خرجت الولايات المتحدة من دائرة الحرج في التعامل مع قضية جمال خاشقجي، مُعلنةً بصريح العبارة أن ولي العهد بريء من دم الصحافي المقتول. المفارقة أن «صكّ البراءة» الذي صَرَفته واشنطن، استندت فيه إلى ما اعتبرته أنقرة دليلاً على تورّط محمد بن سلمان. مفارقة تحيل على التساؤل عمّا إذا كانت «أوراق الابتزاز» التركية قد فقدت فاعليتها، على رغم أن أنقرة لا تزال تراهن على إبقاء القضية حيّة حتى مطلع العام المقبل، أملاً في ارتفاع صوت الكونغرس بوجه دونالد ترامب.بعد نحو أربعين يوماً من اغتيال الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، بات واضحاً معظم ما تمتلكه تركيا من أوراق في هذه القضية، التي أصبح اللعب على حبالها على المكشوف. تسجيلات القنصلية السعودية، التي تقول أنقرة إنها أسمعتها لمسؤولين من دول غربية عدة، تظهر بصمات ولي العهد محمد بن سلمان على واقعة الاغتيال. لكن واشنطن، التي تخلّت عن تحفّظها في التعامل مع القضية، ترفض الانطباع الأولي المنطقي الذي توحي به التسجيلات، وتصرّ على «مطمطة» العبارات وحملها على غير معناها، بما يبرّئ ساحة ابن سلمان. وهي تبرئة كانت فرنسا، التي تستحوذ على 60% من مبيعات الأسلحة الأوروبية للرياض، قد سبقتها إليها، بإنكارها أن يكون الأتراك قد شاركوها معلومات عن مقتل خاشقجي. إزاء ذلك، يتأكد أكثر فأكثر أن الولايات المتحدة وحلفاءها يريدون إبعاد ابن سلمان من دائرة التأثيرات المباشرة للجريمة، حرصاً على مصالح كان قد جرى التأسيس لها مع الرجل منذ اعتلائه سدّة ولاية العهد.
وفي ما بدا رداً على محاولة باريس التقليل من شأن التسجيلات التركية، سارعت أنقرة إلى تسريب معطيات كانت لا تزال مكتومة لصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية. وفقاً لما نشرته الصحيفة أمس، فإن العقيد السابق في الاستخبارات السعودية، ماهر المطرب، الذي يُعدّ قائد فريق الاغتيال المؤلّف من 15 سعودياً، أجرى، عقب مقتل خاشقجي، مكالمة هاتفية بأحد مساعدي ولي العهد، قال فيها: «أبلغ سيدك أن المهمة انتهت». عبارة تؤشر، بمضمونها وهوية الشخص الذي جرت مخاطبته بها، على أن أمر القتل صدر من مستويات أعلى من تلك التي روّجت لها الرواية السعودية، وأن الآمر كان ينتظر تنفيذ توجيهاته. وهو ما تعتقده، أيضاً، الاستخبارات الأميركية، التي ذكر مسؤولون فيها للصحيفة أن المقصود بكلمة «سيدك» هو ابن سلمان، إلا أنهم استدركوا بأن ذلك «قد لا يكون دليلاً لا يمكن إنكاره» على صلة ولي العهد بالجريمة، ما يعني أن ثمة توجّهاً أميركياً لتمييع فحوى التسجيلات و«تضييع الطاسة» بما يخدم ابن سلمان.
اتهم مسؤولون أميركيون تركيا بـ«الانتقائية» في الكشف عن أدلة الجريمة


توجّه لم يتأخر مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، في التعبير عنه، بنفيه أن تكون التسجيلات متضمّنة ما يشير إلى تورّط ولي العهد في الجريمة. إذ قال، رداً على سؤال في هذا الشأن على هامش قمة إقليمية في سنغافورة: «(إنني) لم أستمع بنفسي إلى الشريط، لكن تقييم الأشخاص الذين استمعوا إليه يشير إلى صحة ذلك»، قاصداً عدم وجود صلة بين ابن سلمان والحادثة. وذكّر بولتون بأن رئيسه، دونالد ترامب، طالب السعوديين بإجراء تحقيق كامل ومحاسبة المسؤولين عن العملية، مضيفاً: «إننا نتوقع أن نحصل على الحقيقة من السعوديين، والملك وولي العهد التزما ذلك خلال المحادثات التي أجرياها مع الرئيس». وتصريح بولتون هو الأوضح في محاولة إبعاد الشبهات عن شخص ولي العهد منذ حديث ترامب عن «قتلة مارقين» في الـ15 من الشهر الماضي، وهو يثبّت منهجاً أميركياً في التعامل مع القضية، قائماً على حصر تداعياتها المباشرة (المحاسبة والمعاقبة الجنائيتان) في أضيق نطاق ممكن، والتفرّغ لعملية تقييم وتقويم للسياسات السعودية، بما يخدم مصالح واشنطن أولاً.
في سبيل ذلك، يبدو أن إدارة ترامب تريد الانعتاق من الضغوط التركية، التي تدفع في اتجاه ضرب ابن سلمان وإزاحته من المشهد. ولعلّ ما صرّح به مسؤولون في الاستخبارات الأميركية لـ«نيويورك تايمز»، للمرة الأولى منذ وقوع الحادثة، يُعدّ دليلاً على ما تقدم، إذ أعرب هؤلاء المسؤولون عن اعتقادهم بأن السلطات التركية تملك أكثر من تسجيل، لكنها أطلعت الدول المعنية على ما لديها بشكل انتقائي، في اتهام ضمني لأنقرة بأنها تستغلّ التسجيلات في تكتيكاتها السياسية. وهو اتهام يتسق، واقعاً، مع حديث وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، أول من أمس، عن أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، «يمارس لعبة سياسية». ولربما تُقرأ في تلك الاتهامات رسالة ضمنية إلى تركيا بأن الوقت قد حان للكفّ عن «اللعب»، وبأن الحلفاء الغربيين مستعدون ـــ في اللحظة المناسبة ـــ للقفز على ما تعتقده أنقرة مادة «ابتزاز» دائمة. لكن الرسالة هذه لا يظهر أنها تلقى تجاوباً لدى أردوغان، الذي جدّد أمس قوله إن «أمر القتل صدر من أعلى المستويات في السلطات السعودية»، مبرّئاً في الوقت نفسه الملك سلمان من أيّ صلة بالحادثة. اللافت أن الرئيس التركي، الذي سعى لدفع تهمة «الاستغلال» عن نفسه بقوله إن «مخابراتنا لم تخفِ أي شيء»، أقحم ـــ للمرة الأولى ـــ ابن سلمان في حديثه، لافتاً إلى أن «ولي العهد يقول: سأوضح الأمر وسأفعل ما هو ضروري، ونحن ننتظر بفارغ الصبر»، ملحقاً بذلك التشديد على ضرورة «الكشف عمّن أصدر الأمر بالقتل»، في موقف يستهدف إحراج ولي العهد ومضاعفة الشبهات حول مسؤوليته عن الاغتيال؛ على اعتبار أن الجناة لن يعترفوا بهوية الآمر ما دام الأخير هو نفسه «الحَكَم»، وبالتالي يُعتبر صمتهم ـــ من وجهة النظر التركية ـــ عنصر إدانة لابن سلمان. وهذا ما يوافق عليه، واقعاً، نواب ديموقراطيون في الكونغرس الأميركي يعتبرون أنه «لن يُسمح لأيّ من أعضاء فريق قتل خاشقجي بأن يتحدثوا بحرية عمّن أعطاهم أوامر تنفيذ عملية القتل، وليس من المنطقي توقّع ذلك».
اللافت، أيضاً، أن أردوغان تطرّق إلى موقف الهيئة التشريعية الأميركية من القضية، مشيراً إلى أن «الكونغرس طلب معلومات من الاستخبارات حول الجريمة»، متوقعاً أن «تتغيّر وجهة النظر الأميركية عندما يطّلع الكونغرس على تلك المعلومات». توقّع ينبئ بأن السلطات التركية تريد إبقاء القضية حيّة حتى مطلع العام المقبل على الأقلّ، بما يسمح بتصعيد الصغوط على إدارة ترامب بهدف دفعها إلى موقف أكثر صرامة تجاه ابن سلمان. يلائم تطلّعاتِ أنقرة توعّدُ المشرّعين الديمقراطيين بخطوات ضد الإدارة، مِن مِثل ما لوّح به آدم شيف، الذي تعهّد بأنه ـــ بمجرّد أن يصبح رئيساً للجنة الاستخبارات في مجلس النواب بعد حوالى شهر ونصف شهر ـــ سيتولى التحقيق في حادثة اغتيال خاشقجي، وسيطلق مراجعة لكل السياسات السعودية في المنطقة، فيما اعتبر توم مالوينسكي أنه إذا صحّ تقرير «نيويورك تايمز» فهو يُعدّ سبباً منطقياً لمعاقبة ابن سلمان. ومع ذلك، لا يبدو أن ثمة آمالاً كبيرة من هذا النوع، على اعتبار أن «عائلة ترامب والرئيس كرّسا اعتماداً كبيراً على ولي العهد، لدرجة أن العلاقة الآن، في نظرهم، أكبر من أن تفشل» على حدّ تعبير شيف.