«طيران الشرق الأوسط» هي شركة وطنية مملوكة من الدولة عبر مصرف لبنان، وبالتالي فإن قراراتها لشراء الطائرات يجب أن تخضع لرقابة الدولة، كما يقول وزير الدولة لشؤون مكافحة الفساد نقولا التويني، أم هي شركة تجارية خاصة شاءت الصدفة أن يملك مصرف لبنان أسهمها، وبالتالي فهي لا تنطوي على أي صبغة قطاع عام، كما يقول رئيس مجلس الإدارة المدير العام محمد الحوت؟ ليست هناك أي براءة في هذين الطرحين، بل هما يعكسان مصالح متناقضة بين طرف يُحكم سيطرته على الشركة منذ فترة طويلة والشبهات مثارة حوله، وآخر يشدّ الخناق سعياً لإقصائه ثم السيطرة على الشركة. هذا الصراع يعود إلى أكثر من 8 سنوات، وأبرز عناوينه ملكية الشركة التي أشار إليها الوزير التويني كعنصر أساسي في مسألة شراء الطائرات التي ترتّب على حامل الأسهم، أي مصرف لبنان، التزامات بأكثر من مليار دولار. في المقابل، يتمسّك رئيس مجلس الإدارة محمد الحوت بالقول إنها شركة تجارية خاصة لا يجدر «اللعب بهويتها»، وقرار التغيير فيها يعود إلى مصرف لبنان وحده.
سجال التويني ــ الحوت
هكذا عاد ملف «ميدل إيست» إلى الواجهة مجدداً. كان كافياً أن يصدر وزير الدولة لشؤون مكافحة الفساد نقولا التويني بياناً مقتضباً عن صفقة شراء الطائرات حتى تصبح قضية فساد. تلميحات التويني بدأت من دعوة الحوت إلى الكشف عن مضمون عقد شراء الطائرات وإظهار أسعار الشركات المشاركة في المناقصة «إلا إذا كان الشراء سيتم بالتراضي». وطلب التويني «احترام الشفافية المطلقة، وألا تكون عملية الشراء محصورة بشخص واحد بل بلجنة تتمثل فيها وزارتا المال والأشغال بغية اتخاذ القرار المصيري الصحيح».
الحوت ردّ ببيان مفصل يوضح فيه أن الصفقة سببها تحديث أسطول الشركة للطائرات التي يفوق عمرها 12 سنة، وقد أجريت مناقصة عالمية في أيّار 2016 واشتركت فيها Boeing وAirbus ومصنّعو المحركات General Electric و Rolls-Royce، ثم تلتها مفاوضات حثيثة مع الشركات لتحسين الشروط المالية والفنية مع التعهّد بإتمام العملية من دون وسيط، خلصت إلى رسو العرض على Airbus لشراء أربع طائرات من طراز A330-900Neo مزوّدة بمحركات Rolls-RoyceTrent 7000 وأخذ خيارات لشراء طائرتين إضافيّتين. «الطائرات الجديدة سيتم تسلمها ابتداءً من عام 2021». وليست هذه الصفقة الوحيدة، بل إن عملية التحديث تطال 11 طائرة أخرى سيتم تسلمها في 2020 و2021، وهي من طراز Airbus A321 Neo مزودة بمحركات Pratt & Whitney.
الحوت لم يكتف بهذا الردّ، بل حاول إحراج التويني بالإشارة إلى أنه كلف شقيقه عضو مجلس الإدارة المحامي ميشال تويني بالتفاوض مع شركة Rolls-Royce على شروط العقد، على رأس لجنة من الفنّيّين والخبراء في الشركة، وقد جرى هذا التفاوض بإشراف رئيس الشركة وقد أُعِدّ وفقاً للأصول، مستغرباً أن «يقحم الوزير نفسه في إدارة أعمال الشركة وإعطاء نفسه صلاحيات رقابية ليست من اختصاصه ولا يجيزها له أي قانون»، طالباً عدم إقحام وزارة المال أو الاشغال في هذه «الحملة الممنهجة»، وذكّره بأن طيران الشرق الأوسط «هي شركة تجارية تعمل وفقاً لأحكام قانون التجارة، يديرها مجلس إدارة وتخضع حساباتها للتدقيق من قبل شركات عالمية، كما تخضع أعمالها للمراقبة والمصادقة من قبل المساهمين».

الملكية والرقابة
ملكية الـ«ميدل إيست» هي المدخل الذي لطالما استعمله التيار الوطني الحرّ في سعيه للإمساك بالشركة. كان دائماً يشير إلى أن مصرف لبنان المملوك من الدولة، يملك 99% من أسهم الشركة، ما يعني أن المال الذي تنفقه الـ«ميدل إيست» يصنّف في خانة مال عام، وبالتالي فإن إخضاع الشركة لرقابة الدولة ليس خياراً. التويني قال لـ«الأخبار»: «إن الأسئلة التي نطرحها حول هذه الصفقة تنطلق من كون الالتزامات والضمانات التي سترتبها هذه الصفقة لا تقع على شركة ميدل إيست وحدها، بل على مصرف لبنان أيضاً كونه المالك الفعلي لأسهمها، فضلاً عن أن قرار شراء الطائرات من قبل شركة وطنية لديها حصرية تامة على سفر اللبنانيين وليس لديها أي منافس، هو قرار سيادي، فهل يكون قرار شراء الطائرات خاضعاً فقط لمجلس إدارة مبتور ينقصه ثلاثة أعضاء، أم أنه يتخطى ذلك في اتجاه المالك الفعلي، أي الدولة؟ نحن لا نريد ولا نسعى إلا للشفافية».
من الواضح أن التويني ينطلق من التفسير نفسه الذي خاض التيار على أساسه الكثير من المعارك في مواجهة الحوت. أشرس هذه المعارك جاءت يوم كان العماد ميشال عون رئيساً لتكتّل التغيير والإصلاح، أي قبل انتخابه رئيساً للجمهورية. يومها سُرّب الكثير من المعطيات عن صفقات فاسدة، أبرزها شراء الطائرات والعمولات المدفوعة عليها، وعن صندوق أسود في الشركة يموّل رفاهية سياسيين وأزلام لهم في القضاء والإدارات العامة ومؤسسات إعلامية، وعن توظيفات الأقارب وانتفاعهم بلا حدود من الشركة، وعن توزيع الموظفين في المراكز بشكل غير عادل، سواء على قاعدة الانتفاع أو على قواعد طائفية.

حمايات سياسية
في مقابل هذه الهجمات، غالباً ما كان ردّ الحوت ينطوي على خطوتين: تحويل الاتهامات بالفساد إلى اتهامات ذات طابع سياسي ـــ طائفي، والقيام بجولة على المراجع السياسيين لتجديد عقد الحماية منهم. وأبرز الحمايات التي حظي بها الحوت، يأتي من أربع جهات، بينها واحدة غير سياسية تتمثّل في حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. أما الحماية السياسية، فكان يحصل عليها من رئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس الحكومة سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط.
التويني: إنفاق ميدل إيست على الطائرات يرتّب التزامات على مصرف لبنان


اللافت أنه لم ينجم عن هذا الصراع طوال السنوات الماضية أي نتائج، بل كان استمراره مغذياً لإبقاء الملف قيد التداول. كانت هناك عدة أفكار تتعلق بإجراء تغيير ما في شركة طيران الشرق الأوسط. طرحت فكرة فصل منصب رئيس مجلس الإدارة عن المدير العام، على أساس أنه بعد تعيين الرئيس الحالي محمد الحوت جرى دمج منصب رئيس مجلس الإدارة مع المدير العام، وبات رئيس مجلس الإدارة يستحوذ على صلاحيات المدير العام (آخر مدير عام كان يوسف لحود). لاحقاً انطفأت هذه الفكرة، وتبيّن أن هناك طرحاً مختلفاً، إذ نقلت مصادر مطلعة عن الرئيس ميشال عون أنه تحدث مع رئيس الحكومة سعد الحريري عن التغيير في الشركة قبل الانتخابات النيابية. يومها أجابه الحريري بأن لا مشكلة لديه في التغيير، لكن من الأفضل بحث بالامر بعد الانتخابات.

تغيير الحوت بيد من؟
يدرك الحوت ما يحصل، لذا أدرج في بيان الردّ على تويني عبارة «حملة ممنهجة»، ثم أوضح لـ«الأخبار» أن «أي تغيير في الشركة هو بيد المساهم الذي يملكها، أي مصرف لبنان». أما عن زياراته للقوى السياسية، فـ«زياراتي للرئيس نبيه بري وللرئيس سعد الحريري وللنائب وليد جنبلاط هي أمر عادي أقوم به بين فترة وأخرى لإطلاعهم على تطورات الشركة».
ما يستفزّ الحوت هو الكلام عن ملكية الشركة فيعلّق: «حذار من اللعب بهوية الشركة. هذه نار تحرق. إذا كانوا ضمن حسابات ضيّقة يريدون تصنيفها ذات منفعة عامة أو قطاع عام، فهذا الأمر سيرتّب أثراً سلبياً على الشركة. بالتوصيف القانوني، نحن شركة تجارية عادت ملكيتها، بالصدفة، إلى مصرف لبنان، وبالتالي فإن الدولة اللبنانية لا علاقة لها بها. أي لعب بهوية الشركة ومحاولة إعطائها صبغة عامة يعرّض أموال الشركة وودائعها وأملاكها في الخارج للحجز عند وجود أي خلاف مع أي مستثمر أو متعهد، وقد حصل ذلك أيام الرئيس فؤاد السنيورة حين حجزت طائرة لنا في اسطنبول بسبب خلاف على بضعة ملايين من الدولارات بين شركة المانية والدولة اللبنانية، ولم نستطع أن نفك الحجز إلا بعدما أثبتنا أننا شركة خاصة تجارية. حذار اللعب بالنار. هذه مصلحة الشركة وواقعها الحقيقي والقانوني. هل هم يريدون أن تعود الشركة إلى يوم تسلمتها وكان عمر طائراتها 25 سنة؟».
في الواقع، يشعر التيار الوطني الحرّ أن فتح الملف اليوم يبدو مناسباً، حتى لو لم تكن هناك حكومة، إذ إنه يأتي بمناسبة توقيع عقد تجهيز الطائرات بالمحركات هذا الاسبوع. ربما يسعى التيار إلى استخدام هذا الملف وغيره في معركة الحكومة نفسها، إلا أن الأمر لا يتعلق بقدرته على كشف الفساد، بل بمقاربته لهذا الملف الذي يحمل مفتاح الحلّ والربط فيه رياض سلامة. مواصلة التيار في هذا الملف ستثير الكثير من الأسئلة عن رغبته في فتح معركة إدارة الشركات الثلاث المملوكة من مصرف لبنان: كازينو لبنان، ميدل إيست، انترا. فمن جهة يدرك الرئيس نبيه برّي أن فتح معركة ميدل إيست اليوم سيليه حكماً فتح معركة انترا التي تعدّ باب السيطرة على الكازينو، والتي تحمل محفظة عقارية ضخمة تتجاوز قيمتها مليار دولار أميركي، وتملك أيضاً بنك التمويل الذي تديره لجنة مؤقتة من مصرف لبنان حالياً. ومن جهة ثانية، قد يكون صعباً على سلامة أن يسير وفق رغبات التيار الوطني الحرّ ويقف ضدّ برّي والحريري وجنبلاط معاً. المعركة ستستعر، وحسم أمرها لن يكون بيد الحوت وسلامة والتويني.