• القتل والإفراغ السكاني عملية إنتاجية عالية الربحية• واشنطن قد تلجأ إلى الحرب النووية لوقف الصين
• تدمير الاشتراكية العربية لفرض عبودية جديدة


ارتبطت نشأة الرأسمالية وازدهارها بسياسات الحرب والسيطرة على موارد وثروات شعوب ما سمي في زمن سابق «المستعمرات وأشباه المستعمرات»، أي بلدان جنوب العالم. لكن ثورات التحرر الوطني وما تبعها من نجاح دول في الجنوب في إطلاق ديناميات تنمية اقتصادية وعلمية وتكنولوجية والتحول إلى قوى صاعدة على المستوى الدولي، منافسة للإمبرياليات الغربية في أكثر من ميدان، من جهة، والخطاب الأيديولوجي الليبرالي، الذي ساد أدبيات المؤسسات الدولية والأكاديميا ووسائل الاعلام الغربية، والذي «حرم» استخدام مفاهيم مثل الامبريالية والنهب البدائي في تفسير مآل القسم الأعظم من بلدان الجنوب واستبدلها بمفردات كالفساد والحوكمة الرشيدة، أسهما في حجب العلاقة العضوية بين الرأسمالية العالمية والحرب. «القتل يعطي أعلى مستويات القيمة المضافة» حسب علي القادري، المفكر العربي وأحد كبار أساتذة الجامعة الوطنية في سنغافورة ومعهد لندن للاقتصاد، الذي تمحورت مساهماته الفكرية المهمة حول العلاقة بين الحرب والتراكم الرأسمالي والهدر. من أبرز مؤلفاته «تفكيك الاشتراكية العربية» و«الحزام الواقي: قانون واحد يحكم التنمية في شرق آسيا والعالم العربي» و«التنمية الممنوعة»، وسيصدر له بداية العام المقبل كتاب عن مغزى التدخل الإمبريالي في سوريا

عن العلاقة العضوية بين الرأسمالية والحرب ودورها في إخراجها من أزماتها وتحوّل الحرب إلى عملية إنتاج وتراكم، يقول علي القادري إن «الحرب بالنسبة إلى الرأسمالية كانت دائماً عملية إنتاجية. هي تفترض توظيف العسكر ودفع أجورهم لقتل بشر آخرين، أي إن بشراً مأجورين يقتلون بشراً. موت هؤلاء البشر هو مدخول في عملية الانتاج. عملية الهدر، وقتل البشر أعلى مستويات الهدر، هي عملية إنتاجية. آليات عمل النظام الرأسمالي تتسبب في قدر كبير من الهدر، أعلاها القتل، وهو يعطي أعلى مستويات القيمة المضافة. عملية إنتاج أي سلعة مهما كانت قيمتها المضافة، تتضمن هدراً على المستوى البيئي غير محسوب الكلفة، ولكنه من ضمن تكوين قيمة السلعة. الدورة الاقتصادية للهدر ليست متسلسلة زمنياً، بل هي دورة زمنية تجريدية أو اجتماعية، وهي الزمن الحقيقي لعملية الانتاج. بعد عدة قرون من الهدر نتنبه اليوم إلى أننا ندفع ثمنه. عندما انخفض مستوى الأوكسيجين، أحسّ الغربيون بأنهم في صدد دفع أثمان الخراب الذي تسببوا فيه. تدخل طبعاً ضمن هذه الأثمان الأعداد المهولة من البشر الذين قاموا بقتلهم. عملية الانتاج غير محصورة في المعامل، بل لها شروط اجتماعية وبيئية وإنسانية خارجها، والبشر الذين تم قتلهم يدخلون في تكوين قيمة أي سلعة يتم إنتاجها. أما ثمن الهدر، فهو يدفع دائماً في فترات لاحقة. السوق كعلاقة اجتماعية هي التي تصنع قانون القيمة المنتج بدوره للظروف الاجتماعية الاستبدادية، أي عمليات القتل أو القسر والاستعباد، والمنظم لعملية توزيع الموارد وأهمها هو الانسان. عملية التراكم وانتاج القيمة عند ماركس هي صيرورة لذلك، أي عملية هدر هي عملية انتاجية لأنها تدخل السوق ويدفع ثمنها بشكل أو بآخر، وهو بخس جداً، ولكن قيمتها عالية جداً وهو ما عرفناه بسبب الأزمة البيئية. الغربيون، بمن فيهم غالبية الماركسيين بينهم، يتحدثون عن البيئة بمعزل عن الإنسان، على الرغم من أنه جزء لا يتجزأ منها، وهو بداية الدورة الرأسمالية ونهايتها، لأن فائض القيمة يوزع على الانسان بالنتيجة، ولأن الشكل السعري، أي الأرباح والقيمة النقدية، هو رمز للقيمة الموجودة فيه».
التوتر في العلاقات الدولية أحيا الحديث عن احتمالات الحرب النووية، حتى إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قال في مقابلة أخيرة إن روسيا قادرة على الرد المناسب على أي عدوان نووي عليها ولو تعرض الروس للإفناء و«صعدوا إلى الجنة»، بحسب تعبيره. الحرب، برأي القادري، عملية تاريخية «وهي مستمرة في بقاع كثيرة، ومن المؤكد أن ينفجر غيرها في المستقبل. يقول ماركس إن تاريخ البشرية هو تاريخ الصراع الطبقي. نستطيع قلب هذه المعادلة واعتبار أن الصراع الطبقي هو التاريخ، والمقصود بالتاريخ هو العلاقة الموضوعية وغير المشخصنة. البشر انطلاقاً من هذا المنظور هم جزء من بنى تدخل في صراع. التاريخ اليوم يتجسد بالعلاقات الدولية وبمؤسساتها القائمة كالبنك الدولي وصندوق النقد وغيرهما. نجد أنفسنا كشعوب وأفراد في مواجهة بنية السيطرة التي تشل الأطراف الأضعف. وإذا أضفنا إلى هذا الضعف حالة الوهن الأيديولوجي السائدة في الفترة الحالية، يتفلت رأس المال من جميع القيود والضوابط كما يحصل منذ عام 1990. تحدث سادة العالم عن نيتهم تدمير سبع دول وباشروا ذلك. وفي خضم عمليات الغزو والحرب التي شرعوا فيها، بدأت الصين بالصعود وعادت روسيا إلى الحضور على المسرح الدولي. بروز هذه القوى الجديدة خفف من اندفاعة القوى المسيطرة باتجاه مناطق العالم المختلفة، لكن هذه الأخيرة لا تستطيع القبول بهذا الأمر، لأن عمليتها الإنتاجية السابقة منوطة باستمرار الحرب، وما يرافقها من عملية إفراغ سكاني نسبية.
التحكم في النفط يسمح للولايات المتحدة بالاستمرار في فرض الدولار كعملة عالمية

الامبريالية لا تفسر اقتصادياً بل سوسيولوجياً، أي بتركيز رأس المال على إعادة توليد سلطته، وعندما يشعر صناع القرار بأن هذه السلطة تضعف بسبب صعود الصين وروسيا مثلاً، يصبحون معنيين بالقيام بأي شيء لتعزيزها. أحد أهم رموز السيطرة هو الدولار وسطوته على الكون. هذه السطوة تسمح له بسلب الأرزاق واقتناص القيمة من دون إنتاج بفضل سلطة رأس المال، لكن تراجعها يهدد بتعطيل هذه العملية. لدى الامبرياليات الحديثة كمّ هائل من النقد لا يستثمره، لأنها لا تريد توظيف هذا الفائض الاقتصادي لمصلحة العمال في الصحة والتعليم والبنى التحتية حتى لا يتحسن موقع نقيضها الطبقي. تفضل الامبرياليات توظيف هذا الفائض في الهدر، أي الحرب، ليس لأن الاستثمار في الصحة مثلاً لن يعود عليها بالربح، بل لأن الأهم بالنسبة لها هو أن لا تضعف سلطتها، فالربح ثانوي بالنسبة إلى أولوية السياسة. رأس المال مدرك أن عليه إعادة إنتاج سلطته قبل إعادة إنتاج الأرباح. الاستثمار في الحرب يعني أن المردود الحربي هو مردوده الرئيسي، ومن خلال الحرب وتعظيم قوته العسكرية يعيد إنتاج سلطته التي تستند إلى التفوق التكنولوجي. وفي سلم تقسيم العمل الدولي، الرافد الأول لتكوين سلطة رأس المال هو القوة التكنولوجية. ثانياً، الحرب تضمن عملية إنفاق عبر إصدار سندات خزينة، وبالتالي تحريك رأس المال من خلال هذا الإنفاق، ما يزيد من قوة الاقتصاد النقدي. في الاقتصاد المنتج، عندما يتم تأسيس مصنع، سيتدنى مردود إنتاجيته مع الزمن، وبالتالي تتدنى الأرباح، أما مردود الحرب فهو لا يتدنى مع الزمن. هامش الأرباح والإنتاجية متصاعد مع الحرب، وهو متدنٍ في الاقتصاد الحقيقي. السلعة التي يبيعها رأس المال في الحرب هي قتل الانسان والافراغ السكاني. عندما يتحرر رأس المال من القيود والضوابط ويمتلك القوة المطلقة ويعود عليه الهدر بأرباح كبيرة فهو لا يتوقف. وبما أن التاريخ موضوعي وغير عقلاني، أي خارج عن إرادتنا، وغير مشخصن، فإن تضخم قوة رأس المال تضاعف من خطر الحرب النووية».
ولكن ما هو التناقض الرئيسي بين الصين وروسيا، من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى؟ «الصين وروسيا تتوسعان عالمياً عبر الاستثمار في السدود والمطارات والطرق، وفي مجالات أخرى في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، أي عبر التركيز على العامل الاجتماعي في التكوين الرأسمالي وإنتاج سلع وخدمات مفيدة للشعوب، على الرغم من أنها تتضمن هدراً نسبياً لا يمكن مقارنته بالهدر المطلق للحرب، وتسهمان في البدء بتغيير ميزان القوى العالمي المختل منذ قرون لمصلحة القوى المهيمنة. محاولة تثبيت ميزان القوى ومنع تغييره ستحفز القوى المهيمنة للجوء إلى جميع الخيارات المتاحة لذلك. التاريخ الذي تصنعه هذه القوى أشبه بكرة حديدية متدحرجة من علو شاهق ومتضخمة باستمرار بفعل عملية الهدر. وبما أنه غير مشخصن وغير خاضع لاعتبارات أخلاقية أو عقلانية، فإن التناقضات التي يؤجّجها قد تفضي إلى حرب نووية. هذه الحقائق دفعت كاسترو، وهو قارئ دقيق لحركة التاريخ، إلى التحذير عدة مرات قبل وفاته من خطر الحرب النووية».
تفكيك الاشتراكية العربية، باعتقاد علي القادري، يهدف إلى فرض نمط جديد من العبودية على الشعوب العربية: «غالباً ما يشار، عند السعي لفهم تجسد رأس المال كعلاقة اجتماعية، إلى التفاوت في مستويات الدخل بين الأغنياء والفقراء. في الحقيقة، هذه إحدى ظواهر رأس المال وليست التجسيد الحقيقي له. المقاربات الاقتصادوية تمنع الفهم الدقيق للأسباب الفعلية، وهي اجتماعية، لسيطرة رأس المال، وهي تفكك العمال والكادحين أو ما نسميه التفكك في صيرورة العمل. تطور رأس المال يخلق العمل الاجتماعي الذي يزيد من الترابط بين الكادحين، لكن استمرار سلطته وإعادة إنتاجها يقترنان بتفكيك قوة العمل من خلال ظواهر مثل سياسات الهوية كالطائفية والعرقية. التركيز على سياسات الهوية هو مظهر أيديولوجي رئيسي لقوة رأس المال. الطبقات الحاكمة في لبنان، على سبيل المثال، تسيطر بفضل الانقسام الطائفي. الهدف من تفكيك الاشتراكيات العربية هو تقسيم الشعوب. التركيز على الانقسام السني ــ الشيعي الناجم عن الوهابية المرعية أميركياً وغريباً غايته تفكيك تلاحم الشعوب. نحن أمام مشروع عبودية جديدة تستهدف الدولة كمنصة لانطلاقة عمل الشعوب في سلّم تقسيم العمل الدولي في مواجهة سلطة رأس المال المعولمة. تدمير الدول على أساس سياسات الهوية يتيح استمرار الهيمنة والتصدي لطموحات روسيا والصين. هو نمط من الاستغلال التجاري للعبودية الجديدة، شبيه بالاستغلال التجاري للعبودية في القرون الماضية، يشكل عملية انتاجية كلية بأضعف الأثمان، تسهل السطو على ثروات البلاد وأرزاق ناسها. التحكم في سلعة استراتيجية كالنفط يسوغ للقوى الامبريالية نكب شعوب بأكملها للاستيلاء على قيمته المضافة والسيطرة على العالم بأكمله. التحكم في النفط يسمح للولايات المتحدة بالاستمرار في فرض الدولار كعملة عالمية على الصين والدول الأخرى. الصين تقوم ببيع كل التلوث الذي تنتجه مصانعها والأعداد الضخمة من سكانها التي تموت من جرائه للولايات المتحدة. هذا ما يدفع الصين التي كانت تمتلك ثلاثة تريليونات من الدولارات في سندات الخزينة الأميركية وباتت اليوم تمتلك ترليوناً وربع، على إنفاق هذه الدولارات في إطار برنامجها (حزام واحد طريق واحد) للخروج من أسر التبعية للعملة الأميركية. وهي، بما أنها في طور التحول إلى الدولة الأولى المنتجة للقيمة النفعية، عبر إنتاجها للسلع والخدمات المفيدة، ستتجه حكماً في المستقبل القريب إلى التحكم في القيمة التبادلية، أي النقد. سيشكل هذا التطور، عند حدوثه، فرصة تاريخية أمام دول وشعوب الجنوب للخروج من أسر التبعية للولايات المتحدة. فالدولار، بما أنه عملة أميركية، هو ملك للولايات المتحدة، وكذلك أيّ أصول مدولرة في العالم. إن سياسة تدمير الاشتراكيات العربية تندرج في إطار الاستغلال التجاري للعبودية الجديدة التي تعمل الولايات المتحدة على فرضها، وهي من أبشع أنواع الاستغلال وتفوق في بشاعتها استغلال اليد العاملة الرخيصة في معامل البنغال أو بورما. يجري التركيز على بلادنا لأنها مصدر لفائض قيمة أكبر، لأنه يترمّز من قوة رأس المال بسيطرة الدولار وتدفق مدخول العالم للولايات المتحدة».