باريس | هل تشهد احتجاجات فرنسا مزيداً من التصعيد والتأزم، خلال الجولة الخامسة من تظاهرات «السترات الصفراء» المرتقبة اليوم؟ أم هل تتجه الأمور نحو انطفاء جذوة التمرد الشعبي تدريجاً بفعل المخاوف الأمنية التي عادت لتلقي بظلالها على الحركة الاحتجاجية، إثر الهجوم الإرهابي الذي استهدف سوق الأعياد في مدينة ستراسبورغ، وبعد «الوعود» التي قدّمها إيمانويل ماكرون.المخاوف الأمنية أثارت كثيراً من الجدل في أوساط الطبقة السياسية الفرنسية ولدى أصحاب «السترات الصفراء» أنفسهم. جدل عصف بحالة الإجماع التي سُجّلت، مطلع الأسبوع الحالي، بعد خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون، ووعوده المخيّبة لتطلعات أصحاب «السترات الصفراء»، إذ اتفقت غالبية المحتجين والأفرقاء السياسيين والنقابيين على ضرورة مواصلة وتصعيد الحراك الاحتجاجي، قبل أن تدب الخلافات والانقسامات في ما بينهم، بعد هجوم ستراسبورغ.
غالبية القوى السياسية، باستثناء «فرنسا المتمردة» بزعامة جان لوك ميلانشون، دعت إلى إلغاء هذه الجولة الخامسة من الاحتجاجات، بحجة عدم إثقال كاهل قوات الأمن، في الوقت الذي تشهد البلاد موجة جديدة من التهديدات الإرهابية. زعيمة «التجمع الوطني»، مارين لوبن، فاجأت أنصارها الذين تؤيد الغالبية المطلقة منهم حراك «السترات الصفراء» (88 في المئة منهم يؤيدون استمرار الاحتجاجات، بحسب آخر الاستطلاعات، مقابل 65 في المئة بالنسبة لعموم الفرنسيين)، بدعوتها إلى وقف الاحتجاجات، بحجة أن «السبيل الأمثل لتغيير الأوضاع هو الانتخاب»، وأن «الثورة يجب أن تمر عبر صناديق الاقتراع». الموقف ذاته عبّر عنه الأمين العام للحزب الاشتراكي، أوليفييه فور، مبرّراً دعوته لعدم التظاهر هذا السبت، بـ«أننا نخوض المعركة الآن داخل البرلمان»، في إشارة إلى عريضة الرقابة على الحكومة التي تقدمت بها المعارضة أول من أمس. أما زعيم «الجمهوريين»، لوران فوكييه، الذي كان قد بادر إلى ارتداء سترة صفراء، غداة انطلاق الحراك، الشهر الماضي، فقد دعا هو الآخر إلى عدم التظاهر، قائلاً: «لقد أيّدت هذا الحراك منذ البداية، وأفهم حالة الغضب. لكن الأهم اليوم ألا نترك البلد يقع في الهاوية». تفاعلاً مع ذلك، دعا رئيس الحكمة السابق، الجمهوري جان بيار رافاران، إلى وقف التظاهرات، بحجة أنه لا يمكن «التصفيق لقوات الأمن الخميس (بعد مقتل منفذ هجوم ستراسبورغ)، ثم رشقها بالحجارة يوم السبت». وحده جان لوك ميلانشون دعا إلى تصعيد الاحتجاج، منادياً بجعل هذه الجولة الخامسة من الاحتجاجات «محطة تجنيد قوية» ومنطلقاً لما أسماه «ثورة المواطنة».
على الصعيد النقابي، اعتبرت نقابة CFDT (يمين الوسط)، على لسان أمينها العام لوران بيرجيه، أن «حسن السلوك يقتضي ألا يتظاهر أصحاب السترات الصفراء هذا السبت، حتى لا يثقلوا كاهل قوات الأمن بعد هجوم ستراسبورغ الإرهابي». أما نقابة CGT اليسارية، فقط اعتبرت أن «الحياة الديموقراطية لا يجب أن تتوقف، لأن ذلك معناه الرضوخ للإرهاب»، مضيفة على لسان أمينها العام، النقابي الشيوعي فيليب مارتينيز، بأن «حرية التظاهر والاحتجاج هي في صميم الحريات الديموقراطية». من هذا المنطلق، لم تكتف النقابة بالدعوة إلى «تكاتف نضالات النقابيين والسترات الصفراء في الاحتجاجات» التي تجري اليوم، بل دعت «السترات الحمراء» (نقابيو اليسار) إلى استباق هذه الجولة الخامسة من حراك «السترات الصفراء» بيوم من الإضرابات العامة الاحتجاجية، أمس الجمعة، من أجل «تعميم وتصعيد الضغوط على الحكومة وأرباب العمل».
تأمل الحكومة المصادقة على مشروع القانون لقطع الطريق أمام جولة سادسة من الاحتجاجات


تباينت مواقف أصحاب «السترات الصفراء» بعد هجوم ستراسبورغ، إذ دعا عدد من رموز الحراك، أمثال جاكلين مورو وبنجامين كوشيه، إلى التهدئة ووقف الاحتجاجات. بينما تمسّك عدد آخر من نشطاء الحراك، وفي مقدمهم ايريك دوريه وماكسيم نيكول وبريسيليا لودوسكي، بحق المحتجين في مواصلة الاعتصامات والتظاهرات، على رغم حساسية الوضع الأمني.
لكن كل هذه الخلافات تراجعت في شكل ملحوظ، إثر مقتل منفذ هجوم ستراسبورغ، مساء الخميس. فقد عادت غالبية الفرنسيين إلى تأييد هذه الجولة الخامسة من الاحتجاجات، بنسبة 65 في المئة وفق استطلاعات الرأي التي أجريت أمس، بعد أن كانت هذه النسبة قد تراجعت إلى 55 في المئة غداة الهجوم. من جهتها، أحجمت وزارة الداخلية عن إصدار قرار بـ«منع التظاهرات»، بعد أن كان الناطق باسم الحكومة، بنجامين غريفو، قد لوّح بذلك، قبل يومين. واكتفت بإعلان احتياطات أمنية مشددة، تحسّباً لأعمال العنف، خصوصاً في باريس.
تقديرات وزارة الداخلية أشارت، أمس، بأن الأمور تتجه نحو «سبت أسود» جديد، خصوصاً في العاصمة باريس. وكشف محافظ شرطة باريس، ميشال ديلبيش، بأن مصالحه تستعد لـ«سيناريو أصعب من السبت الماضي»، وبخاصة على جادة الشانزليزيه. فقد رصدت مصالح الأمن ست مجموعات على «فيسبوك» تدعو إلى التجمع على الشانزليزيه، ولوحظ أن تلك الدعوات لقيت تأييد نحو 24 ألف شخص أكدوا أنهم سيشاركون هذا «الحدث»، بينما عبّر 66 ألفاً عن اهتمامهم بالحدث، من دون التوضيح إن كانوا سيشاركون فيه فعلياً أم لا.
أما الفريق الحكومي، فقد شرع في التحضيرات لترتيبات «اليوم التالي». فبعد أن فشلت دعوات وزير الداخلية في ثني المحتجين عن التظاهر بحجة «التحلي بروح المواطنة والمسؤولية»، تشير تسريبات المقربين من رئيس الحكومة، إدوار فيليب، بأنه أوعز إلى نواب الغالبية الماكرونية بالشروع في استباق الخطوات الاحتجاجية لقطع الطريق أمام احتمال تنظيم جولة سادسة من التظاهرات، يوم السبت المقبل.
من هذا المنطلق، أعدّ فيليب مشروع قانون لتفعيل الوعود التي قدّمها ماكرون في خطابه الأخير، وترجمتها بإجراءات وقرارات ملموسة. هذا المشروع سيُطرح بشكل عاجل للمصادقة عليه في مجلس الوزراء، الذي سيعقد صباح الأربعاء. على أن يشرع النواب في دراسته، ظهر اليوم نفسه، في لجنة الشؤون الاجتماعية، تمهيداً لمناقشته رسمياً من قبل النواب، صباح الخميس. وتأمل الحكومة بأن يتمكن البرلمان من المصادقة على مشروع القانون هذا ليل الخميس أو صباح الجمعة، من منطلق أن ذلك سيسهم في قطع الطريق أمام جولة سادسة من الاحتجاجات.
لكن هذه الخطة قد تصطدم بحملة مضادة من قبل نواب المعارضة. فعلى رغم أن موازين القوى البرلمانية الحالية لا تسمح بإحباط مشروع القانون هذا، إلا أن الكتل البرلمانية المعارضة قد تلجأ إلى عرقلة المصادقة عليه، من خلال اقتراح عدد قياسي من التعديلات التي سيتوجب على البرلمان مناقشتها والتصويت عليها مادة بعد مادة، مما قد يؤخر المصادقة على القانون لأيام أو ربما لأسابيع، على غرار ما حدث مع إصلاحات قوانين العمل، في عهد الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند.