على رغم توثيقه عدداً كبيراً من جرائم السعودية والإمارات في اليمن بالأرقام والتفاصيل، إلا أن التقرير غير المسبوق الصادر أمس عن فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة لن يخلّف ما يُفترض منطقياً أن يتركه من تأثيرات كابحة على مسار الحرب. مردّ ذلك استمرار الغطاء والدعم الأميركيين، واللذين جدّدهما وزير الدفاع جيمس ماتيس، من دون أن ينسى تظهير حرص بلاده المزعوم على «نظافة» عمليات «التحالف».إذا كان لتحالف العدوان على اليمن، في ما مضى، أن ينكر الإدانات المتكررة والمتفرقة له على خلفية جرائمه في هذا البلد، فإنه سيجد مهمّته أكثر صعوبة هذه المرة، بعد صدور تقرير، هو الأول من نوعه، لفريق الخبراء التابع للأمم المتحدة، يوثّق في إحدى وأربعين صفحة انتهاكات «التحالف» بحق اليمنيين. جرائم مهولة ليس الحديث عنها جديداً، لكن اجتماعها في تقرير واحد يكاد يلخّص الصورة القاتمة التي شكّلتها السعودية والإمارات منذ تدخلهما في اليمن: غارات جوية مميتة لم تستثنِ أحداً أو شيئاً وتسبّبت بمعظم الخسائر البشرية، حصار مطبق خلّف آثاراً «مدمّرة» على المدنيين، واحتجاز تعسفي وإخفاء قسري وعمليات تعذيب ممنهجة في المناطق الخاضعة لسيطرة «التحالف» والحكومة الموالية له.
الولايات المتحدة، الداعمة الأكبر لتحالف العدوان والشريكة في جرائمه، سارعت، عقب صدور التقرير، إلى ما اعتادته دائماً من محاولتها نفض يدها من الفظائع المرتكبة في اليمن. إذ ادعى وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، أن بلاده «تُراجع على الدوام» الدعم الذي تقدّمه لـ«التحالف»، من دون أن يفيد بما آلت إليه تلك المراجعات إن كانت قد حدثت حقاً. وأضاف ماتيس إن «سلوكنا هناك (يركز على) محاولة أن تكون الخسائر البشرية (في صفوف) الأبرياء الذين يسقطون قتلى عن غير عمد عند أدنى حد ممكن»، وهو بذلك يبرّئ «التحالف» من استهداف المدنيين عمداً، من جهة (علماً بأن تقرير الخبراء شكّك في احترام السعودية والإمارات مبدأ التمييز، مُنبِّهاً إلى أن استخدام الذخائر الموجهة بدقة يشير عادة إلى أن ما تم ضربه هو الهدف!)، ويعيد اجترار الحديث عن حرص واشنطن على تقليل الخسائر من جهة أخرى، من دون أن تُقدِم على خطوة عملية في هذا الاتجاه (يعتقد ماتيس أن تقليل الدعم المُقدّم لـ«التحالف» لن يفيد في ذلك). وتابع الوزير الأميركي إن «هدفنا هو الحدّ من هذه المأساة، ونقلها إلى مائدة (مفاوضات) برعاية الأمم المتحدة في أقرب وقت»، علماً بأن لا شيء، في ما يتصل بهذه المفاوضات، يشي إلى الآن بأن ثمة إرادة أميركية في إرساء التسوية.
وسبقت تصريحات ماتيس تسريباتٌ أوردتها شبكة «سي أن أن» الأميركية، نقلاً عن الـ«بنتاغون»، من أن الأخير حذّر السعودية من أنه على استعداد لتقليص الدعم العسكري والاستخباري المُقدّم لها في اليمن، إذا لم يُبدِ السعوديون جهداً للحدّ من الخسائر المدنية في الغارات الجوية. لكن الخبراء في السياسة الخارجية الأميركية يضعون تلك التسريبات، أيضاً، في إطار مساعي إدارة دونالد ترامب إلى التملّص من الجرائم المرتكبة بحق المدنيين اليمنيين، وتظهير نفسها، في مواجهة الضغوط الداخلية والأممية لوقف الدعم الأميركي، بمظهر الحريص على «نظافة» الحرب. ويرى هؤلاء الخبراء أنه رغم اتساع دائرة الاعتراض في الكونغرس الأميركي، وكذلك داخل العديد من المؤسسات الأميركية، على الاستمرار في حرب اليمن، (استفاق قائد القوات الجوية في الشرق الأوسط، المشارك في عمليات «التحالف»، اللفتنانت جنرال جيفري هاريجان، قبل أسبوع من تقاعده، ليعبّر عن قلقه وإحباطه بشأن الإصابات في صفوف المدنيين)، إلا أن واشنطن لن تُقدِم في نهاية المطاف على ما يخالف مصلحتها، المرتبطة إلى الآن بمواصلة دعم عمليات تحالف العدوان.
وهو دعم ينسحب كذلك على مجلس الأمن، الذي لم يلتئم لمناقشة الجرائم المرتكبة في اليمن إلا لدى وقوع «مذبحة ضحيان». وإذ اقتصر تفاعله مع المجزرة على الدعوة إلى التحقيق فيها، جاءت عبارات رئيسته، المندوبة البريطانية كارين بيرس، في الاجتماع المغلق، مُغلَّفة بكثير من التهذيب والمراعاة للجانب السعودي، إذ تعمّدت بيرس عدم ذكر اسم السعودية أو تحميلها أي مسؤولية عن المجزرة، كما لم تنسَ جرياً على عادة حكومتها المساواة بين الضحية والجلاد، بإشارتها إلى أن المجلس يدعو جميع الأطراف إلى الامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي. ومذذاك، لا يزال العالم ينتظر الجلاد السعودي حتى يصدر نتائج التحقيق، فيما تبدو تصريحات الأمم المتحدة وبياناتها وتقاريرها عاجزة عن تحقيق أهداف ردعية أو عقابية، من قبيل إجبار السعودية على اتباع القواعد المعمول بها دولياً، والتي تفرض على الدول المتصارعة حماية المدنيين وتجنيبهم المخاطر.
هذا القصور الأممي والغطاء الغربي هو ما يدفع السعودية إلى التمادي في الجريمة، ليس عبر الاعتراف بها فقط، بل والدفاع عنها أيضاً، ورفض أي استنكار لها. بطريقة أو بأخرى، يقول المسؤولون السعوديون للأمم المتحدة والمجتمع الدولي إن عليهما ليس فقط السكوت، إنما أن يجيدا أيضاً فن الصمت؛ لا لشيء إلا لأن «مملكة الخير» تنفق مبالغ طائلة لشراء المواقف، ويزعج أمراءها سماع عبارات التنديد والقلق أو التعاطف مع أهالي الضحايا. انزعاج جاءت آخر تجلياته على لسان الناطق باسم «التحالف»، تركي المالكي، الذي اتهم المسؤولين الأمميين باتخاذ «مواقف غير حيادية، وتسويق الرواية الحوثية». ويوم أمس، أعلن المالكي أنه تمت إحالة تقرير الخبراء إلى «الفريق القانوني»، قائلاً إنه «بعد المراجعة القانونية، سيُتخذ الموقف المناسب بهذا الشأن».
أما الإمارات، فسارعت، كعادتها، إلى التقليل من أهمية ما أورده التقرير، وتبريره بـ«الضرورات الأمنية»، في استلشاق مقصود بمئات الضحايا الذين بلغ عددهم بحسب خبراء مجلس حقوق الإنسان 16706، بينهم 6475 قتيلاً. إذ اعتبر وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش أن «لكل أزمة تحدياتها السياسية والإنسانية، ولكن يبقى الأساس في أزمة اليمن قيام التحالف بدوره نحو استعادة الدولة اليمنية وحفظ مستقبل المنطقة من التغوّل الإيراني». وفي محاولة منه لصرف الأنظار عن فداحة ما اتهم به التقرير «التحالف»، وتضخيم ما تضمنه من اتهامات لـ«أنصار الله»، قال قرقاش: «تقرير الخبراء اليوم لا بد لنا من مراجعته والرد على حيثياته ومراجعة ما يقوله عن فظائع الحوثي وإجرامه واستهدافه للمدنيين».
أما ما تسمى «الشرعية»، والتي تتخذ من الرياض مقراً لها، فهي دائماً في موقع المزايدة، وأحدث مظاهرها احتجاج وزيرَي الإعلام وحقوق الإنسان في حكومة الرئيس المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، على عيادة منسقة الشؤون الإنسانية في اليمن، ليز غراندي، جرحى مذبحة ضحيان، حيث انفجرت بالبكاء وبدا عليها التأثر، فما كان من الوزيرين المذكورين إلا توجيه الاتهام لها بـ«الانحياز وعدم الصدقية».


«جرائم حرب» بالجملة
حمّل فريق الخبراء الدوليين والإقليميين المعنيّ باليمن، «التحالف» بقيادة السعودية، المسؤولية عن «سقوط معظم الإصابات المدنية الموثّقة»، لافتاً إلى أن «الغارات الجوية استهدفت مناطق سكنية وأسواقاً وجنازات وحفلات زفاف ومرافق احتجاز وقوارب مدنية ومرافق طبية»، مؤكداً أن «هذه الأفعال قد ترقى إلى جرائم حرب». وتحدث تقرير فريق الخبراء عن الحصار البري والجوي والبحري المفروض على اليمنيين، مشيراً إلى أنه كان لذلك الحصار «آثار واسعة النطاق ومدمرة وكارثية على السكان المدنيين». ونبّه إلى أن هذه القيود «لن تكون فعالة في تحقيق الأهداف العسكرية المعلنة»، جازماً أنه لم يتم «خلال السنوات الثلاث (الماضية)، ضبط أي أسلحة عبر عمليات التفتيش التي تجريها قوات التحالف والأمم المتحدة»، متابعاً إن «هكذا أفعال قد ترقى، مع توافر شرط النية، إلى جرائم دولية». وتطرّق التقرير إلى قضية السجون الخاضعة لسيطرة «التحالف» في المحافظات الجنوبية، مُتحدثاً عن أن المعتقلين هناك «تعرضوا للتعذيب والمعاملة القاسية»، وكذلك للعنف الجنسي والاغتصاب على أيدي القوات الإماراتية، مُحمّلاً حكومات اليمن (حكومة هادي) والإمارات والسعودية المسؤولية عن حالات الاختفاء القسري في تلك المحافظات.
(الأخبار)