«يوماً ما، سأكون ست بيت شاطرة». قبل بضعة أشهرٍ من موتها المفجع، وضعت ماريا الجوهري، ابنة الـ18 عاماً، صورة مذيّلة بهذا التعليق. كانت تحلم، ربما، بأن تكون «ست بيت شاطرة». وكانت تحسب ذلك «يوماً ما»، لكنها، لم تكن تفكر ولو لوهلة في أن تصبح يوماً ما شهيدة. ماريا الجميلة، التي نبش أحشاءها وحش انفجار الشارع العريض أمس، كانت تحلم، قبل موتها، بأن تعيش كل هذه الأشياء الجميلة: أن تكون ست بيت شاطرة. أن ينبض قلبها بين يدي فارس أحلام، قد تكون رسمته في مخيلتها. أن تصبح عروساً. صور كثيرة رسمتها على صفحتها على «فايسبوك». كانت تحلم بكل شيء، إلا أن تكون تلك الجثة الهامدة التي رأيناها أمس ممددة على أرض الشارع المنبوشة، وقد علق جزء من أحلامها في سقف المقهى، الذي لجأت إليه للراحة.

هناك، في المقهى الذي كان قد افتتح للتو، فجّر الانتحاري رأس ماريا. بعثر أحلامها. رأينا ذلك كلنا، لكننا، لم نر وجه ماريا الجميل، ولا عرفنا فيم كانت تفكر في تلك اللحظات، ولا بما أحست به عندما وقع الانفجار ولا كيف لفظت أنفاسها الأخيرة. رأيناها في حمّالة الموت فقط، ملفوفة بسجادة صلاة. رأيناها شهيدة. وبعد كل هذا، سنعرف أنّ الوجه الذي احترق بانفجار أمس كان جميلاً. كانت عيناها خضراوين، وكانت بيضاء. وبعد ذلك، سنعرف أنها كانت في الـ 18 من العمر، وكانت تدرس في معهد الآفاق، وتعمل في الوقت نفسه في محل للأحذية في الشارع العريض، وكانت تحب أن تدندن أغاني نجوى كرم. وسنعرف أيضاً أنها كتبت قبل 19 يوماً، عندما وقع الانفجار الأخير في الشارع العريض» «هيدا تالت انفجار بزمط منو، ما بعرف اذا بروح بالرابع»، واستطردت بالقول «أنا حزينة». ثم، سنأسف لأننا سنعرف أنها كانت هذه المرة الأولى التي تجلس في المقهى الذي انفجر أيضاً. وسنحزن عندما نسمع تعليق والدتها المفجوعة بفقدان وحيدتها «كنت بدي زفك عروس، بس انت شهيدة يا ماريا».
«شو حلوة»، كان التعليق الأكثر تداولاً الذي ذيل صورها. تعليق سيدفعنا إلى تذكر وجه ملاك زهوي، أيقونة انفجار الشارع العريض السابق، التي راحت هكذا. من دون قصد. الذي كان جميلاً أيضاً. وكذلك علي خضرا، صاحب العينين الزرقاوين، والآن علي بشير، الذي سقط في المكان نفسه الذي راحت فيه ماريا. في المقهى الجديد الذي قصده باكراً جداً ليبارك لصديقه افتتاحه. هؤلاء، الذين سنعرف بعض قصصهم بعد موتهم. كأن نعرف مثلاً أن علي بشير، كان يعد نفسه «بمشوار في سيارة ابن خالته الجديدة بعد أن يبارك لصديقه بافتتاح المقهى». لم يعد نفسه يوماً بأن يتسلمه ذووه اليوم شهيداً من براد مستشفى الرسول الأعظم.
هؤلاء، الذين سيبقون ملائكة، ولن يكبروا أيضاً. هؤلاء، الذين سنسأل كلما رأينا وجوههم: لمَ يكون الشهداء على هذا القدر من الجمال؟ ليست مبالغة، بإمكانكم أن تروا تلك الوجوه التي رحلت، من محمد إلى علي. وبإمكانكم أن تسمعوا التعليقات أيضاً. فماريا كانت «متل القمر وكل شيء»، هذا ما تقوله الوالدة المفجوعة، وعلي كان أيضاً «متل القمر... دخيل وجك يا خالتي ويسلملي هالطول».
أمس، في انفجار الشارع العريض، لم نر الملامح الحلوة. اختبأت خلف الأقمشة والدم، لكن، في وقت لاحق، سنعرف الكثير عن علي بشير ابن بلدة بيت ليف، وماريا الجوهري ابنة الهرمل، وخضر سرور ابن عيتا الجبل، وأحمد عبيدي ابن الطريق الجديدة، الذي صار «شهيد الضاحية». هؤلاء، الذين سيستحيلون أيقونات، كما من سبقهم. في المرة الأولى، كان محمد الشعار وبعده ملاك زهوي، واليوم علي وماريا اللذان سقطا متقاربين في المقهى نفسه. هذان اللذان شغلا الكثيرين بالحديث عن قصة حب كانت تجمعهما، لمجرد أنهما ماتا متقاربين. لكن، بغض النظر عما ننسجه نحن، سيبقى علي وماريا في بالنا أيقونتين مرتبطتين أبداً بمقهى شارع العريض. كلما مررنا من هناك، سنتذكر الوجهين.