في 25 أيلول الماضي أقرّ مجلس النواب فتح اعتماد إضافي في قانون الموازنة العامة «لدعم الفائدة على القروض الجديدة المموّلة بالتعاون بين المؤسّسة العامة للإسكان والمصارف التجارية لذوي الدخل المحدود». وحدّد المجلس أنه «لا يجوز استعمال الاعتمادات المفتوحة بموجب هذا القانون سوى للغاية المنصوص عليها في البند أولاً منه»، أي لذوي الدخل المحدود.بالاستناد إلى هذا القانون، بدأت المؤسسة العامة للإسكان مفاوضات مع جمعية المصارف من أجل التوصّل إلى صيغة توفّر إعادة العمل بالقروض السكنية المدعومة وفقاً للمعايير التي حدّدها مجلس النواب. المفاوضات أظهرت أن المصارف لا تنظر إلى الدعم إلا باعتباره فرصة لاقتناص المزيد من الأرباح التي يمكن تحقيقها من المال العام المخصص لذوي الدخل المحدود. فهي رفضت أن تحتسب فائدة القرض المدعوم على أساس مؤشّر سندات الخزينة المعتمد سابقاً مع المؤسسة العامة للإسكان، ورفضت أن تعتمد مؤشّر مصرف لبنان أيضاً وأصرّت على اعتماد مؤشّر الفائدة الصادر عنها (BRR) الذي تتحكّم به ارتفاعاً وصعوداً، والذي ارتفع كثيراً في الأشهر الماضية حتى بلغ 11.9% مع أن معدل التسليفات بالليرة في القطاع لا يتجاوز 9.6%.
في السابق كان مصرف لبنان قد فرض على المصارف أن تموّل القروض المدعومة عبر المؤسسة العامة للإسكان بالاستناد إلى المعادلة الآتية: 3.9% مضافاً إليها 20% من مردود سندات الخزينة لمدة سنتين للقروض الممنوحة ما قبل 8 شباط 2017، و3.2% مضافاً إليها 10% من مردود سندات الخزينة لمدة سنتين للقروض الممنوحة ما بعد 7 شباط 2017. في كلتا الحالين كانت الفائدة على المقترض أقلّ من 5%، أو ما يعادل 100 مليون ليرة على فترة 30 سنة إذا حصل المقترض على كامل قيمة القرض، علماً بأن هذا الدعم يشمل 5 آلاف قرض سنوياً. أما الكلفة على المؤسسة فكانت صفراً، إذ كانت المؤسسة تدفع الفوائد عن المقترض في المرحلة الأولى ثم تستردها في المرحلة الثانية من القرض.
في المقابل، فإن اعتماد مؤشر جمعية المصارف لاحتساب الفرق بين الفائدة الفعلية وبين الفائدة المدعومة، سيكون مكلفاً جداً على المال العام. فالمؤسسة ستضطر أن تدفع كل مبلغ الدعم البالغ 100 مليار ليرة لتدعم نحو 2650 قرضاً فقط. والمشكلة أن حجم طلبات القروض السكنية لم يعد مقتصراً على سوق المؤسسة وحده. فمع توقف كل القروض السكنية المدعومة، وبعد إقرار مجلس النواب أن هذا الدعم مخصص لذوي الدخل المحدود، بات يترتّب على المؤسسة عبء استقبال كل الطلبات من الجيش والقوى الأمنية أيضاً، أي أن حجم الطلبات سيرتفع إلى أكثر من 9000 قرض سنوياً. بهذه المعادلة، فإن نسبة القروض المدعومة لن تزيد على 30% من حجم السوق.
هكذا قرّرت المؤسسة العامة للإسكان وجهاز إسكان العسكريين، أن يقدّما عروضاً مختلفة للقروض السكنية المدعومة. الهدف هو ألا يتم تحميل الزبون كلفة كبيرة تؤدي إلى مضاعفة المبلغ عليه. فقد تبيّن أنه في حال حدّدت الفائدة على الزبون بنحو 6.25% ستتضاعف قيمة القرض خلال 25 سنة، لذا فمن الأنسب ألا تتجاوز الفائدة مستوى 5% حتى يبقى ذوو الدخل المحدود قادرين على الحصول على القرض تبعاً لمستوى دخلهم الشهري.
العرض الذي قدّمته المؤسسة العامة للإسكان هو الآتي: تدفع المؤسسة 15% من قيمة القرض لدعم الفائدة، ويقتطع من الزبون 15% من قيمة القرض على شكل وديعة قابلة للاسترداد في نهاية القرض، وتكون الفائدة على الزبون 5%. هذه المعادلة تكفي لنحو 2700 قرض فقط في انتظار أن تقوم الدولة بدورها في مجال رسم السياسات الإسكانية المناسبة لدعم الفوائد لذوي الدخل المحدود بشكل متواصل.
أما الجيش، فقد كانت لديه أهداف أبعد كونه مؤسسة تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، لذا فاوض جمعية المصارف على أن تكون فائدة القرض أقلّ من 2.5% بالاستناد إلى كون المخاطر المترتبة على المصارف نتيجة هذه القروض هي متدنية لأن قروض العسكر مضمونة من المؤسسة التي يعمل فيها.
لم تردّ المصارف على عرضَي المؤسسة العامة وجهاز إسكان العسكريين، بل تمارس مماطلة غير واضحة في التعامل مع هذا الأمر الحيوي. فهي من جهة تريد تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح المموّلة بالمال العام، ومن جهة ثانية تنتظر مصرف لبنان لكي يحدّد رؤية تلائمها لدعم القروض السكنية، إذ إن مصرف لبنان لم يُصدر بعد أي قرار بخصوص دعم القروض السكنية لعام 2019. المصارف تعوّل على عدم خذلان مصرف لبنان لها في مسألة القروض المدعومة، خصوصاً لجهة سقف القرض المحدّد حتى اليوم بنحو 1.2 مليار ليرة مقابل 270 مليون ليرة للمؤسسة العامة للإسكان. السقف يحدّد الشريحة التي سيتم تمويلها بالقروض المدعومة، فمصرف لبنان سيموّل الشرائح الثرية قبل الفقيرة، فيما المؤسسة ستدعم ذوي الدخل المحدود حصراً. وكلما كان سقف القرض مرتفعاً، كلما ضمنت المصارف أن تحصل على حصّة أكبر من الأرباح المموّلة بالمال العام، وزادت قدرتها على التخفيف من وطأة الأزمة العقارية عن كاهل تجار العقارات الذين يقترضون منها أكثر من 14 مليار دولار لتمويل مشاريعهم في ظل نسبة تعثّر عن السداد لافتة في هذا القطاع.
كذلك، تنتظر المصارف أن يسمح لها مصرف لبنان بتجاوز النسبة التي حدّدها للتسليفات بالليرة. ففي التعميم 503، قرّر مصرف لبنان أن تكون هذه النسبة 25% من مجموع الودائع بالليرة، وقد تبيّن أن النسبة العامة للمصارف تتجاوز 30%، أي أنه لا يمكنها إقراض المزيد للزبائن بالليرة. وهي أصلاً أوقفت كل القروض وخطوط الائتمان والتمويل بالليرة للزبائن حتى تتمكن من خفض هذه النسبة.
الهدف الذي وضعه مصرف لبنان لسقف التسليفات بالليرة، هو أن تعمل المصارف جهدها لجذب المزيد من الدولارات من الخارج وإغراء الزبائن بالفوائد المرتفعة لتحويلها إلى الليرة اللبنانية حتى يتمكن هو من امتصاص الدولارات وتعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية. كما أن هذه الخطوة تسمح له بتضييق الخناق على الاستهلاك ما يخفف من الاستيراد ويقلص عجز الميزان التجاري ويسمح له بتعزيز ميزان المدفوعات الذي يسجّل عجوزات كبيرة متتالية منذ 2011 (باستثناء عام 2016 حين قام بالهندسة المالية الكبرى). ميزان المدفوعات هو المؤشّر الأساسي على حصول نزف في احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية.
المصارف تنظر إلى الدعم باعتباره فرصة لزيادة الأرباح من حساب ذوي الدخل المحدود


عملياً، ما يقوم به مصرف لبنان، هو بعكس ما تسعى إليه المؤسسة العامة للإسكان. فهو من جهة يعزّز احتمالات رفع الفائدة على الليرة اللبنانية، ما يعني المزيد من الأعباء على المؤسسة في مجال دعم القروض السكنية بالليرة، ومن جهة ثانية هو لا يلبي شروط الدعم التي حدّدها مجلس النواب لتكون القروض لذوي الدخل المحدود حصراً، بل عمل دائماً على تمويل دعم قروض الأثرياء من المال العام بحجّة أن هذا الأمر يتوافق مع سياساته النقدية التي كانت في السابق تقوم على ضخّ السيولة في السوق وأصبحت اليوم قائمة على سحب كل السيولة من السوق.
اللافت أن مصرف لبنان لا يزال يتمهّل في إصدار التعميم المتعلق بالقروض السكنية المدعومة. وبحسب مصادر مطلعة، فإنه لم يقرّر أي رؤية بعد سينتهجها في هذا الأمر.