يقف حسين عمرو، أمام مقهاه المحترق، تارة يبتسم وأخرى يقطّب حاجبيه. تحطّم زجاج محلّه في التفجير الأول، قبل 18 يوماً، وها هو الآن يرى كل شيء قد تفحّم. يقول: «في المرتين كنت داخل المحل، ربما في المرّة الثالثة أصاب، من يدري؟». يقولها مبتسماً. يكابر على نفسه. كيف لك أن تبتسم بعد الذي حصل أمامك على بعد أمتار؟ يجيب: «هل تريدني أن أبكي؟ ماذا أترك لأهالي الشهداء الذين فقدوا حياتهم، وهم من المارة؟ لا بد أن نظل نبتسم». جاره، صاحب محل زهور اللقمان، يضع زهوره عادة في الخارج عند العتبة. هذا اليوم لم يفعل، كانت همّته ثقيلة، فدوّى الانفجار أثناء إعداده «بوكيه» لزبونة في الداخل. لو كان في الخارج، على عادته، لما بقي حيّاً.
ثمّة طفل صغير يقف على الشرفة، في الطبقة التاسعة من المبنى، ينظر إلى أسفل ويديه على خدّيه. يتأمل المشهد بصمت. كانت قد أطفئت النيران، التي لم تصل إلى تلك الطبقة إلا قليلاً، فبدأ الناس يعون ما حصل. احتشدوا في «الشارع العريض». في الطبقة الثالثة راية لحزب الله، وضعت بعد الانفجار، وسيدة تقف جانبها. الراية هنا موقف. تريد أن تقول: «نحن الآن مع حزب الله أكثر». قبل أن يُتاح للناس التعبير عن مشاعرهم، كان الهرج والمرج سيّد الموقف، كما يحصل بعد كل انفجار. هتافات تطلق فجأة ثم تغيب. الجميع عرفوا، من اللحظات الأولى، أن انتحارياً مرّ من هنا. الأشلاء في كل مكان، التصقت بجدران الأبنية المجاورة، وإحداها ظلّت معلقة في أعلى مبنى السباعي.
بعد الانفجار الأول في الشارع، مطلع الشهر الجاري، أيقن أهل الضاحية أنهم أمام «مسلسل موت». ليست حوادث عابرة. يوم أمس، كان واضحاً أنهم بدأوا يعتادون الأمر. شيء من البرود يظهر في ردود أفعالهم. حتى الأحاديث في ساحة الجريمة بدأت تتغير. ما عاد يعنيهم كثيراً إن كانت العملية انتحارية أو سيارة مفخخة. الموت هو الموت. ماذا يعنيهم أن يعرفوا نوع السيّارة أو رقم لوحتها أو أن تُطلق وزارة الصحّة تعميمها الشهير: «على جميع المستشفيات استقبال الجرحى على نفقتها»! ما من أحد اكترث بالخبر الرسمي عن سيارة، هي من نوع «كيا» رباعية الدفع، مسروقة وكانت تحوي 3 قذائف من عيار 120 و130 ملم وقُدرت قوتها بنحو 15 كلغ من مادة الـ«تي أن تي». عُثر، بحسب بيان للجيش، على حزام ناسف «لم ينفجر مع أشلاء جثّة الانتحاري». تُرى، ماذا يعني أهالي الشهداء الأربعة، وأهالي عشرات الجرحى، إن كانت من نوع «كيا» أو «شيروكي»؟ حتى فكرة «الانتحاري» بدأت تُصبح مألوفة. لكن غير المألوف، أو الجواب الذي لا يجد صاحب مقهى «ألوان» جواباً له: «متى كانت آخر عملية انتحارية نفذها هؤلاء في فلسطين؟». كان لافتاً، أقله من ناحية الاسم، أن الانفجار حصل أمام «مكتبة القدس».
المشهد يتكرر. عشرات، وربما مئات، من الناس يحتشدون حول نقطة المقتل. لا شيء يُفلح في إبعادهم، حتى إطلاق النار الكثيف في الهواء لا يُجدي نفعاً، فضلاً عن المناشدات المُلحة بالابتعاد عبر مُكبر الصوت. كأن الناس يريدون أن يعرفوا كيف سيكونون، لاحقاً، عندما يحين دورهم. حشرية غير مفهومة. همّة ممزوجة بالحماسة والقلق والتوتر. بعضهم يصعد على أعمدة الكهرباء ليُشاهد أكثر. ناطور موقف السيارات هناك قالها بوضوح: «بت أنظر في عيون الناس، داخل السيارات وخارجها، وأتوقع الانفجار في أي لحظة. لا يمكن أن أصف لك صوت الانفجار والحالة التي تشعر بها في تلك اللحظة. أول ما خطر في بالي كان أطفالي، وجدت نفسي أبكي وأنا أصرخ عليهم بأسمائهم، ولكن الحمد لله وجدتهم كلهم بخير» بدا كأنه سيبكي مجدداً وهو يستذكر اللحظة.
أحاديث جانبية تدور بعد استيعاب الصدمة. شُبان يتحدثون عن الثأر، عن وضع حد لهذا المسلسل الجهنمي، ولا يفاجئهم أن يخرج تنظيم «جبهة النصرة في لبنان» ويتبنى الجريمة. «هي السعودية»... ليس غريباً سماع هذه العبارة هناك، ومنهم من يقولها بسخرية: «أول حرف من اسمها هو السعودية». شاب يقول إن السيد حسن نصر الله سيتحدّث عند المساء. يصمت الجميع فجأة وتصوب العيون نحوه: «أنت أكيد؟ من قال لك؟». لقد سمع ذلك من البعض، وها هو ينقل رغبته. الكل هناك يتوق لسماع السيّد. تتفاعل هذه الأحاديث، في ساحة الانفجار، بينما يعمل خبراء المتفجرات ورجال المباحث الجنائية بثيابهم البيضاء. تصل «رافعة» تابعة لبلدية برج البراجنة، لقطع بعض الأسلاك الكهربائية لكي لا تقع على رؤوس الناس، فنكون أمام جريمة أخرى. خريطة متشعبة من «الكابلات» التي بعثرها الانفجار. مشهد يعكس بؤساً من نوع آخر، تعيشه الضاحية منذ عقود، منذ ما قبل «النصرة» وخريفها العربي.
قبل 18 يوماً، زرعت البلدية زهوراً في مكان التفجير الأول، تحديداً في وسط الشارع. كانت من نوع «زهرة الميلاد» حمراء اللون. تهشّم بعضها وذبل أمس. سيضعون غيرها من جديد. الناس هناك يُحبّون الحياة «عن جد». ذاك الشارع يضج بالحياة، مطاعم ومقاهٍ ومحال زهور ومعهد لـ«المعارف الحكمية». أولئك الناس، كما كان يُردد أحد المسعفين، لا يستحقون إلا كل خير. عانوا القصف الإسرائيلي والتدمير والفقر والحرمان، لعقود خلت، حتى أتقنوا صنعة العض على الجراح «من أجل الأمة». من ذاك الشارع، بالتحديد، خرج كثيرون من شهداء المقاومة الذين مرّغوا أنف إسرائيل بالتراب، وتركوا فيه وديعة من أهل وأقارب وأحبة، وهكذا حفظت «الأمة» وديعتهم وردّت الجميل بـ... انتحاري.