يعشق وليد جنبلاط التاريخ، لذلك وجب تذكيره بتاريخ ١٤ أيلول ٢٠٠٣. يومها صبّت في صناديق اقتراع قرى الشحار الغربي ٦٤٠٠ ورقة بيضاء. كان الفشل في تنفيذ الوعود بإقفال مطمر الناعمة – عين درافيل، وعدم دفع تعويضات المهجرين، سببين رئيسيين في خروج أهالي المنطقة على قرار وليد جنبلاط للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الأهلية. يحل عام ٢٠١٤ على وقع الوعود نفسها، إغلاق المطمر ودفع تعويضات المهجرين، مع فارق وحيد يتمثل في تحول خيار الاعتراض الشعبي من الحالة العفوية الانفعالية الى التنظيم.
لا سبيل إلى تحليل السبب الذي دفع القوى الامنية عند السادسة من صباح أمس الى الانقضاض بوحشية على خمسة شبان يفترشون الارض أمام مدخل مطمر الناعمة – عين درافيل، من دون الإسقاط السياسي لمفاعيل الخروج عن قرار جنبلاط حين يعلن «ضرورة فضّ الاعتصام فوراً».

أوصل الوزير مروان شربل أمس رسالة بالغة الوضوح «سمحنا بإغلاق الطريق ستة أيام، وفتحناها في اليوم السابع بغطاء سياسي – طائفي».
لم تكتف القوى الأمنية بتكسير الخيام وفتح الطريق أمام شاحنات شركة سوكلين، بل لاحقت الناشطين الى المنازل، واعتقلت الناشط الدكتور أجود العياش الذي لعب دوراً مركزياً في إنجاح الاعتصام، صادحاً بأغنية تقول «يا مواطن طل وشوف سرقة ونصب على المكشوف، محمية بأرض الشوف مكبّ زبالة بالشحّار».
تختصر هذه الأغنية واقع حال أبناء القرى المحيطة بمطمر الناعمة – عين درافيل، والثمن الذي يدفعونه منذ ١٦ عاماً، يوم قبل وليد جنبلاط بصفقة نقل مكب برج حمود الى كسارة قديمة غير شرعية في أراضي تملكها الرهبنة المارونية في منطقة عين درافيل العقارية، قبل أن يحتل المطمر ٣٠٠ ألف متر مربع من أراضي المسيحيين والدروز في بعورته وعين ودرافيل.
ساعات من الكر والفر عاشها المعتصمون بعد اعتقال العياش وفتح الطريق، جمعوا قواهم عند الساعة الحادية عشرة وقرروا معاودة الاعتصام أمام الطريق المؤدية الى المطمر عند الاوتستراد الساحلي. كانت دموع الحاج محمد ابن بلدة حارة الناعمة، الذي فقد ابنه بعد صراع مع السرطان، كافية لإعلان جميع المعتصمين قرارهم بالمواجهة، افترشوا الارض الى جانب الحاج محمد ودعوا أبناء المنطقة الى الانضمام للاعتصام.
وتحدث باسم المعتصمين الناشط البيئي الدكتور ملحم خلف، فأكد «أن هذه السلطة التي فشلت في إدارة الناس وتأمين حقوقهم الاساسية لجهة الحفاظ على الصحة العامة وعلى مستقبل أطفالنا، والتي فشلت في تأليف حكومة على مدى عشرة أشهر، وفشلت في تثبيت الأمن في عدد من المناطق الخارجة عن السلطة، ها هي تظهر وتستفيق لقمع ناشطين مسالمين، وتسلط قوتها على مواطنين عزل يطالبون بتطبيق القانون، وتعتقلهم من دون أي سند قانوني».
وأكد خلف أن «البيانات التي صدرت أول من أمس حول إغلاق المطمر في أوائل عام ٢٠١٥ أتت منقوصة لعدم ذكر حصر استعمال المطمر بالعوادم، ولعدم التزام السلطة الضامنة لهذا التعهد من أصحاب القرار والصلاحية، فلا رئيس مجلس الوزراء ولا الوزير المختص أبديا أي اهتمام بهذا الموضوع، ولا أحد من المسؤولين ألزم مجلس الانماء والاعمار بحصر استعمال المطمر للعوادم دون سواها، وفقاً لمضمون العقد، علماً بأن الشاحنات التي تدخل حالياً الى المطمر تحمل نفايات على جميع أشكالها وبصورة عشوائية، من دون أي معالجة، ما يعني أن لا قيمة لما تعهدوا به».
وأمام مشهد المعتصمين المفترشين الارض، تحولت القوى الامنية الى شرطة سير لحماية شاحنات سوكلين، وكان واضحاً قرارها بالمواجهة. وتولى أكثر من عشرة ضباط إدارة قوى مكافحة الشغب التي طوّقت المعتصمين ونجحت في فتح ثغرة في الطريق لتمر منها أكثر من عشرين شاحنة. مواجهات طفيفة مع الأمن أفضت لاحقاً الى إعادة إغلاق الطريق، خصوصاً بعد أن انضم العشرات من شباب حارة الناعمة الى الاعتصام عقب صلاة الظهر. عبثاً حاولت اللجنة المكلفة بإدارة حملة إقفال مطمر الناعمة الاتصال بالمسؤولين لتوضيح الأسباب التي تدفعهم الى الإصرار على استكمال اعتصامهم والمطالبة بصدور تعهدات واضحة عن مجلس الإنماء والإعمار تبرهن أن ١٧ كانون الثاني ٢٠١٥ هو تاريخ نهائي وقاطع لإغلاق المطمر. الرئيس نجيب ميقاتي خارج لبنان، أما النائب جنبلاط فأعلن أنه ليس على استعداد للقاء المعتصمين قبل يوم الاثنين.
وبعد ثلاث ساعات على قطع الطريق، أطلق سراح العياش، لكن المشهد كان يوحي باقتراب مواجهة جديدة. استدعت القوى الأمنية ثلاث شاحنات مصفحة ومجهزة بخراطيم المياه. وترافق ذلك مع تسريب القوى الأمنية خبراً بين المعتصمين مفاده أن قرار حسم الارض قد اتخذ من جميع المرجعيات السياسية، وأن فتح الطريق سيتم مهما كان الثمن.
تداول النشطاء في ما بينهم، وأعلنوا عند الساعة الثالثة بعد الظهر قرارهم بإخلاء الطريق، معلنين استمرار الاعتصام حتى تحقيق جميع الأهداف بأشكال متنوعة وسلمية. وكررت حملة إقفال مطمر الناعمة مطلبها «بحصر استخدام المطمر لردم عوادم النفايات دون سواها وتشكيل لجنة مراقبة من الاختصاصيين البيئيين المستقلين وأهالي المنطقة»، مؤكدة «إقفال المطمر بشكل نهائي في 17 كانون الثاني 2015».
وأضاف بيان الحملة «إفساحاً في المجال لإنفاذ الوعود، نعتزم العودة إلى مدخل المطمر في مهلة 15 يوماً من تاريخ تشكيل الحكومة العتيدة ونيلها الثقة في حال عدم احترام الوعود». وشددت على أن «الاعتصام مستمر بطرق حضارية، ومستمرون بحراكنا لحين تحقيق الأهداف».

يمكنكم متابعة بسام القنطار عبر | http://about.me/bassam.kantar





موت المجتمع المدني

مرّة اخرى، يضيّع المجتمع المدني اللبناني (بمفهومه الواسع الذي يتجاوز الـNGOs) فرصة التعبير عن نفسه. ما حصل منذ بدء اعتصام حملة اقفال مطمر الناعمة - عين درافيل، وصولاً الى قمعه امس بهذه الطريقة البوليسية الرعناء، كان يمكن ان يشكّل حافزاً للخروج من حالة الضعف او العجز. الا ان ما حصل هو العكس تماماً، المزيد من الصمت والخضوع: لا احزاب تتصرف كأنها معنية، ولا نقابات عمالية ومهنية وروابط معلمين واساتذة واداريين تشعر بوجود علاقة لها... ولا نخب تواجه. تماماً، هذا ما يحصل في كل محطّة تخرج فيها المطالب عن منطق التبعية للزعامات والتقوقع في القطعان. للأسف، يكمن الجواب على هذه القدرة في وأد كل حراك اجتماعي في موت «المجتمع المدني» نفسه.