لا تنتهي أزمة في القطاع العقاري حتى تنفجر أخرى. الأزمة السابقة الناتجة من تقليص مبالغ الدعم واستهلاك كامل كوتا الدعم عن عام 2018 ونصف الكوتا المخصصة لعام 2019، تطوّرت الأسبوع الماضي بعدما تبيّن أن هناك مصارف تحجز مبالغ الكوتا لزبائن معينين مرتبطين بعقود مع تجار مدينين لها. انكشف الأمر للمؤسسة العامة للإسكان، ما دفع رئيس مجلس الإدارة المدير العام روني لحود، إلى إصدار قرار يوم الخميس الماضي يطلب فيه من المصارف «عدم قبول أي طلب قرض سكني جديد اعتباراً من نهار الاثنين (أمس) حتى إشعار آخر». مضمون القرار وصياغته يعبّران عن حجم الأزمة والتخبّط الناتج منها. الممارسات «الشاذة» هي إحدى الأدوات التي تحرّكها مصالح الأطراف المعنية من مصارف وتجار عقارات على حساب الزبائن والمؤسسة العامة للإسكان. حجز جزء من الكوتا المدعومة للقروض وتخصيصها لزبائن التجار المدينين للمصارف يعدّ خطوة كافية لتحديد حجم أزمة السوق العقارية وتورّط طرفيها. نسبة انخراط المصارف في تمويل تجّار العقارات ومشاريعهم هو جوهر الأزمة.
منعاً للوساطات والتدخلات
كان لافتاً ما ورد في قرار لحود عدم قبول أي طلب قرض سكني جديد «حتى إشعار آخر». القرار موجّه إلى المصلحة الإدارية والقانونية في المؤسسة العامة للإسكان ويستند إلى الآتي: «حيث أن المصارف تواجه صعوبة في الموافقة على جميع طلبات القروض السكنية المستوفاة كامل شروط بروتوكول التعاون الموقع بين المؤسسة وجمعية مصارف لبنان، ومنعاً للإحراج والتدخلات والوساطات».
روني لحود يطلب عدم قبول أي طلب قرض سكني جديد «حتى إشعار آخر»(هيثم الموسوي)

ما هو واضح أن قرار لحود موجّه مباشرة للمصارف التي لم تستنفد مبالغ الدعم بكاملها، إذ إن المصارف التي استنفدت كوتا الدعم لن تقدم على إرسال أي طلب قرض سكني إلى المؤسسة العامة للإسكان. كما يظهر أيضاً أن هناك مصارف محدّدة معنية به، وأنه يأتي درءاً لوساطات وتدخلات، أي أنه ينطوي على اتهام مبطن لهذه المصارف بأنها تقوم بممارسات غير مقبولة في وقت تعاني السوق من شحّ التمويل المدعوم للقروض السكنية.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن هناك ما لا يقل عن ثلاثة مصارف كانت تمتنع قصداً عن استقبال طلبات القروض المدعومة وتحجز الكوتا التي حصلت عليها من مصرف لبنان عن الزبائن لمصلحة زبائن آخرين يشترون شققاً من تجار عقارات مدينين لهذه المصارف. تعتقد المصارف، بهذا السلوك والممارسات غير السليمة، أنها تحمي محفظة تسليفاتها العقارية في السوق، فتمنح المطوّر محفّزاً لبيع الشقق بقروض محجوزة مسبقاً ولا تضطر أن تصنّف تجار العقارات المدينين لها ضمن خانة الزبائن المتعثّرين، لا بل سيكون لديهم الإمكانية في البيع وتحقيق ربح يستند إلى دعم مصرف لبنان على حساب مئات الطلبات العالقة في السوق.
في الواقع، يمكن تصنيف ما تقوم به هذه المصارف من حجز للقروض المدعومة، على أنه عملية احتكارية لتسهيل استفادة فئة معينة من المال العام، وهو يأتي بعد سلسلة سنوات من الدعم الذي استفاد منه عدد كبير من الأثرياء والمتمولين ورجال الأعمال والسياسيين.
عملياً، إن قرار المؤسسة العامة للإسكان لا يمكن تفسيره بغير هذا الإطار، فهو ليس وقفاً لاستقبال القروض المتوقفة أصلاً، بل هو احتجاج على احتكار القروض من بضعة مصارف، وهو لا يعني بأي شكل من الأشكال أن القروض السكنية توقفت في شكل نهائي، لكنه يعبّر بوضوح عن حجم الأزمة الكامنة في التمويل العقاري سواء بين المصارف وتجار العقارات، أو بين التجار والزبائن، أو بين الزبائن والمصارف.
مصارف تمتنع عن استقبال طلبات القروض المدعومة وتحجز الكوتا لزبائن يشترون من تجار عقارات مدينين لها


ما يعزّز هذا الأمر، أن قرار لحود يأتي بعد أشهر على قيام مصرف لبنان بتعديل آلية دعم القروض السكنية وتقليص المبالغ المخصّصة لدعمها. يومها برزت مشكلة القروض العالقة في النظام المصرفي ومشكلة القروض الجديدة. استهلكت سريعاً الكوتا التي خصصها مصرف لبنان للدعم بقيمة 750 مليار ليرة وانتفخت المشكلة أكثر مع وجود طلبات عالقة لم تستفد من القروض على رغم أن طالبيها دفعوا مقدماً لمالكي الشقق أو بدأوا بإجراء أعمال الديكور وتحسينات أخرى قبل أن يحصلوا على القرض... ولم تحلّ هذه المشكلة إلا بعد استهلاك أكثر من نصف الدعم المخصص لعام 2019 فازدادت الشكوك حول مصير السوق والأسعار والورم التمويلي في القطاع العقاري. من ضمن هذا المسار، تبيّن للمؤسسة العامة للإسكان أن هناك مصارف توقفت عن إرسال الطلبات إليها بذريعة استهلاك الكوتا المخصّصة لهم من مصرف لبنان، ثم اكتشفت لاحقاً أن هذه المصارف تحجب كوتا الدعم عن الطلبات المقدمة إليها من الزبائن لأسباب احتكارية وليس بسبب استنفاد الدعم.
يذكر أن المدير العام للمؤسسة العامة للإسكان روني لحود ردّد بأن «قرار إيقاف الطلبات الجديدة يخدم البت بالملفات القديمة لأن هذه المسألة هي اجتماعية والتمييز فيها غير مقبول»، وأشار إلى أن «القروض السكنية المدعومة من مصرف لبنان متوقفة لذا رفضت الطلبات الجديدة، علماً أن طلبات القروض السكنية المقدمة قبل صدور القرار لن تتوقف، إلا أننا لن نستقبل طلبات جديدة في الوقت الحالي». وأشار لحود إلى أن البحث عن مصادر تمويل جديدة مستمر. وفي هذا الإطار، هناك مشروع قانون تقدّم به ثلاثة من نواب تيار المستقبل يتيح دعم القروض السكنية عبر وزارة المال وليس عبر مصرف لبنان، كما كان سابقاً.



إنقاذ تجار العقارات بالمال العام!
يطلب تجار العقارات أن يدفع اللبنانيون ثمن مغامراتهم السوقية. هم يريدون أن تستمرّ القروض المدعومة من أجل الحفاظ على أسعار العقارات عند مستوياتها الحالية وربما يأملون برفعها قليلاً أيضاً، ما يوفّر لهم تغطية على رؤوس أموالهم الموظّفة في القطاع ويمنع عنهم كأس التعثّر أمام المصارف. يريدون استمرار القروض المدعومة من المال العام لإنقاذ رؤوس أموالهم من مغامرات عقارية اعتقدوا أنها ستستمرّ من دون نهاية. هذه هي القصة الكامنة وراء البيانات المؤيدة لمشروع نواب تيار المستقبل الرامي إلى دعم القروض السكنية. الحوافز السابقة التي وردت في مشروع موازنة 2018 مثل خفض رسم التسجيل العقاري على الشطر البالغ 375 مليون ليرة من قيمة الشقة إلى 3 في المئة، لم تنفع، فيما تبيّن أن ديون التجار للمصارف قد تصنّف متعثّرة أو مشكوكاً بتحصيلها، لذا هم يطالبون اليوم بـ «سلسلة تحفيزات تتيح إنعاش القطاع العقاريّ قبل أن يفوت الأوان ويصبح من الصعب جداً أن يقوم من محنته»، كما ورد في بيان جمعية مطوّري العقار في لبنان أمس. المطلوب حصّة إضافية من المال العام لدعم التجار!