بعد 15 عاماً متواصلة من تراجع الأرباح، سجّلت سوق الموسيقى عالمياً ثلاث سنوات من النمو. وفق تقرير الموسيقى العالمية لعام 2018 الذي أصدره «الاتحاد الدولي لصناعة التسجيلات الصوتية» (IFPI)، شكّلت العائدات الرقمية للسنة الماضية 54 في المئة من المبيعات الموسيقية على صعيد العالم. هكذا، تكون هذه العائدات قد حصدت أكثر من نصف مجموع المبيعات للمرّة الأولى، فيما يرجع جزء كبير من هذه النسبة إلى الأموال المدفوعة من طريق منصات الـ «ستريمينغ» (الاستماع عبر تقنية التدفّق الإلكتروني) التي حققت 38.4 في المئة! وفي الوقت نفسه، تواصل أرباح الصيغ المادية (كالفينيل والـ CD) والتنزيلات الرقمية (digital downloads) تراجعها، مسجّلة 30 و10 في المئة بالتوالي من مجموع العائدات العالمية.
قائدة «ثورة» الـ «ستريمينغ» هذه، هي منصة «سبوتيفاي» السويدية التي عانت من مشاكل مع استديوات الإنتاج الكبرى الثلاثة: «سوني ميوزيك» و«يونيفرسال موزيك غروب» و«وورنر ميوزيك غروب»، بسبب توقيعها عقود شراكة مع جهات منتجة.
أما في العام العربي، فيُعدّ تطبيق «أنغامي»، حتى الآن رائداً في مجال بثّ الموسيقى عبر الإنترنت، إذ يمكّن المستخدمين من الاستماع إلى عدد غير متناهٍ من الأغاني (مجاناً مع إعلانات أو مع دفع 4.99 دولارت أميركية لتحميل عدد غير محدود من الأعمال والاستماع إليها في أي وقت من دون الحاجة إلى الإنترنت، ومن دون إعلانات). عقدت الشركة التي أسّسها اللبنانيان إدي مارون وإيلي حبيب شراكات مع عشرات شركات الاتصالات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومروحة واسعة جداً من الفنانين الذين باتوا يُطلقون أعمالهم المسموعة والمصوّرة حصرياً عبر منصّتها.
يمكن القول إنّ الشركة التي أبصرت النور عام 2012 تستحوذ حالياً على المشهد الرقمي في المنطقة، مع حضور خجول لتطبيقات عالمية كـ «آبل ميوزيك». لكن يبدو أنّ هذا الوضع سيشهد تغيّراً دراماتيكياً. في مؤتمر صحافي احتضنه أحد الفنادق البيروتية أوّل من أمس، أُعلنت رسمياً انطلاقة «ديزر» الفرنسية، وهي الخدمة العالميّة للاستماع إلى الموسيقى التي بدأت في عام 2007، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، متيحة فرصة الاستمتاع «بسهولة غير مسبوقة إلى الموسيقى العربية والعالمية المفضّلة» عبر تطبيق متوافر مجاناً (بالعربية أيضاً) في مختلف الأسواق الرقمية للأجهزة العاملة بنظامَي التشغيل iOS و«أندرويد». يمكن المستخدمين الإفادة من فترة تجريبية مجانية لـ «بريميوم» من Deezer عبر تسجيل الدخول. هذه الخدمة الشهرية مدفوعة وتشمل التنزيلات، والاستماع من دون إعلانات، ومن دون الحاجة للاتصال بالإنترنت.
وصول «ديزر» إلى الشرق الأوسط، سبقه توقيع اتفاقية توزيع رقمي حصري مع شركة «روتانا للصوتيات والمرئيات» في آب (أغسطس) الماضي، تتيح محتوى فناني الشركة (إليسا، وعمرو دياب، وتامر حسني، ووائل كفوري، وماجد المهندس...) عبرها، فضلاً عن محتوى دولي يضم 53 مليون أغنية لأسماء عالمية، ككالفين هاريس وشاكيرا وغيرهما. مع العلم بأنّ «روتانا» أبرمت كذلك اتفاقاً مع شركة «هواوي» الصينية التي ستُطلق منصة خاصة بها في الإمارات والسعودية والأردن ومصر والعراق.
غير أنّ «ديزر» لن تفلت من المنافسة، لأنّ «سبوتيفاي» (83 مليون مستخدم) ستحطّ هنا في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. المنصة التي تتخذ من استوكهولم مقرّاً لها، ستضع ثقلها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذا على الأقل ما يوحي به نص رسالة إلكترونية داخلية مسرّبة إلى وسائل الإعلام، نشر مضمونها موقع Music Business Worldwide. مجلة «فارايتي» الأميركية تواصلت مع متحدّث باسم «سبوتيفاي»، لم ينفِ وجود مخطّط مماثل، مشدداً على أنّ «هدفنا الوجود في كلّ أنحاء العالم، لكن ليس لدي ما أقوله عن الموضوع الآن». ووفقاً للإيميل، سيكون للشركة مقرّ إقليمي جديد في دبي، فيما تسعى حالياً لإيجاد معلنين. إذ أفادت تقارير إعلامية بأنّ بريداً إلكترونياً أُرسل إلى موظفين في إحدى وكالات الإعلان الإماراتية، يذكر أنّ Spotify تهدف إلى «العثور على ست علامات تجارية في المنطقة بكلفة تصل إلى 200 ألف دولار».
تتحدّث تقارير إعلامية عن وصول «سبوتيفاي» إلى المنطقة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل


هذه الأخبار تبدو منطقية، ولا سيّما أنّ مجلة «فوربس» الأميركية تحدّثت عن بحث «سبوتيفاي» من طرق جديدة تساعدها في تحقيق أرباح إضافية في مقابل مقاومتها لتقدّم المنافسين على شاكلة «يوتيوب ميوزيك» و«غوغل بلاي ميوزيك» و«آبل ميوزيك». أما السبب، فيعود إلى فتح «سبوتيفاي» باب الاكتتاب في شباط (فبراير) 2018، ما عرّضها لاحقاً لضغوط كبيرة من قبل المستثتمرين. توسيع «ديزر» و«سبوتيفاي» وغيرهما لينطلق عملهما ليشمل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، دليل إضافي على نظرة هذه المؤسسات إلى المنطقة كسوق نامية. فعلى الرغم من الحروب والنزاعات والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، تستند الشركات المذكورة إلى ما يقوله «صندوق النقد الدولي» عن «اقتصادات آخذة في النمو والاستقرار»، ما يفتح شهيّتها على الاستثمار هنا، ولا سيّما أنّ «أعداد السكان تتزايد بسرعة كبيرة»، وفق موقعDigital Music News.
في الوقت الذي يرى فيه كثيرون الـ «ستريمينغ» وسيلة لمواكبة متطلّبات العصر وتوسعة الانتشار و«التحرّر» من ضغوط بعض شركات الإنتاج، ينظر آخرون إلى منصات الموسيقى الإلكترونية بعين الربية، متخوّفين من أن تتحوّل مع الوقت لتأدية دور استديوات الإنتاج المحتكرة. في غضون ذلك، عبّر فنانون كثر عن معارضتهم للتعاقد مع شركات «ستريمينغ» في البداية (كتايلور سويفت) لأسباب تتركّز إجمالاً بحجم الأرباح. ويبقى الوقت وحده كفيلاً لتحديد ما إذا كان النمو والتبدّل اللذان شهدتهما صناعة الموسيقى في الآونة الأخيرة بفضل الـ «ستريمينغ»، قصير الأمد، أو بداية لواقع مختلف بالفعل!