توّجت السعودية والولايات المتحدة شهراً ونصف شهر من الصمت والتخبط في جريمة اغتيال جمال خاشقجي، أمس، بروايتين متشابهتين وناقصتين، سعودية وأميركية، قفزتا عن جميع الأسئلة الجوهرية، التي يتجاهلها حلفاء الرياض، ويطرحها المسؤولون الأتراك ووسائل الإعلام، من دون سميع ولا مجيب، منذ وقوع الجريمة داخل القنصلية السعودية في اسطنبول. لفلفة فاضحة ومنسقة، بين الرياض وحلفائها، خلصت إلى تبرئة ولي العهد محمد بن سلمان من دم خاشقجي، من خلال إعلان النيابة العامة نتائج تحقيقاتها، بتقديم فرقة الاغتيال ورئيسها «كبش فداء» عن ابن سلمان، ثم تلقّف الدول الحليفة، كفرنسا وبريطانيا وأميركا، تحقيقات الرياض، واعتبارها «خطوة في الاتجاه الصحيح»، بعد يومين على إعلان المتحدثة باسم ​الخارجية الأميركية،​ ​هيذر نويرت​، أن بلادها تتوقع «تحقيقاً سريعاً ودقيقاً يحاسب فيه المتورطون» عن مقتل خاشقجي​، كدعوة لطيّ الملف في أسرع وقت.المتهمون، وفق النيابة العامة السعودية، 11 شخصاً، من بين 21 موقوفاً على ذمّة القضية، على أن من بينهم من أمر بقتل خاشقجي عن غير سبق إصرار وترصد، وآخرون نفذوا الجريمة التي وقعت في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. عمدت النيابة العامة إلى تبرئة «رؤوس كبيرة» قد تطال إدانتها ولي العهد، نظراً إلى المواقع الحساسة والقريبة منه التي كانوا يشغلونها، كنائب رئيس المخابرات المُقال، أحمد العسيري، الذي أمر، وفق الرواية السعودية، بإعادة خاشقجي الى السعودية «بالرضا أو بالقوة»، من دون قتله، بحسب ما قال وكيل النيابة العامة شلعان الشلعان، في مؤتمر صحافي في الرياض، أمس. والمستشار السابق سعود القحطاني، الذي «التقى قائد المهمة (ماهر المطرب)، وفريق التفاوض، ليطلعهم على بعض المعلومات المفيدة للمهمة (لإعادة خاشقجي إلى المملكة)، بحكم تخصّصه الإعلامي (...) وحثّ الفريق على إقناعه بالرجوع»، فيما لم يذكر البيان، الذي نشرته وكالة الأنباء الرسمية، القنصل العام في إسطنبول محمد العتيبي، على الرغم من وجوده داخل القنصيلة أثناء الجريمة، التي تمت وفق تسريبات تركية أمام عينيه وفي مكتبه، وتكتّمه على الحقيقة طيلة مدة وجوده في تركيا، بل إن النيابة العامة حصرت تهمة الأمر بالقتل برئيس فريق التفاوض، العقيد في الاستخبارات السعودية، ماهر المطرب، على أن أمر القتل جاء في موقع الجريمة، من دون نية مسبقة، بل إثر «عراك وشجار»، قُيّد وحُقن خاشقجي على إثره «بإبرة مخدرة، بجرعة كبيرة، أدت إلى وفاته».
اعترفت الرياض للمرة الأولى بتقطيع جثة خاشقجي داخل القنصلية


وفي اعتراف بتقطيع جثة خاشقجي داخل القنصلية، للمرة الأولى، أعلنت النيابة العامة أنه «تمت تجزئة» الجثة، وفق تعبيرها، «من قبل المباشرين للقتل. لكنها لم تجب عن السؤال الملح: أين جثة جمال الذي يقام العزاء عنه من الجمعة إلى الأحد في منزله في مدينة جدة، من دون دفنه، بل رمت الكرة في ملعب السلطات التركية، بالإعلان عن أن الجثة «تم نقلها إلى خارج مبنى القنصلية»، وتسليمها إلى «متعاون» تركي، لم تحدّد هويته، في تناقض مع ما كان النائب العام السعودي، سعود المعجب، قد قاله للمدعي العام التركي في إسطنبول، خلال زيارة لتركيا في 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين نفى له وجود متعاون محلي في تركيا تسلّم الجثة.
وفيما حصرت النيابة العامة السعودية المسؤولية برئيس الفريق التفاوضي، برواية خلصت إلى أن الجريمة لم تتم عن سبق الإصرار والترصد، شككت أنقرة في صحة الادعاءات السعودية، على لسان وزير الخارجية مولود تشاوش أوغلو، أمس، مؤكداً أن «تقطيع الجثة لم يكن عفوياً. جلبوا معهم مسبقاً الأشخاص والأدوات الضرورية من أجل ذلك. بكلام آخر، خطّطوا مسبقاً لكيفية قتله وتقطيعه»، مطالباً بـ«الكشف عن المدبرين الحقيقيين» للعملية، في ظل تأكيد الرئيس رجب طيب إردوغان، قبل أيام، أن أمر القتل صدر من «أعلى المستويات»، وسط مؤشرات وتسريبات كثيرة تؤدي إلى ضلوع ابن سلمان في الجريمة، آخرها ما كشفت عنه صحيفة «نيويورك تايمز»، أن أحد أعضاء الفريق السعودي الذي نفذ العملية، قال لشخص أعلى رتبة منه عبر الهاتف: «أبلغ سيّدك» أن العملية تمت. فضلاً عن أن المطرب، المقرّب من الدائرة الداخلية لولي العهد، ورافقه في زيارات خارجية عديدة، أجرى، وفق تسريبات تركية لوسائل الإعلام، 19 اتصالاً مع السعودية يوم قتل خاشقجي.
وسط الشكوك في الرواية السعودية، ترفض الرياض طلب تركيا إجراء تحقيق دولي، إذ اعتبر وزير الخارجية عادل الجبير أن المتهمين والمجني عليه في القضية سعوديون، والحادثة وقعت في أرض سعودية، مشيداً بالجهاز القضائي السعودي.
وفيما طالبت النيابة العامة السعودية، أمس، بقتل المطرب ومن «أمر وباشر جريمة القتل (...) وعددهم خمسة أشخاص، وإيقاع العقوبات الشرعية المستحقة على البقية (11 متهماً)»، لكن ثمة تناقض برز بين رواية الرياض والرواية الأميركية، التي تؤكد أن سعود القحطاني هو مخطط وقائد عملية قتل جمال، وفق بيان الخزانة الأميركية أمس، إذ لم يُعفَ، من بين الذين برّأتهم الرياض، غير أحمد عسيري من العقوبات الأميركية، التي فُرضت على 17 شخصاً، بموجب قانون «ماغنيتسكي»، الذي يفرض عقوبات بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان، من بينهم القنصل محمد العتيبي، وماهر المطرب.