الصعود السريع في طريق العرش السعودي ينذر بانحدار سريع. وقبضة الحكم الشديدة تنذر بتصاعد الصراع داخل البيت السعودي. وتركيز السلطات في يد متهور يزيد احتمالات «انقلاب» جديد. هذا ما يُستنتج من تجربة محمد بن سلمان في ولاية العهد حتى الآن. مدة قصيرة نسبياً، لكنها تبدو الأصعب في تاريخ المملكة، لما يعتريها من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية متداخلة وغير مسبوقة، تفتح الباب أمام صراع سياسي بات مرجحاً بقوة عند المراقبين، سواء كان بين أمراء، أو جراء انفجار شعبي قد يهز أركان النظام العائلي.صراع الأجنحة هذه المرة ليس شأنه شأن الصراعات التي رافقت الكثير من مراحل المملكة، بل يفتقر اليوم إلى توازن القوى بين جناحين لا ثالث لهما: جناح سلمان وابنه، وجناح واسع من الأمراء والوزراء ورجال الأعمال والدعاة والإعلاميين، وأمراء قبائل وقيادات عسكرية في الحد الجنوبي، أبدت مشاعر التذمر من الحرب العبثية على اليمن. فرغم صرامة الإجراءات التي يتخذها ابن سلمان ضد معارضيه، فإنه يفشل في كتم أسرار القصر. آخر «الزلات» (كما اشتهت الوكالة الرسمية «واس» إظهارها) أفصح عنها شقيق سلمان، أحمد بن عبد العزيز، بمواقف غير مسبوقة أمام غاضبين في لندن، تُنبئ بالكثير من الغضب من سياسات «العهد السلماني» الداخلية أو الخارجية، كحرب اليمن أو التدخل العسكري في البحرين.
وفيما لاقى التصريح الأول من نوعه لأحمد، كونه يعدّ تخلياً عن حالة التردد وعدم المبادرة التي دأب عليها طوال السنوات الماضية، ترحيباً واضحاً لدى أمراء ومغردين سعوديين في «تويتر»، من خلال وسمَين: «الملك أحمد بن عبد العزيز» و«نبايع أحمد بن عبد العزيز ملكاً»، تبدو فرص الأمير، الذي أُقصي مرتين، بداية في عهد عبد الله، ثم خلال العهد الحالي، كبيرة،و خصوصاً أنه طالما كان ينتظر رافعة من داخل الأسرة وتأييداً من العلماء ووسطاً شعبياً وازناً يمكنه من الوصول إلى العرش. ويرى معارض سعودي، تحدث إلى «الأخبار»، أن بروز الأمير أحمد اليوم، في ظل «العهد السلماني» المحبط «يعد إنقاذياً لقطاع واسع من الأمراء المهمشين الذين باتوا يرون فيه حصاناً رابحاً في سباق العرش»، أولاً لأن التخلص منه ليس سهلاً على ابن سلمان، رغم أن أحمد لم يُعرف عنه أنه بايع الأخير أو تنازل عن حقه في ولاية العهد حتى الآن، وثانياً لصفات في شخصية الرجل، إذ روّج أمراء أشقاء له وأبناؤهم في الخارج، في وسائل إعلام بريطانية خلال السنوات الماضية، أن الأمير الذي عمل وزيراً للداخلية، ونائباً لوزير الداخلية لمدة 37 عاماً «يريد إدخال إصلاحات مثل حرية الفكر، وتطهير النظام القضائي، وإطلاق سراح السجناء السياسيين»، مؤكدين أنه «المفضل لدى رجال الدين بسبب أسلوب حياته المعتدل»، كونه «متديناً ومنفتحاً في آن» كما يوصف.
إلى جانب الأبناء من المرجح أن يحظى أحمد بدعم الأحفاد في أي «انقلاب»


يرى المعارض السعودي أن «كل السيناريوات واردة في حال موت سلمان، إذا نجح أحمد في اقتناص اللحظة التاريخية» لتولي الحكم بدعم من الأمراء الذين باتوا يفضلونه على غيره، وخصوصاً أن الأمير المقبول لدى السلطة الدينية وشريحة شعبية واسعة بات على رأس لائحة عريضة وطويلة من الأمراء المعارضين، أولهم أخوه مقرن بن عبد العزيز الذي أطيح في نيسان/ أبريل 2015، رغم أن تنصيب مقرن في عهد عبد الله (2013) كان تجاوزاً لوصية والدهم عبد العزيز، بأن يتم الحكم بين الإخوة حسب الترتيب العمري، إذ يصغر مقرن أحمد بثلاث سنوات، لكن إطاحة ابن سلمان له، وظروف مقتل ابنه منصور، في إسقاط مروحية كان يستقلها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، بأمر من ابن سلمان، كما كشفت التسريبات آنذاك، أثناء محاولته الهرب خشية وقوعه ضحية الاعتقال، تزامناً مع حملة شنّها ولي العهد ضد مجموعة من الأمراء، تدفع مقرن إلى تفضيل أحمد عن أي من «الجناح السلماني»، وخصوصاً أن الأخير لم يبدِ اعتراضاً حين تقديم مقرن عنه، رغم أنه يحظى بدعم أشقائه الـ 7 الباقين على قيد الحياة.
إلى جانب الأبناء، من المرجح أن يحظى أحمد بدعم الأحفاد في أي «انقلاب»، من محمد بن نايف، المفروضة عليه الإقامة الجبرية منذ إطاحته في حزيران/ يونيو 2017، وعبد العزيز بن فهد، الذي اختفى في أيلول/ سبتمبر الماضي إثر انتقاده ابن سلمان علناً في تغريدات في «تويتر»، وصولاً إلى الأمراء الذين اعتقلوا ضمن «حملة الريتز» في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، كوزير الحرس الوطني السابق، متعب بن عبد الله، وأخيه تركي، أمير الرياض السابق، والوليد بن طلال، و«أمير البيئة» تركي بن ناصر (الرئيس العام السابق لـ«الأرصاد وحماية البيئة»)، والنائب السابق لوزير الدفاع، فهد بن عبد الله بن محمد آل سعود، وغيرهم الكثير ممن سبقوهم أمثال سعود بن سيف النصر الذي اختفى في أيلول/ سبتمبر 2015 إثر تغريدات رفض فيها مبايعة سلمان، معلناً باسمه و«باسم كثيرين من العائلة» مبايعة أحمد بن عبد العزيز، بالإضافة إلى الأمير المعارض خالد بن فرحان آل سعود الذي يؤكد مراراً أن جميع الأسرة تريد أحمد ملكاً على السعودية.
ثمة ما يعكس حالة غضب غير مسبوقة هذا العام لدى الأمراء جراء هذه الاعتقالات، تماماً كما حدث مطلع كانون الثاني/ يناير الماضي، حين اصطدم أحد عشر أميراً بقوة ابن سلمان «السيف الأجرب» بعدما تجمهروا في القصر، قبل اقتيادهم مكبلين إلى سجن الحائر، حيث سُمع تبادل لإطلاق النار في محيطه، رفضاً لاستئثار ابن سلمان بالسلطة، كما أكد رئيس «اتحاد الرياضات البحرية»، الأمير عبد الله بن سعود الذي أقيل بعد كشفه عن السبب، أو ما عكسه الهجوم على مقر إقامة ابن سلمان في حي الخزامي في الرياض بطائرة «درونز»، بعد ذلك بثلاثة أشهر، من احتدام الصراع ووصوله إلى مراحل خطيرة قد تصل إلى محاولة انقلاب.



ثنائية القرار تهدد «صفقة العرش»


لُقّب محمد بن سلمان بـ«الملك غير المنصب» في ظل تحكمه بقرار والده، لكن ثمة «ثنائية» في قرارات القصر ظهرت في الآونة الأخيرة، تمثلت باستعادة سلمان دوره واتخاذه مواقف وقرارات مغايرة لما ذهب إليه ولي عهده «المتهور»، حتى إن صحيفة إسبانية نقلت عن مصادر أن الملك يبحث عن خليفة آخر يتبع السياسة التقليدية. ولعل أوضح محاولات سلمان تشذيب وتهذيب مواقف ابنه السياسية اعتراف الأخير صراحةً بـ«حق الإسرائيليين في العيش بسلام وإقامة دولتهم» على الأراضي الفلسطينية، في مقابلة مع صحافية قبل خمسة أشهر، ما اضطر سلمان في اليوم التالي إلى معالجة الموقف، لامتصاص موجة غضب داخلية وخارجية، باستعادة خطاب المملكة التقليدي خلال اتصال مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من قبيل تأكيد أن «موقف المملكة ثابت تجاه القضية الفلسطينية»، ومن ثم تسميته القمة العربية الـ 29 بـ«قمة القدس». وأخيراً وجد الملك نفسه مضطراً إلى التدخل في «إصلاحات» ابنه الاقتصادية بالتمهيد لإلغاء قرار وقف بيع «أرامكو»، الذي كان الأمل الوحيد لبقاء «رؤية 2030» على قيد الحياة، في ظل أزمات معيشية غير مسبوقة سببتها الخطة في أول عمرها.
ثنائية القرار في القصر تهدد «صفقة العرش» التي استطاع أن يبرمها ابن سلمان مع «ملك الصفقات» غير العادلة، أي ترامب، لتوليه العرش وإطاحة الأمراء المنافسين، مقابل «صفقات مليارية» واتفاقات إقليمية تبدأ بالتنسيق مع إسرائيل ولا تنتهي بتأجيج الصراع مع إيران، بالإضافة إلى وعود بتغييرات داخلية، سياسية واقتصادية واجتماعية، تمنح ساكن البيت الأبيض القرار السعودي بالمطلق أولاً، وتخفف أعباء العلاقة مع مملكة تفوح رائحة سجلها الحقوقي ثانياً. لكن ترامب لم يحقق ما كان يطمح إليه عبر ابن سلمان، فلا هو نجح في إقناع الفلسطينيين بالتخلي عن القدس، ولا وجد خلاصاً من حرب الاستنزاف في اليمن. حتى إن المكسب الثاني للرئيس الأميركي، القائم على «الإصلاحات الاجتماعية»، انقلب رأساً على عقب جراء اعتقال ابن سلمان الناشطين وافتعال أزمة مع كندا لمجرد مطالبتها بالإفراج عنهم، ما قد يدفع ترامب أو من قد يخلفه إلى إعادة توجيه الضوء الأخضر، لكن صوب الأمراء المعارضين هذه المرة، تمهيداً لذبح البقرة الحلوب.