يسير «التنّين الصيني» بخطوات ثابتة نحو استكمال استراتيجيته الاقتصادية الشاملة، التي تلامس آفاقاً مختلفة ومغايرة للأنماط التجارية التقليدية، تتمثّل في اتفاقات حرة وأُطر للتعاون مع الدول حول العالم. وهو الأمر الذي جعل من القارة السمراء هدفاً رئيساً للاستثمارات الصينية في العقدَين الأخيرَين. تمتدّ جذور الاستراتيجية الصينية في أفريقيا إلى عام 1978، تحديداً منذ أن أعلنت بكين إعلاء مبدأ «المشاركة والتعاون» مع العديد من الحكومات، في مشروعات ضخمة تتعلّق بالبنية التحتية الأساسية لتلك الدول. هذا العام، تعزّزت جهود بكين المتواصلة في تعزيز نفوذها في القارة السمراء، مع احتضانها قادة دول أفريقيا وكبريات شركاتها، ضمن «منتدى التعاون الصيني ــ الأفريقي» (فوكاك) الذي شارك فيه أكثر من 30 رئيس دولة أفريقية وعدد من رؤساء الحكومات ووزراء الخارجية، واختتم أعماله أمس برفض مسؤولين صينيين وأفارقة الانتقادات المُوجَّهة إلى مشاريع التنمية الخارجية لبكين، باعتبارها تزيد من عبء ديون الدول الأفريقية.
تقدّم على واشنطن
بحثت بكين، من خلال «فوكاك»، الذي جاء في خضمّ الحرب التجارية مع واشنطن، عن استغلال الفراغ في القارة، وذلك بعدما فتحت سياسات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المُهمِلة لأفريقيا، الباب أمام الصين نحو القارة السمراء. وعلى رغم أن العلاقة الأميركية ــ الأفريقية تحسّنت قليلاً في عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، الذي زار القارة بعد ستة أشهر من انتخابه، حاملاً رسالة إلى الأفارقة تدعوهم إلى تولّي أمر مصيرهم بأنفسهم، إلا أن هذه العلاقات عادت وتراجعت مع تولّي ترامب سدة الحكم، في ظلّ عدم اهتمام إدارته بالقارة. بدا ذلك من خلال توجّه واشنطن نحو تقليص حجم المساعدات المُقدَّمة للبلدان الأفريقية إلى الثلث في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وتبريرها خطوتها بأنها سعي لاعتماد مبدأ «تعزيز التجارة والاستثمارات في أفريقيا»، بدلاً من سياسة المساعدات والمعونات التي اعتُمدت في السابق. وقد شكّل هذا التقليص محور خلاف بين ترامب وعدد من المسؤولين، الذين حذّروا من أن قراره يشكّل خطراً على المصالح الحيوية الأميركية في القارة، ويفسح المجال أمام لاعبين آخرين لتعزيز علاقاتهم الاقتصادية والسياسية على الساحة الأفريقية، في إشارة إلى الصين.
رفض الصينيون والأفارقة الانتقادات الأميركية المُوجَّهة إلى مشاريع بكين


وقد حاول مسؤولون في البيت الأبيض إصلاح ما أفسده رئيسهم، إذ وصفوا الاستثمارات الصينية في القارة بأنها «تشجّع على الاعتماد على الغير»، فيما قالوا إن مساعي الولايات المتحدة تهدف إلى الترويج لـ«النمو المستدام». لكن الأميركيين لم يتمكّنوا من الحفاظ على مكانتهم الأولى هناك، بعدما أزاحتهم الصين قبل سنوات، وبفعل سياسة واشنطن في أفريقيا خلال الحرب الباردة، والتي أدّت إلى فقدان أفريقيا ثقتها بالولايات المتحدة. أكثر من ذلك، كان ترامب، في بداية العام الحالي، قد أثار حفيظة الزعماء الأفارقة، بعدما وصف، في اجتماع مع أعضاء الكونغرس من الحزبين «الجمهوري» و«الديموقراطي»، البلدان الأفريقية ودولاً أخرى بـ«الحثالة»، ما دفع 54 دولة أفريقية للمطالبة باعتذار الرئيس الأميركي شخصياً.

خوف أميركي
تخشى الولايات المتحدة من تنامي الدور الصيني في أفريقيا، إذ من الممكن أن يفقدها ذلك مكانتها هناك إلى الأبد. فحتى المساعي التي قام بها وزير الخارجية الأميركي السابق، ريكس تيلرسون، في آذار/ مارس الماضي، قبيل جولته الأفريقية، حين شنّ هجوماً على الدور الصيني في أفريقيا وحذّر من أنشطتها التجارية، مشيراً إلى أنها تهدّد استقلال دول أفريقيا، لم تُجد نفعاً.
كما أن واشنطن سبق وعبّرت عن مخاوفها من النفوذ العسكري في القارة، إذ حذّرت وكالة الاستخبارات الأميركية، في أيلول/ سبتمبر الماضي، من أن أول قاعدة عسكرية خارجية للصين (في دوراليه في جيبوتي شرق أفريقيا) قد تتبعها العديد من القواعد. وقبلها، في شباط/ فبراير الماضي، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالاً بعنوان «قاعدة صينية في جيبوتي تثير قلق واشنطن»، أبرزت فيه مخاوف واشنطن من القاعدة الصينية.
أما بكين، فإنها قد عرفت كيف تستغل في هذا المجال خصومتها التجارية مع واشنطن، إذ قامت بالترويج لسياسة تدعو إلى القطع مع «النزعة الانفرادية» في المجال التجاري، والتي تتبناها الولايات المتحدة. فالصينيون الآن باتوا يلعبون على الهوة المتزايدة بين الأفارقة والأميركيين، محاولين اقتناص الفرص التي تتاح لهم من جرّاء تصدع تلك علاقات.

في الصدارة
في السنوات الخمس الأخيرة احتلّت الصين مركز الشريك التجاري الأول لأفريقيا، وذلك يعود إلى استثماراتها المنتشرة في أغلب الدول، واعتمادها سياسة المصالح المتبادلة، إضافة إلى عدم تدخّلها في شؤون الدول. وعلى عكس واشنطن، تبنّت بكين سياسة القروض الميسّرة والمساعدات غير المشروطة بحقوق الإنسان أو الحريات وغيرها من الشروط التي تضعها الدول الغربية عادة. ووفق الجمارك الصينية، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا عام 2017 أكثر من 170 مليار دولار، بعدما كان 765 مليون دولار عام 1978، بزيادة تصل إلى 14 في المئة سنوياً، فيما بلغ حجم التبادل التجاري بين واشنطن والقارة 39 مليار دولار في العام نفسه، وفق ما أعلنه تيلرسون.
إلى جانب ذلك، بلغت قيمة الاستثمارات المباشرة من المؤسسات الصينية إلى القطاع غير المالي في أفريقيا، في الفترة ما بين كانون الأول/ ديسمبر 2016 وكانون الثاني/ يناير 2017، 3.1 مليار دولار. ووقّعت الصين في الفترة نفسها عقوداً جديدة لمقاولة المشاريع بقيمة 76.5 مليار دولار، وأنجزت أعمالاً بقيمة 51.2 مليار دولار. كذلك، شيّدت الشركات الصينية الكثير من الطرق السريعة وخطوط السكك الحديدية والموانئ والمطارات ومرافق الاتصالات، ما أسهم في شكل كبير في تحسين بيئة التنمية الاقتصادية لأفريقيا، وساعدها على جذب الاستثمارات الأجنبية إليها.
والآن، تمسك شركات صينية بزمام المبادرة في مجال التنقيب عن النفط الأفريقي، خصوصاً في الكونغو ونيجيريا والسودان، وبعض هذه الشركات بات لديها امتداد في دول القارة النفطية. وتُعدّ الصين ثاني مستهلك عالمي للبترول عالمياً، وهي اليوم تحصل على ثلث حاجاتها النفطية من أفريقيا.