عامان يكادان يمران على إقرار البرلمان «خطة مكافحة تلوث الليطاني». مع ذلك، لم ترفع مصادر التلوث عن النهر الأطول الذي يستفيد منه أكثر من 20 في المئة من اللبنانيين. آخر الفصول، انتشار شريط مصور عن «سور الرمالي العظيم»، وهو عبارة عن أكوام النفايات والردميات مرمية على طول قناة الري التابعة لمشروع ري بساتين القاسمية في البرج الشمالي. «السور» وُثّق بالصور، لكن كثير من التعديات غيره تنتشر على طول المجرى من البقاع إلى الجنوب. أخيراً، بعد فوات الأوان ربما، سُجلت استفاقة متأخرة لتوسعة صلاحيات المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، من الري وتوليد الطاقة إلى الحوكمة وإدارة الموارد البشرية والطبيعية الواقعة على الضفتين.كثيرة هي الشكاوى والطلبات التي رفعها رئيس مجلس إدارة المصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية، منذ عيّنه مجلس الوزراء في منصبه قبل خمسة أشهر. من بينها كتاب إلى وزارة الطاقة والمياه لعدم إعطاء رخص لاستثمار كسارات على بعد ألفي متر من مشاريع المصلحة، باعتبار أن «كافة منشآتها تقع في مناطق مصنّفة ولا يمكن استثمار مقالع بجوارها ضمن قطر 1500 متر من دون تفجير، وألفي متر مع تفجير خفيف». منها، أيضاً، شكوى إلى النيابة العامة الإستئنافية في البقاع ضد مستثمر لمرامل غير مرخصة في القرعون قام بـ«التعدي على حرم قناة في مشروع ري 900 من خلال حفر قناة ترابية ضمن استملاك فيض القناة وتخريب إنشاءات معدّة للإنتفاع بالمياه وتحويل مياه غسل الرمول إلى مجرى القناة». جنوباً، تقدم بإخبار إلى كل من وزارة الطاقة والمياه والمحافظ وبلدية العباسية واتحاد بلديات صور والنيابة العامة الإستئنافية ضد أشخاص يقومون بتصريف مياه مبتذلة ورمي نفايات في قناة الري العائدة لمشروع ري القاسمية وبرك رأس العين. كما تقدّم بإخبار آخر إلى النيابة العامة الإستئنافية في النبطية بعد تعكير مياه النهر عند مقطع قعقعية الجسر نزولاً باتجاه قضاء صور، مطالباً بـ«ملاحقة كل من يظهره التحقيق فاعلاً أو متدخلاً أو شريكاً بتلويث النهر ومنع كافة المرامل والكسارات الواقعة ضمن محافظة النبطية من غسل رمولها في مياه الليطاني». بين هذا وذاك، يطلق علوية صرخاته ضد المقالع والكسارات بين البقاع الغربي والجنوب التي تقع أو تجاور حرم مشروع الـ 800. يلفت إلى أن المخطط الأولي للمشروع لحظ وجود الجبال. بعد سنوات، وقبل البدء بتنفيذه، أكلت الكسارات والمقالع الجبال، ما أوجب تعديلات في التنفيذ بكلفة مرتفعة. وهذه الكسارات والمقالع لا تزال تعمل وتهدد بتفجيراتها منشآت المشروع ومستقبله.
هل تؤدي هذه التحركات غرضها؟. يصمت علوية قبل أن يجيب: «يوجد تجاوب من المؤسسات المعنية. لكن المسار العام المتبع لا يوصل إلى رفع مصادر التلوث عن الليطاني وحمايته».
قبل أسبوعين، منع محافظ النبطية محمود المولى العمل المرامل والكسارات من غسل الرمول في نهر الليطاني ضمن نطاق المحافظة وفي عرمتى والريحان والعيشية في قضاء جزين. وطلب من قوى الأمن الداخلي تكليف من يلزم لمنع المرامل والكسارات ورمي الجرف في النهر. طُبّق قرار المحافظ على كل المرامل والكسارات (من ضمنها الحائزة على تراخيص من المجلس الأعلى للمقالع والكسارات التابع لوزارة البيئة) باستثناء ثلاث غير مرخّصة (!)، وتعمل تحت إطار نقل الرمول والناتج من أعمال الحفر والجرف وتحظى بمهل إدارية تجدد دورياً من وزارة الداخلية. علماً بأن أصل المشكلة التي استدعت قرار المحافظ، هي بلدية قعقعية الجسر. فالبلدية حصلت على موافقة من وزارة الطاقة والمياه لتنظيف مجرى النهر في نيسان الفائت عند مقطع المنتزهات. وبدل أن تنظف المجرى بنفسها، ملتزمة بالشروط البيئية، دعت أصحاب المنتزهات إلى تنظيف المقطع المحاذي لمقاهيهم في غضون ثلاثة أيام. وزارة الصناعة بدورها منحت مهلاً إدارية لعدد من المصانع الـ27 التي أقفلتها بنفسها في البقاع قبل أشهر لأنها تصرّف نفاياتها في النهر من دون تكرير.
«استمرار الوضع على حاله، سيدفعني إلى تقديم دعاوى جزائية بحق رؤساء البلديات وسواهم من المعتدين» يقول علوية. يشمل بانتقاده مؤسسات مياه لبنان والصرف الصحي. يتساءل عن «الدور الذي تلعبه في تكرير المياه المبتذلة بينما تأخذ رسماً سنوياً من المواطنين بدل هذه المهمة؟». ويصوّب بشكل خاص على مؤسسة مياه البقاع التي «تسحب المياه بشكل عشوائي من نبع الغزيل أحد روافد الليطاني». السحب العشوائي للمياه من المنبع أدى إلى انخفاض كمية المياه التي تصل إلى البحيرة في ظل انخفاض المتساقطات.
هكذا، فإن الدولة التي أقرت مشروع خطة مكافحة تلوث الليطاني ورصدت له 880 مليون دولار، بمعدل 4.4 ملايين دولار لكل كيلومتر، هي نفسها، بوزاراتها ومؤسساتها، مستمرة في دعم مصادر التلوث وتغطيتها (يبلغ طول النهر 170 كيلومتراً، وتصريفه السنوي نحو 770 مليون متر مكعب).
هذه الدوامة تؤثر على حياة أكثر من 20 في المئة من اللبنانيين المستفيدين من مشاريع الري ومياه الشفة والإستعمال المنزلي وتوليد الطاقة. في هذا الإطار، مشاريع الري الثلاثة على النهر، يعمل منها اثنان حالياً: القاسمية من جنوب صيدا الى جنوب صور ومشروع الـ 800 (قيد الإنجاز) من نبع عين الزرقاء في البقاع الغربي الى مرجعيون وبنت جبيل وصور. أما مشروع الـ 900 الذي يجر مياه الري من بحيرة القرعون إلى بلدات البقاع الغربي صعوداً نحو البقاع الأوسط، فقد أوقفه محافظ البقاع بسبب تلوث مياه بحيرة القرعون واستيطان الأمراض والروائح الكريهة في مجرى النهر وقنوات الري. يؤكد علوية بأن الري من مشروع الـ 900 لا يزال متوقفاً، لكنه لا يستبعد «قيام بعض المزارعين بري مزروعاتهم مباشرة من النهر أو سحب مياهه لاستخدامها». علماً أنه، في البقاع، صار صيت «مزروعات مروية من الليطاني» كافياً لإحجام كثيرين عن تناولها. لكن بقعة الخطر لن تبقى محصورة بالبقاع والجنوب. مشروع جر مياه نهر الأولي إلى بيروت وجبل لبنان كفيل بإدخال التلوث إلى كل بيت في المنطقتين الأكثر كثافة في لبنان (يرجح بدء تشغيل المشروع عام 2019). التلوث لم يؤثر على مشاريع الري التابعة للمصلحة فحسب. إذ أن مشاريع توليد الطاقة (ابراهيم عبد العال في البقاع وجون والأولي) التي تحتاج إلى مياه نظيفة مهددة أيضاً.
المصلحة التي تحمل اسم الليطاني ليست وفق قانون إنشائها ذات صفة لحمايته والدفاع عنه!


يدعو علوية إلى تعجيل تنفيذ خطة مكافحة التلوث التي انقضى منها عامان حتى الآن. وينتقد الدعوات لتمديدها في حين أن اعتماداتها صرفت عام 2014، ما يعني بأن أربع سنوات انقضت فعلياً. تسريع إنشاء المحطات ينقذ من المزيد من مصادر التلوث التي ستزيد نسبته وتصعب عملية مكافحته.

ما المصلحة من المصلحة؟
يسوء وضع الليطاني يوماً بعد يوم إلى حد إعلانه من قبل البعض نهراً قاتلاً. إزاء هذا الواقع، أي دور يبقى للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني؟.
يوضح علوية بأن قانون إنشاء المصلحة عام 1954 لم يتناول سوى استثمار مياه بحيرة القرعون بالري وتوليد الطاقة الكهربائية. ولم يلحظ للمصلحة دوراً في إدارة النهر أو حماية حوضه ومجراه. إلى ما قبل سنوات، كان العمل اعتيادياً في المصلحة المستقلة عن وزارة الطاقة والمياه، إلى أن أصبح التلوث ظاهراً بسبب مصادر التلوث العشوائية من المياه المبتذلة والنفايات الصناعية والكيميائية والمبيدات الزراعية. رئيس مجلس إدارة المصلحة الأسبق ناصر نصر الله تقدم بعشرات الشكاوى ضد الملوثين، لكن القضاء كان يردها لانتفاء الصفة!.
هكذا وجدت الدولة طوال سنوات بأن المصلحة التي تحمل اسم الليطاني ليست ذات صفة لحمايته والدفاع عنه في مقابل تقصير وزارة الطاقة والمياه (يقع النهر تحت وصايتها) إزاء التعديات والملوثات، إلى أن تحول النهر إلى كارثة وطنية تشترك في حلها هيئات دولية أبرزها البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. الفكرة «ضوّت» في رأس البنك الدولي ومجلس الإنماء والإعمار اللذين قدما مشروع اقتراح على هامش القانون رقم 63 (مكافحة تلوث الليطاني)، يقضي بتكليف المصلحة بالحوكمة وإدارة حوض النهر والمستفيدين منه والمقيمين على ضفتيه من البلديات والمواطنين وأصحاب الحقوق والمزارعين ووضع سياسة للحوض. يشير علوية إلى تضمن القانون 63 اقتراحاً لتعديل قانون 1954 وتوسعة صلاحيات المصلحة. ينتظر الإقتراح الإقرار والنظر في دفتر الشروط التي رفعها علوية للمجلس والبنك. في انتظار ذلك، أقر مجلس الوزراء بأهمية دور المصلحة وعين رئيسها أمين سر اللجنة الوزارية التي أنشئت لمتابعة تنفيذ القانون.



الليطاني لا يزال حياً


يرفض علوية إدراج الليطاني في خانة الموت السريري. يقر بأن الحوض الأعلى ملوث بسبب تعديات المواطنين وتقصير الدولة. اما الحوض الأدنى فهو غير ملوث. وضع خطة عمل لمواجهة التحديات الراهنة. طلب من البنك الدولي إنشاء خمس محطات على طول المجرى لقياس نسبة التلوث بشكل دوري وتبيان إمكانية استخدام المياه للري. حتى إنجاز المحطات، طلب من مصلحة الثروة المائية الكشف الميداني الدوري على نوعية المياه والتعديات في نهر الليطاني.
تغيير مهام المصلحة ضرورة ملحة بنظر علوية، بعد أن طرأت ثلاثة عوامل جذرية: التلوث ومشروع ري الـ 800 وقانون المياه الذي أنشأ جمعيات مستخدمي المياه. في هذا الإطار، يشمل البحث بطبيعة المهام الجديدة للمصلحة، إدارة مشروع الـ 800 وانخفاض المتساقطات الذي أدى إلى تراكم الملوثات في بحيرة القرعون. وهذان العاملان يهددان عمل معامل توليد الطاقة، لا سيما في ظل خطة تطوير معامل عبد العال وجون والأولي.