العالم تغيّر لدى الرئيس حسن روحاني، والعالم الذي تحاول إدارته الولايات المتحدة وإسقاط النظام في إيران تغيّر أيضاً. هو العالم الذي أدارته خلال الحرب الباردة ومكّنها مطلع التسعينات، وفي منتهى أكثر من سبعين عاماً، من إسقاط النظام السوفياتي في استراتيجية باتت تعرف بـ«عقيدة ريغان». يذهب مستشار الأمن القومي، جون بولتون، إلى حد «التفاؤل» بأن يعيد التاريخ نفسه، دونما أدنى شك، والتنبؤ أن يكون عام ٢٠١٩، عام سقوط النظام الإيراني. أما وزارة الخارجية والبيت الأبيض، فيطلقان العد التنازلي للسقوط الإيراني المقبل بإعلان الرابع من تشرين الثاني المقبل، موعداً نهائياً، لإغلاق التعاملات النفطية والاقتصادية مع إيران، وإشعال الداخل الإيراني. فخلف الهجوم الذي بدأته الولايات المتحدة يكمن شيء من ذلك الاعتقاد أنه بوسعها أن تفعل في إيران ما فعلته بالاتحاد السوفياتي، فتسقط طهران من دون تعكير مياه الخليج أو تطلق رصاصة واحدة، كما سقط السوفيات آنذاك. فما يتوسله أميركيون وإسرائيليون معاً لإسقاط النظام في طهران لا حرب نجوم فيها، ولا سباق إلى أسلحة تستنزف مداخيل الدولة الإيرانية، كما استنزفت السوفيات. وبدلاً من ذلك تستل الولايات المتحدة سلاح «الدمار النفطي الشامل» لإغلاق الأسواق أمام ٢،٤ مليون برميل من النفط الإيراني يومياً، وتجفيف عائداته المتوقع أن تتجاوز ٥٠ مليار دولار، والتي لا تزال تشكّل أكثر من ٧٥ في المئة من العائدات النقدية لموازنة طهران، فتنفجر عندئذ إيران من الداخل.
لا يباشر الأميركيون مشروعهم «الريغاني» الجديد في الألفية الثالثة وحدهم، كما لا يباشرونه بما يمكن أن يطلق عليه استراتيجية متكاملة ولدت من بنات أفكارهم. فإذا كانت عضلات الهجوم أميركية إلا أن عقله إسرائيلي.
فقد تكون عمليات التطهير التي قادها مايك بومبيو في أروقة «لانغلي» من المحللين وخبراء الشؤون الإيرانية، قبل انتقاله إلى وزارة الخارجية، قد أسهمت في إخضاع دولة الأمن القومي للمجموعة الجديدة التي تحيط بالرئيس دونالد ترامب، ومهدت للاتجاه الجديد بجعل إيران أولوية الأولويات.
يفتقر الأميركيون على جبهة محاصرة إيران إلى استراتيجي من معدن جورج كينان


يفتقر الأميركيون على جبهة محاصرة إيران اليوم إلى استراتيجي من معدن جورج كينان صانع احتواء السوفيات، ليرسم استراتيجية متكافئة ومتجانسة، ولا يجعل من الهجوم الجديد ارتجالاً يستند إلى أفكار متفرقة لا قوام لها، على ما يقوله خبير عربي في واشنطن، والتي تملأ فراغ ذات اليد من الاستراتيجية المتجانسة الممكنة التحقق، بأفكار إسرائيلية المنشأ، بعد أن اختارت الإدارة الجديدة تل أبيب شريكاً لها في التخطيط لعملية «الانقلاب» الثنائية الجارية ضد النظام في طهران. في هذا السياق، كشفت صحيفة «معاريف» أنّ «فريقاً أميركياً - إسرائيلياً جرى تشكيله منذ اندلاع الاحتجاجات في إيران لدعم المعارضين». عرض الجنرال عاموس يدلين، ما يشبه إلى حد بعيد، الأفكار التي تقود خطاب الإدارة الترامبية، كما عبّر عنها حرفاً بحرف، المسؤولون في البيت الأبيض ووزارة الخارجية. ففي مقابلة في «لو موند» الفرنسية، ومقالة في مجلة «ذا أتلاتنيك» أسهب رئيس الاستخبارات العسكرية السابق في الحطّ من فائدة أي خيار عسكري ضد إيران، وما قد يؤدي إليه من نتائج عكسية من توحيد الإيرانيين خلف النظام. وأشار على الأميركيين بتشديد العقوبات الاقتصادية وتحميل الإيرانيين عواقب حصار جديد، وتدمير اقتصادهم اليومي وضرب مدخراتهم، وتقويض تجارتهم... وتشتعل إيران.
يرتبط نجاح الهجوم الأميركي ــ الإسرائيلي على إيران إلى حد كبير بإغلاق شرايين النفط بموقف مستوردين رئيسيين هما الهند والصين من العقوبات الأميركية المعلنة. ففي امتناعهما أو موافقتهما على مواصلة شراء وتقاسم مليون و٣٠٠ ألف برميل يومياً، بالتساوي تقريباً، يتحدد مصير خمسين في المئة من العائدات النفطية الإيرانية التي يوفرها بيع مليونين وستمائة ألف برميل من النفط يومياً، إلى عشر دول أوروبية وآسيوية. والسؤال الذي يبدو ملحّاً هو ما إذا كانت الصين أو الهند ستنصاع أم لا للعقوبات الأميركية. يسود لدى المحللين الأميركيين الاعتقاد بأن الصين ستتخلى عن إيران في مواجهة الولايات المتحدة.
لكن خبير الشؤون الصينية، ليونيل فيرون، يقول إنّ الصينيين يتدارسون الموقف قبل اتخاذ قرار حاسم في شأن نفطهم الإيراني، ويبحثون عن استراتيجية تحافظ في وقت واحد على مصالح شركاتهم التي لا ينبغي أن تخضع للعقوبات الأميركية، كما تحافظ على العلاقة الاستراتيجية التي تربطها بإيران. يتقاسم الصينيون مع الهند تقييماً مشابهاً، فالمقاربة الصينية - الهندية واحدة لخطر الانصياع للمطالب الأميركية بوقف مشترياتهم من إيران، والخوف واحد من أن يؤدي ذاك حكماً إلى وضع الأمن الطاقي (والقومي استطراداً) بيد الولايات المتحدة، وهو ما لا يمكن لأي من البلدين المخاطرة بالسير به. إذ لا تنظر الصين إلى إيران باعتبارها فقط المصدر الخامس للنفط إليها أو جزءاً من المدى الحيوي لتوسعها الاقتصادي فحسب، بل تعتبر إيران ركناً استراتيجياً في تأمين تدفق النفط اليها بصفتها مصدراً نفطياً آمناً لاستقلاله عن الولايات المتحدة، بعكس الدول الخليجية التي تخضع سياستها الخارجية والنفطية للإملاءات الأميركية.
وللمفارقة، تعتبر الصين أن خروج الشركات النفطية الأوروبية من المشاريع الإيرانية بفعل الضغوط الأميركية، فرصة للشركات المحلية للحلول محلها، لا سيما بعد خروج «توتال» من مشروع تطوير حقل «بارس٢». ويقول ليونيل فيرون إن هناك احتمال أن تتوقف الشركات المتوسطة والصغرى عن التعامل مع إيران خوفاً من العقوبات الأميركية، لكن الشركات الصينية النفطية الكبرى، «سي أن بي سي» و«سينوبك» و«بترو تشاينا»، التي تؤمن أكثر من ٩٠ في المئة من مشتريات الصين من النفط الإيراني، لا تخشى هذه العقوبات، وستواصل التعامل مع إيران عبر مصرف «كونلون» الصيني الذي أُنشئ في مرحلة العقوبات الأميركية الماضية لتنظيم العلاقات التجارية مع إيران عبر الدفع بـ«اليورو» أو «اليوان».
تنتظم أهمية إيران مع الهند لتتساوى مع المطالب الاستراتيجية الصينية نفسها في تأمين مصادر الطاقة والاستقلال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة وغيرها. تؤمن العلاقة للهند مع إيران توازناً مع الانتشار الصيني الذي يطوقها في باكستان وسريلانكا والمالديف ونيبال، وتحفظ للهند ممرها البري الرئيسي والوحيد نحو آسيا الوسطى وأفغانستان، وروسيا عبر شبكة من ٧ آلاف كيلومتر من الطرق البرية انطلاقاً من مرفأ «تشابهار» الإيراني. وكانت اتفاقية مشتركة وقعت قبل عامين مع طهران قد وضعت جزءاً منه تحت إدارة هندية لمدة عام ونصف العام. يمثل «تشابهار» ممراً استراتيجياً يبعد ١٤٧ كيلرمتراً من مرفا «غوادار» الذي تموّل الصين بناءه في باكستان في شبكة من الطرقات تشق باكستان من الشمال إلى الجنوب بطول ٣ آلاف كيلومتر.
وإيران هي مصدر الهند الثالث من النفط، التي تقوم أيضاً بتشغيل مصافي التكرير الهندية الكبيرة. والأرجح أن تعود الهند هي أيضاً من أجل الحفاظ على تدفق النفط الإيراني إليها إلى تفعيل اتفاقية سابقة مع إيران للدفع بالروبيه بديلاً من الدولار لحماية مشتريات شركاتها من العقوبات الأميركية.
قد تنجح الولايات المتحدة في إلزام حلفائها الغربيين بالسير في مغامرتها الجديدة ضد إيران لكن القوى الآسيوية الصاعدة التي باتت بمثابة قلب الاقتصاد العالمي، لن تنساق خلفها حفاظاً على مصالحها الاستراتيجية الحيوية.