سقطت ورقة إعلان النيات بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية سياسياً يوم خرج رئيس حزب القوات سمير جعجع ليؤيد استقالة أو إقالة رئيس الحكومة سعد الحريري. هذا «الانقلاب» القواتي على العهد وكل ما جاء في ورقة التفاهم واتفاق معراب على حدّ سواء، أعطى للعونيين ذريعة عدم التنسيق، ولو شكلياً، مع القوات، في الملفات السياسية اللاحقة وصولاً إلى تسليم الطرفين بصعوبة التحالف في الانتخابات النيابية.غير أن ارتفاع منسوب الخلاف السياسي بين هذين الحزبين المسيحيين، في المرحلة السابقة، بقي مضبوطاً من دون أن يتجرأ أحدهما على البوح بمكنوناته وصولاً إلى الإعلان أن التفاهم انتهى. ما فعله رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، أول من أمس، كان بمثابة البوح «بالحقيقة كما هي» من وجهة نظر العونيين، من دون أن يقفل الباب على إمكان الخروج بورقة تفاهم جديدة مع القوات «أحسن من يلي قبلها».
للطرفين مآخذ متبادلة ورؤى مختلفة عن أسباب اهتزاز علاقتهما، بقيت مدفونة أو تُسَرّب بصيغة «المصادر» إلى أن بقّ باسيل البحصة، ففتحت الأوراق على الملأ. غير أن السؤال الرئيسي اليوم: ماذا بعد الاعتراف بسقوط التفاهم بين التيار الوطني الحر والقوات؟ تجيب مصادر الطرفين: تفاهم على قراءة واحدة لورقة التفاهم وتفاهم على تطبيق التفاهم، وتفاهم على حماية المصالحة وتفاهم رابع على التفاهمات الثلاثة السابقة... وبدل الأغنية هذه المرة، بات عرابا الاتفاق إبراهيم كنعان وملحم رياشي بحاجة إلى إصدار كتاب «أوعا خيك» ليوثق كل هذه الأوراق، طالما أن لا هذا الحزب ولا ذاك، يملك جرأة القول أمام الرأي العام المسيحي أنه يريد أن يتحرر من التفاهم كلياً.

خلاف على التفسير
كما للتيار الوطني الحر روايته عمّا أدى إلى تدهور العلاقة مع معراب، للقوات اللبنانية أيضاً روايتها المختلفة تماماً. ينسحب ذلك على تفسير كل منهما لخريطة طريق ما بعد الإقرار لا بسقوط إعلان النوايا بل بعدم تطبيق بنوده.
تقول المصادر العونية أن الأمور توضحت في الاجتماع الأخير الذي جمع باسيل وكنعان بالرياشي في مقر التيار الوطني الحر. إذ حصل اتفاق على «إعداد جدول بمآخذ التيار ومآخذ القوات حتى تتم مقارنتها للوصول إلى استنتاج واضح لما جرى، إن في السياسة أو على صعيد الحكومة. كان المطلوب وضع خلاصة مشتركة تفضي إلى قرار يقضي بإعادة تفسير الاتفاق بطريقة مشتركة أو الانتقال إلى مرحلة ثانية تنتج منها ورقة أخرى بتفسيرات جديدة ودقيقة ومحددة».
يرى «التيار» أن الاتفاق يحتاج إلى تفسيرات جديدة فيما تعتبر «القوات» أنه لم يطبق أبداً


من وجهة نظر التيار الحر، «لو كان الحزبان متفقين على تفسير واحد للورقة والخلل والثغرات التي حصلت على مدى عامين، لما كنا اليوم نعيد مراجعة الاتفاق». في هذا السياق، تبدو محاولة اليوم جدية للقراءة في نفس الكتاب وبنوايا صافية، و«نحن مصرون على التفاهم المسيحي المسيحي والحفاظ على المصالحة التي يريدها غالبية اللبنانيين، لا سيما المسيحيين». هنا لا ينكر التيار أن قلة الثقة بين الطرفين ما زالت كبيرة، خصوصاً أن القوات تتهم العونيين بعدم الجدية في الالتزام بالتفاهم والإطاحة ببنوده فور الخروج من غرفة الاجتماعات. في المقابل، يرى المسؤولون العونيون أن معراب استغلت الاتفاق «لشن حملة سياسية شرسة على التيار، فالمسألة ليست مسألة شفافية ولا مكافحة فساد كما يزعم رجال سمير جعجع بل مجرد مسعى لتشويه صورة باسيل والتيار والعهد».
خلاف آخر بين الطرفين قيد التكون قبل أن يبدآ بمعالجة الخلافات السابقة. هل هما متفاهمان على مضمون ورقة التفاهم أم لا. ففي حين يرى التيار العوني أن الورقة بحاجة لإعادة تفسير، تعترض الأوساط القواتية بشدة على هذا القول «وهذه السذاجة في تبرير القضايا العالقة». اتفاق معراب «وضعناه سوياً، بمعنى صياغة بنوده حرفاً حرفاً حتى لا نفسح المجال للتأويل الذي يدعيه العونيون حالياً. وأيضاً أعدنا قراءته سوياً أكثر من مرة سواء مع رئيس الجمهورية ميشال عون أو مع رئيس التيار جبران باسيل ثم وقعنا عليه سوياً» تقول الأوساط القواتية. لذلك من المستحيل أن «يُقرأ بطريقتين». إذاً، لماذا تتم مراجعته اليوم؟ تجيب الأوساط القواتية: «لا نجري مراجعة بل نسعى للتوافق على خريطة طريق لوضع اتفاق معراب قيد التنفيذ. فالحقيقة أن الاتفاق لم يطبق على الإطلاق في أي بند من بنوده».
هذا الاعتراف أو الإقرار بواقع الحال، وفقاً للقوات اللبنانية لا يعني أن معراب «ليست مصرة على أفضل علاقة مع التيار لما فيه من مصلحة مشتركة للمسيحيين وللبنان». حرص يردده العونيون، ولو أن هناك من ينسب إلى الطرفين عكس ما يرددانه تماماً.

«حبر على ورق»
لا يخرج سلوك التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية عن المتوقع. منذ تاريخ إعلان النوايا وبعده اتفاق معراب، يتسابق نواب الحزبين على اللازمة نفسها فور اهتزاز العلاقة بينهما: «نتمسك بورقة التفاهم... وبالمصالحة المسيحية». لكن الأمر لا يتطلب فطنة استثنائية من أجل التأكد أن الكلام المعسول ليس سوى محاولة متبادلة لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام المسيحي. فالقوات استفادت من المصالحة ومن «المظلومية» التي تتلطى خلفها كلما رفع باسيل سقف خطابه السياسي تجاه القوات، وتمكنت فعلياً من ترجمة الأمر بأفضل الممكن في الانتخابات النيابية؛ ما عدا الإنجاز الأهم المتمثل في إزالة صورة «الميليشيات» عن القوات و«رئيس الميليشيات الخارج من السجن» عن سمير جعجع، وهذه لا تقدر بثمن بالنسبة إلى القوات.
بدوره، وقع التيار الحر في فخ تفاهم يكاد مردوده محصوراً بما تدعيه معراب «إيصال ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية». لكن بات يصعب على باسيل وجعجع سوياً غسل أيديهم من هذا الاتفاق؛ هو «زواج ماروني» وفقاً للتعريف الذي يردده وزير الإعلام ملحم رياشي. وهنا أيضاً الصورة شيء والواقع مختلف تماماً. فالواضح أن باسيل وجعجع يتصرفان اليوم وكأن الحكومة المقبلة هي حكومة أربع سنوات، أي أنها ستستمر إلى ما قبل الانتخابات النيابية المقبلة التي يفترض أن تليها انتخابات رئاسية.
ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يخوض حزبا التيار والقوات الاستحقاقات المقبلة سوياً فيما الصراع الرئيسي بينهما يتمحور حول من يكسر الثاني ليحقق العدد الأكبر من المكاسب، وبالتالي، لن يشكل، لا التيار ولا القوات، جسر عبور للآخر. إذ يخوض التيار معركتين: معركة إنجاح العهد الذي يدخل عامه الثاني من دون أي إنجاز يذكر سوى خيبة كبيرة للبعض من الإصلاح والتغيير المؤجل. ويتطلب ذلك في الدرجة الأولى كف يدّ القوات حكومياً لتحجيمها. ومعركة رئاسة الجمهورية المقبلة التي تفرض على جبران باسيل زرع نواتها باكراً لقطافها في الوقت المناسب.
أما القوات اللبنانية، فقد بات هدفها الأساس إفشال عهد ميشال عون عبر تعطيل كل مشاريع التيار الحكومية بالطريقة التي بدأت بها في الحكومة السابقة. هكذا تضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد: كسر أسطورة ميشال عون، إضعاف التيار الوطني الحر والوقوف في وجه وصول باسيل إلى الرئاسة.
باختصار، مشروعان لم يلتقيا سابقاً ولن يلتقياً مستقبلاً. لا يحتاج الأمر إلى دليل غير الذي اعترف به الحزبان بعد ثلاثة أعوام على ورقة إعلان النوايا وبعد عامين على اتفاق معراب: الاتفاقان بين التيار الحر والقوات اللبنانية ليسا أكثر من حبر على ورق، فمن يجرؤ على الخروج من التفاهم قبل الآخر ومن يجرؤ على تحمل مسؤولية خروج كهذا ومن سيدفع الكلفة في الشارع وأمام جمهور لا يتصور للحظة واحدة استعادة مشاهد ومآسٍ يكاد لا يستثنى منها بيت مسيحي.