حقة». غير أن الطريق إلى الحقيقة بالنسبة له يتطلب أن نتبنى ذاتيتنا لا أن نتخلى عنها.

خلاصة
على الرغم من كون الذاتية تقع في صلب إدراكنا للحقيقة وتكويننا لها، مثلما رأينا عند نيتشه وكيركيغارد خصوصاً، يظلّ تجاوز الحقيقة أو رفضها أمراً إشكالياً. مع ذلك، يجب قول إن نيتشه لا يتحمّل وحده مسؤولية «انهيار الحقيقة»، إذ إن النسبية هي مفهومٌ قديمٌ جداً وعمره من عمر الفلسفة نفسها. التشكيكيون والنسبيون كانوا موجودين قبل سقراط، حتى أن السفسطائيين كانوا يتبنون نظرية أنه «ما من حقيقة»، وكانوا يسعون إلى الإقناع، لا إلى الحقيقة كقيمةٍ بذاتها. عندما بدأ سقراط بالتفلسف كان يريد تثبيت «حقيقة» عبر التساؤل عن طبيعة الأمور، وبالتالي وضع حدّ للسفسطائيين. فإذا كان كل منا يرى الأشياء بشكلٍ مختلف، كيف نستطيع تحديد ما هو الصح وما هو الخطأ؟ هذا السؤال طرحه سبنسر كلافان، فتوصّل الى نتيجة مفادها أن «البوست تروث» ليست، للمفارقة، سوى عودة إلى «ما قبل الحقيقة». فما فعله نيتشه كان عملياً عودة إلى الحقبة التي سبقت سقراط، أو بمعنى آخر التي سبقت الحقيقة. يقول كلافان: «إن نسبيي القرن العشرين لم يكونوا يقطعون مع أسلافهم بقدر ما كانوا يعودون إليهم، حيث أحيوا الافتراضات التي قدمت نفسها مع بداية الفلسفة الغربية». يرى كلافان، أنه تحت تأثير نيتشه، عادت الأكاديميا الغربية إلى حالتها «الطبيعية». في الاتجاه نفسه، يرى الفيلسوف البريطاني، راي براسيير، أن إنكار وجود حقيقة على طريقة نيتشه واعتبارها من صناعة الإنسان وأنها مجرد قضية توافق بين الناس، لن يُبقي في النهاية «سوى الفرق بين التخيّلات الضعيفة والتخيّلات القوية»، لتكون الغلبة في النهاية لهذه الأخيرة. وبطريقةٍ معكوسة، يخلُص براسيير إلى أنه طالما أن التخلّي عن الحقيقة يقلل بالتالي سبب التخلّي عن الوهم (لماذا نتخلى عن أوهامنا طالما أنه ما من حقيقة؟)، سننتهي إلى «تشريع» تأليف المزيد من السرديات الخيالية. بمعنى أكثر مباشرةً يقول كلافان إن تبني فكرة أنه «ما من حقيقة» يوصلنا إلى نتيجة وحيدة، هي أن الصوت الذي سيكون مسموعاً هو الأعلى والأكثر إلحاحاً: «النتيجة الطبيعية لهذه المعادلة هي دونالد ترامب (...) فمن دون الاعتقاد بحقيقة يمكن معرفتها، نحن متروكون تحت رحمة أي رجل وقح بما فيه الكفاية حتى يُملي الوقائع عبر القوة».

المراجع:
1-Socrates & Pre-Truth Politics٬ Spencer Klava٬ Philosophy Now٬ issue no. 122
2-I watched an entire Flat Earth Convention for my research – here’s what I learnt٬ Harry T Dyer٬ The Conversation
3-Post-truth? It’s pure nonsense٬ Roger Scruton٬ The Spectator
4-Nietzsche’s perspectivism٬ Michael Lacewing٬ Routledge
5-Points de vues philosophiques sur la vérité٬ Catherine Deshays٬ Société française de Gestalt (S.F.G.)
6-KIERKEGAARD٬ An Introduction٬ C. STEPHEN EVAN٬ Cambridge University Press
7-Ray Brassier: I Am a Nihilist Because I Still Believe in Truth٬ Martin Rychter٬ Kronos٬ March 2011
8-En 2018٬ vous arrêterez de croire n’importe quoi٬ avec le philosophe Maurizio Ferraris٬ Catherine Portevin٬ Le Monde٬ Décembre 2017