لم يُحدث دخول أول دفعة من العقوبات الأميركية ضد إيران حيّز التنفيذ تأثيراً واضحاً حتى الآن بأسواق إيران واقتصادها، غير ما بدأ ينعكس على العملة الإيرانية في الأسابيع السابقة لإقرار العقوبات. على العكس من ذلك، شهدت سوق الذهب والعملات تحسّناً طفيفاً، عزته الصحف الإيرانية إلى الانعكاس الإيجابي للخطة المالية الجديدة التي أقرّتها الحكومة. وأمس، بالتزامن مع دخول العقوبات عملياً حيّز التنفيذ، باشرت الحكومة الإيرانية بتطبيق حزمة اقتصادية جديدة. وقال الرئيس حسن روحاني إن السياسة الجديدة ستُنفَّذ بالكامل في خلال الأسبوع المقبل، و«ستكون أنشطة الصرافين حرّة... وسيُحرَّر إدخال العملة الصعبة والذهب إلى البلاد من دون رسوم جمركية أو ضريبة على القيمة المضافة». وأشار إلى أن البنك المركزي تعهّد بتخصیص العملة الصعبة بالسعر الرسمي (4200 تومان) للسلع الأساسیة والأدویة، و«هذه الأسعار لن تتتغیر حتى بدایة العام» الإیراني المقبل في آذار/ مارس 2019.لكن رغم اطمئنان حكومة روحاني إلى قدرتها على مواجهة العقوبات وتخطّيها، أقلّه الحزمة الأولى منها قبل الدفعة الثانية التي اعترف روحاني بصعوبتها في خطابه الأخير، فإن أفق تأثير العقوبات على الاقتصاد الإيراني لا يزال ضبابياً لناحية حجم هذا التأثير ومدى انعكاسات الحظر. تصرّ إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على أن تُحدِث الإجراءات ضد طهران «إيلاماً غير مسبوق تاريخياً»، كما يكرّر ترامب. الأخير عاد وشدد، في تغريدة على «تويتر»، على ضرورة التزام دول العالم كافة العقوبات الأميركية. وكتب ترامب: «العقوبات الإيرانية فُرضت رسمياً. هذه العقوبات هي الأكثر إيلاماً التي تُفرَض على الإطلاق، وفي تشرين الثاني ستُشدَّد إلى مستوى جديد». وفي تحذير للدول التي تنوي الاستمرار في التعامل مع إيران، أضاف ترامب: «أي جهة تتعامل تجارياً مع إيران لن يكون بإمكانها التعامل تجارياً مع الولايات المتحدة. لا أسعى إلى شيء أقل من السلم العالمي».
ترتبط معظم الشركات الكبرى العاملة في إيران بمصالح مع الولايات المتحدة


وبذلك، يدشّن الرئيس الأميركي معركة جديدة عنوانها دعم العقوبات من قِبَل باقي دول العالم كي تصبح مؤثرة، ولا تتعرّض لطرق التفافية تفرّغها من هدفها، وذلك تعويضاً عن عدم إقرار العقوبات هذه المرة في مجلس الأمن، حيث السبيل إلى إجراء مماثل ليس متاحاً بحسب التوازنات الحالية والموقفين الروسي والصيني. كلام ترامب يبدو مُوجَّهاً بالدرجة الأولى إلى الحلفاء والأصدقاء: الاتحاد الأوروبي وتركيا والعراق وباكستان والهند ودول الخليج. في الخليج، يؤمّن ترامب، على عكس جولة العقوبات الماضية، حلفاء، من المتوقع منهم التزام العقوبات، بل والانخراط في حصار إيران كهدف ذاتي لكلّ من السعودية والإمارات. وإن كانت أبو ظبي مُتّهمةً بخرق العقوبات الدولية ضد إيران في السابق، فهي مرشحة لالتزام العقوبات الأميركية هذه المرة. على العكس من ذلك، لا مؤشر من باقي الدول المعنية بالمشروع على التزام التهديدات الأميركية، وهو ما عبّرت عنه تركيا والاتحاد الأوروبي بوضوح، ولمّحت إليه كل من الهند وباكستان.
وجدد الاتحاد الأوروبي تأكيده عدم التزام العقوبات، وتشجيعه زيادة التجارة مع إيران، وفق وزيرة خارجية الاتحاد، فيدريكا موغيريني. وقالت موغيريني إن الاتحاد يبذل قُصاراه لمواصلة بقاء إيران في الاتفاق النووي، «واستفادة الشعب الإيراني من فوائده الاقتصادية». ولا يزال موقف الأوروبيين وضماناتهم للحفاظ على الاتفاق موضع تشكيك وعدم رضى إيرانيَّين، حيث تُكرّر طهران مطلب اتخاذ خطوات أكثر نجاعة في مواجهة التهديدات الأميركية. إلا أن وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، أليستير بيرت، طمأن أمس إلى أن حماية الشركات الأوروبية من العقوبات «ممكن». وشدد المسؤول البريطاني على أنه «إذا كانت الشركة تخشى أي تحرك قانوني ضدها، وتنفيذ أي قرار بحقها من كيان ما استجابة للعقوبات الأميركية، فإن هذه الشركة يمكن أن تحظى بالحماية من خلال تشريع الاتحاد الأوروبي»، في إشارة إلى تفعيل الاتحاد لقانون «التعطيل». واعتبر بيرت، في حديث مع هيئة الإذاعة البريطانية «بي. بي. سي.»، أن قرار أي شركة بالتوقف عن العمل هو «قرار تجاري» فحسب، بعد الإجراءات الحمائية. على عكس تصريحات الوزير البريطاني، فإن الأمور على الأرض لا تبدو بهذه السهولة، حيث ترتبط معظم الشركات الكبرى، في مقدمها شركات الشحن والنفط والغاز، بمصالح مع الولايات المتحدة. ومعظم هذه الشركات بدأ بالفعل تجميد أنشطته، وآخرها مجموعة «دايملر» الألمانية لصناعة السيارات، التي كان من المرتقب أن توسع عملها في إيران بعد اتفاقين وقّعت عليهما لتصنيع شاحنات «مرسيدس» وتسويقها.
ومقابل الضغوط الأميركية، وضعف الموقف الأوروبي، ظهر الموقف الروسي أكثر حزماً لناحية رفض السياسة الأميركية ضد إيران. وبعد تأكيد الصين عدم التزامها العقوبات الأميركية، رأت موسكو في معرض ردّها على قرار ترامب أن إعادة العقوبات «مثال واضح على أن واشنطن تواصل انتهاك القرار 2231 الصادر عن مجلس الأمن». وقالت الخارجية الروسية في بيان: «نشعر بخيبة أمل شديدة إثر قرار الولايات المتحدة»، مشددة على أن تجربة السنوات الأخيرة أثبتت أن «الحصول على تنازلات من إيران عبر الضغط لا ينجح»، وأن موسكو «ستقوم بكل ما يلزم» لحماية الاتفاق النووي وعلاقتها الاقتصادية مع إيران.