يعتمد سكان 80 في المئة من المباني في بيروت الكبرى، في حياتهم اليومية، على مياه الآبار الارتوازية الخاصة. ولأن الطبقات الأرضية في هذه المنطقة مانعة لتخزين المياه الجوفية، فإن مصدر مياه معظم هذه الآبار هو البحر الذي تصب فيه مياه الصرف الصحي وعصارات النفايات والمصانع. البكتيريا البرازية التي اكتشفت مؤخراً في إحدى الآبار في الضاحية الجنوبية لبيروت ليس مستبعداً أن تكون موجودة أيضاً في عدد كبير من هذه الآبار، طالما أن المصدر واحد.قبل أقل من أسبوعين، أظهرت فحوصات أجرتها مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان أن مصدر تلوث مياه أحد المباني في منطقة حارة حريك (الضاحية الجنوبية) بالبكتيريا البرازية هو البئران التابعتان للمبنى. النتيجة تبدو، للوهلة الأولى، مطمئنة، مع نفي المؤسسة أن تكون المياه التي توزّعها ملوثة. لكن الاطمئنان سرعان ما يتلاشى مع تأكيد المدير العام لـ«مياه بيروت وجبل لبنان» جان جبران لـ«الأخبار» أن 80 في المئة من المباني في بيروت الكبرى تملك آباراً خاصة. وبالتالي، ليس مستبعداً أن تتضمّن مياهها البكتيريا نفسها طالما أن مصدر مياه الآبار واحد. فيما لا تملك وزارة الطاقة والمياه إحصاء دقيقاً بعدد الآبار لأن تراخيص الحفر لا تتم عبرها حصراً.
غالباً ما يشكّل وجود بئر ارتوازية خاصة في مبنى ما ميزة تشجع الزبائن على الاستملاك أو الاستئجار فيه. لكن هذه، بحسب الخبير الهيدروجيولوجي سمير زعاطيطي، هي في الواقع «وبال حقيقي». زعاطيطي أوضح لـ«الأخبار» أن مثلث الدامور ــــ رأس بيروت ــــ المرفأ الذي تقدّر مساحته بنحو 60 كيلومتراً مربعاً يحوي القليل من المياه الجوفية التي استنزفت عملياً لأن الطبقات الصخرية في هذه المنطقة مانعة للتخزين، وبالتالي فإن المياه التي تضخها الآبار ضمن هذا المثلث «مياه مالحة وكبريتية وملوّثة لأن مصدرها البحر الذي تصب فيه أقنية المجاري وعصارات النفايات والنفايات السائلة للمصانع».
يؤكّد مستشار وزير الطاقة والمياه خالد نخلة لـ«الأخبار» أنه ليست هناك إحصاءات لعدد الآبار في بيروت. إذ إن عدداً كبيراً منها غير شرعي، والكثير منها «مخفي» لا يمكن الوصول إليه، كما أن هناك آباراً حُفرت للاستعمال كجور صحية! ويلفت إلى أن حفر الآبار «بدأ أيام الحرب الأهلية ولا يزال مستمراً. ورغم كل الإجراءات والآليات الصارمة التي وضعتها الوزارة على استصدار تراخيص لحفر الآبار لما لذلك من تداعيات سلبية، هناك جهات رسمية لا تزال تمنح تراخيص الحفر بطريقة غير شرعية». ومن هذه الجهات المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي التي ابتدعت ما يُسمّى «رخصة لواء»، وهي عبارة عن إذن يصدر عن المدير العام يسمح بحفر بئر من دون دراسة ومن دون أي مسوّغ قانوني.
يوضح نخلة أن الوزارة اعتمدت مطلع 2010، مع تسلّم الوزير جبران باسيل وزارة الطاقة والمياه آنذاك، آلية صارمة لضبط حفر الآبار «وبالفعل تمكنّا من الحدّ من الرخص». وتقوم الآلية على تقسيم الآبار إلى ثلاثة أقسام بحسب وجهة الاستخدام: شخصي وزراعي وصناعي. وحصرت الوزارة تقديم الطلبات عبر «ليبان بوست» تفادياً «للواسطات»، على أن تنظر شركة خاصة متعاقدة مع الوزارة في المستندات وتجري الكشوفات اللازمة ثم ترفع تقريراً إلى الوزارة بعد أن تعلق مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان عليه، لينتهي القرار بالوزير نفسه. يقرّ نخلة بأن هذه الآلية الصعبة دفعت بالبعض إلى اعتماد طرق غير قانونية «فالناس في النهاية لا يصلهم الماء ويضطرون للجوء إلى هذه الأساليب للحصول عليه». عملياً، بات الأمر أشبه بحلقة مفرغة: الآبار الخاصة تستنزف الآبار العامة التي توزع المياه على الناس فيخفّ إنتاجها، وعدم وصول المياه إلى المواطنين يدفعهم إلى حفر الآبار... وهكذا.
لا تملك الوزارة، بحسب مستشارها، أن تفعل شيئاًَ حيال رخص الآبار غير الشرعية: «لسنا ضابطة عدلية ولا نتحرك إلا إذا تقدم متضرر سواء كان فرداً أو بلدية بشكوى»، لافتاً إلى أن الشكوى «يجب أن تقدم إلى الوزارة مباشرة لا إلى الدرك الذي لن يتحرك بطبيعة الحال». وأشار إلى أن وزير الطاقة والمياه سيزار أبي خليل نبه إلى هذه المشكلة في لجنة الأشغال والطاقة والمياه النيابية التي أوصت قبل أسابيع الجهات التي تمنح رخصاً غير قانونية بالتوقف عن هذه الممارسات... من دون أن تتوقف بعد.
غير أن لعدم وصول المياه إلى المواطنين أسباباً أخرى، بحسب زعاطيطي. فقد أظهرت دراسة لـ«المؤسسة الفيدرالية الألمانية لعلوم الجيولوجيا والمصادر الطبيعية» BGR، بتكليف من مجلس الإنماء والإعمار ووزارة الطاقة والمياه، أن «نحو 40% من المياه التي تضخّها مؤسسة المياه تذهب هدراً جراء الشبكة المتهالكة والتعديات عليها بتواطؤ من موظفين في المؤسسة نفسها». يلفت نخلة إلى أنه وفق خطة تنفّذها الوزارة منذ سبع سنوات، «تم تجديد بين 50 و60% من شبكات المياه في بيروت الكبرى، والورشة مستمرة وستظهر نتائجها خلال سنتين بعد استكمال مشروعي الأولي وسد بسري اللذين سيجران إلى المنطقة الساحلية من الدامور حتى نهر بيروت، وصعوداً إلى نحو 300 متر عن سطح البحر، نحو 500 ألف متر مكعب من المياه يومياً، ما يكفي كل هذه المنطقة حاجتها من المياه حتى سنة 2040. ومن المفترض أن تتزامن هذه المشاريع مع توقف الاعتماد على الآبار».
لا تملك وزارة الطاقة احصاء دقيقاً بعدد الآبار لأن التراخيص لا تصدر عنها حصراً


مصدر في قوى الأمن الداخلي قال لـ«الأخبار» إن المؤسسة باتت أشبه بـ «قوى أمر واقع» في ظل غياب مؤسسات الدولة والإجراءات الروتينية المعقدة والقوانين المترهلة التي تضر بمصالح الناس. وأوضح أن المؤسسة تمنح هذه الرخص «استجابة لحاجات إنسانية». لكن هذه «الخدمة الإنسانية» باتت، بحسب أحد متعهدي حفر الآبار في الضاحية الجنوبية، «تجارة مربحة» إذ إن عناصر الدرك يتقاضون على ترخيص البئر المكشوفة (في الشوارع الرئيسية) نحو 10 آلاف دولار، وعلى الآبار التي تحفر في الزواريب الخلفية نحو 5 آلاف دولار! وفي أحيان كثيرة يُحفر، برخصة واحدة، أكثر من بئر في المنطقة نفسها بالتوافق بين عناصر الدرك ومتعهّد الحفر، وفق تسعيرة معروفة.



الآبار رشى انتخابية


في أيار الماضي، عشية الانتخابات النيابية، نشرت «الأخبار» جدولاً بتعميم للمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان صادر في 12 نيسان 2018، يسمح بموجبه بأكثر من 200 مخالفة بناء وبحفر 124 بئراً، 99 منها ضمن نطاق سرية بعلبك وحدها. ولأن هذه التعاميم تصدر بمعدّل مرة في الأسبوع، وفي كل المناطق، من المنطقي الافتراض أن مئات التصاريح المماثلة أعطيت في المنطقة نفسها وفي مناطق لبنانية أخرى، بوساطات من سياسيين ومرشحين، لرشوة الناخبين.