الدين العام بلغ مرحلة لم يعد لبنان يقدر على تحمل كلفته القائمة حالياً. رغم البيان الذي صدر عن اجتماع القصر الجمهوري مساء أمس، ورغم كل الضغوط التي قامت خلال الأسبوع الماضي، فإن الجميع، والجميع تعني الجميع من دون استثناء، يقر بأن ازمة الدين العام لن تعالج على طريقة المسكنات والبهلوانيات التي قامت خلال السنوات الماضية، والتي كلفت اللبنانيين اكثر من نصف الدين العام. لكن السؤال الذي لا جواب عنه حتى اللحظة هو: من سيدفع كلفة التصحيح؟صحيح ان النقاش حول تصريحات وزير المالية علي حسن خليل لـ«الأخبار» لم ينته بعد، وربما من المشروع طرح أسئلة عن الاسباب التي دفعته الى هذه الخطوة، سواء كانت هفوة أو زلة لسان، أو انها تعكس التفكير القائم في فريقه حول الأمر، او سواء اتهم بأنه «خطأ مدروس» أراد منه توجيه رسائل لا تخص الملف المالي بعينه، لكن ردود الفعل على تصريحات خليل دلت هي الأخرى على طبيعة الصراع القائم بين قوى السلطة اليوم، وهو صراع حول كيفية تنظيم عملية التصحيح، وتحديد هوية المعنيين بها، والكلفة المتوقعة، وكيف سيتم توزيعها على جميع اللاعبين، سواء كانوا من الحاكمين او من المواطنين. أما سياسة الانكار، والقول بخطاب ساذج مفاده أن لبنان لا يفكر في إعادة هيكلة الدين العام، فهي سياسة لا تعكس الوضع القائم، ولا تعبر عن واقعية، الا اذا كان في الحكم عندنا من يعتقد ان في العالم من يريد فتح خزائن الذهب وإهداء لبنان ما يفوق حاجته.
بحسب المتداول به من قبل الاوساط الرسمية، فإن حجم الدين العام يبلغ نحو 85 مليار دولار، نحو 58 في المئة منه دين بالليرة موزع مناصفة بين مصرف لبنان ومؤسسة ضمان الودائع ومؤسسة الضمان الاجتماعي من جهة والمصارف اللبنانية من جهة ثانية. والباقي هو دين بالدولار تحمله المصارف اللبنانية ومصرف لبنان، مع أقل من 10 مليارات دولار تحملها مَحافظ اجنبية ومستثمرون غير مقيمين.
المشكلة التي تثقل كاهل الحكومة والمكلف اللبناني تتمثل في اصل الدين من جهة وفي كلفة خدمة هذا الدين من جهة ثانية. وبالتالي، فان الافكار العامة المطروحة لمعالجة الدين تركز الآن على كلفته وعلى كلفة خدمته. وهذا ما يجعل النقاش منطقياً حول كيفية العلاج، كما يجعل النقاش واقعياً حول توافر امكانية لمعالجة تتم على سنوات، كجزء من سلة اجراءات تشمل الابواب الاخرى الخاصة بالانفاق العام وبالواردات العامة. لكن الاساس اليوم، يتصل بأصل الدين وخدمته.
وحتى لا يستمر مصرف لبنان ومعه المصارف وكتلة من كبار المودعين ورجال الاعمال ومافيات الدولة في التهويل، وهو ما تقوم به جهات خارجية معنية بالدين، مثل مصرف «غولدمان ساكس» الذي يحمل جزءاً من السندات الخارجية، فإن الخطوات قيد التداول الرسمي أو غير الرسمي تفرض التمييز بين ما يثير حفيظة الاسواق والمستثمرين والمودعين، وبين ما يمكن القيام به. ويمكن بداية حسم النقاش حول ان أي قرار لن يشمل السندات الخارجية، وبالتالي، ليس هناك حاجة إلى استجلاب الضغوط الخارجية من زاوية أن لبنان قد يتخلف عن سداد ديونه... لا يا عمي، لبنان لن يتخلف عن القيام بواجباته تجاه كل دائن من خارجه، ولا احد يطرح اليوم المس بالودائع على الطريقة القبرصية.
وبما يخص الجزء الداخلي من الدين، يمكن الاشارة أولاً الى الدين الخاص بمصرف لبنان ومؤسسة ضمان الودائع والضمان الاجتماعي. وفي هذا الشق، يجب ايضاً عزل اموال الضمان الاجتماعي، لأن اصحابها يجب ان يكونوا محل حماية من الدولة اللبنانية اكثر من حاملي السندات من الخارج. أما دين مصرف لبنان ومؤسسة ضمان الدوائع (ما يمكن الاصطلاح على تسميته بالاموال العامة) فهناك عدة طرق لتجميده، مثل ان يتوقف مصرف لبنان عن تحصيل ارباحه لسنوات من الدين الذي يقدمه للخزينة، والذي يصل الى حدود ملياري دولار، أو أن يستغني عن نصف هذا الربح، علماً بأنه يستخدم هذه الارباح في خدمة الهندسات المالية التي تصبّ في النهاية في جيوب المصارف وكبار المودعين، بينما هو لا يقدم للخزينة العامة سوى مبالغ زهيدة (نحو 40 مليون دولار) كمستحقات عليه على شكل ارباح، علماً بأن مصرف لبنان لا يسمح لأحد بالتعرف على مشكلات ميزانيته ولا كيفية معالجتها، ولا سيما أن وسيلته الفضلى لا تزال بإنتاج كميات من العملات بالليرة. وإذا أوقف مصرف لبنان سياسة الهندسات المالية، او الدعم غير المبرر للقطاع المصرفي من تمويل عمليات الدمج الى برنامج الارباح المفاجئة، وتوقف عن امتصاص السيولة من القطاع المصرفي، فهو يساعد كثيراً على خفض كلفة الدين الخاص به.
اما بالنسبة إلى دين القطاع المصرفي، فالمسألة ليست معقدة كما يحلو القول لمن لا يريد التخلي عن بعض أرباحه. لقد حصل في عام 2002 أن فرض الرئيس الراحل رفيق الحريري ـــ وبالتعاون مع حاكم مصرف لبنان نفسه ـــ على المصارف ان تكتتب بمبلغ 3.7 مليارات دولار بفائدة بلغت صفر في المئة، ما يعني أن بالامكان اليوم التوصل الى اتفاق جديد مع المصارف، يخدم لسنوات عدة، يقوم على ترك الدين القديم (مرّ عليه سنوات عديدة) بفائدة صفر في المئة، لخمس سنوات على الاقل، او بفائدة قليلة جداً، وأن يعمد في مواجهة الدين الجديد الى التفاهم على سياسة فوائد مختلفة، تجعل المصارف تقبل بأن تقلص ارباحها السنوية (نحو 2.3 مليار دولار) الى النصف لخمس سنوات ايضاً، عدا عن كون الاتفاق يتيح لمصرف لبنان استخدام الاحتياط الالزامي للمصارف (بفائدة صفر في المئة) لأجل شراء سندات الدين الخارجي، ما يوفر مبالغ كبيرة من خدمة الدين.
لكن، في حال قررت السلطة الحاكمة في لبنان وهي مؤلفة من تحالف الزعامات الطائفية والسياسية ورجال المال والاعمال، أن على المواطن الاستمرار في دفع كلفة الدين الذي لم يصرف على حاجات الناس، فهذا يعني أننا نسير نحو لحظة الصدام العنيف الذي لن ينفع فيه لا المال ولا البنون. لكن حملة التهويل التي أعقبت تصريحات وزير المال، تقول لنا شيئاً واحداً، وهو أن تحالف السلطة هذا يريد مرة جديدة إعفاء الاغنياء واصحاب الودائع الكبيرة من واجب المساهمة الاكبر في معالجة ازمة المديونية العامة، وبالتالي ازمة المالية العامة للدولة.
وقبل تحديد حجم وشكل مساهمة تحالف السلطة في عملية التصحيح، لا يمكن الذهاب مع السلطة في لعبة الشروط التي تقول بأن اجراءات حكومية عاجلة يمكن ان تنقذ البلاد، لأن هذه الاجراءات كما صار واضحاً، تركز مرة جديدة على تدفيع المواطنين عموماً، وبصورة متساوية في ما بينهم، الكلفة. ولذلك عادت الافكار حول رفع نسبة الضريبة على القيمة المضافة من 11 الى 15 في المئة، وكذلك اعادة فرض ضريبة الـ5 آلاف ليرة على كل صفيحة بنزين، واعتماد رسوم جمركية موحدة لا تميز بين الحاجات المشتركة لعموم الناس وبين الحاجات التي تخص الاغنياء حصراً. مع الاشارة الى أن عين تحالف السلطة سيعود مرة جديدة الى المس برواتب القطاع العام، تارة من خلال قرار تجميد التوظيف، وهو ما يعني تجفيف عروق الدولة من الدماء الجديدة، وتارة من خلال العودة الى حقوق المتقاعدين، حيث المشاريع قائمة منذ ايام الرئيس فؤاد السنيورة التي تتعامل مع موظف القطاع العام على أنه خردة يتم رميها بعد أربعة عقود من الاستهلاك.
والمشكلة في هذا الجانب ان بعض اللبنانيين، المتضررين من القطاع العام المترهل والفاسد وغير المنتج، يوافقون بطريقة ساذجة على فكرة تقليص حجم القطاع العام، وبعض الناس يرددون بطريقة غبية الدعوات الى طرد الموظفين وتقليص القطاع، وهم يعتقدون أن زيادة عدد العاطلين من العمل بعشرات الالوف سوف يوفر على خزينة الدولة، ويتجاهلون ان هذا الجيش من احتياطي اليد العاملة، سوف يتحول في اليوم التالي على طرده من القطاع العام، الى منافس جدي لكل العاملين في القطاع الخاص، أو في حالة اكثر تطرفاً سيكون اداة جاهزة لتدمير السلم الاهلي.
تحالف السلطة السياسية والمالية يهول على الناس لإعفاء الأغنياء من دفع فاتورة الاصلاح المالي


عملياً، لا أحد من اللبنانيين بمقدوره رفض سلة الاجراءات، لكن الاساس فيها هو الذهاب نحو اعتماد برنامج مختلف للسياسة الضريبية. وعلى الجميع فهم ان اعتماد سياسة ضريبية عادلة أمر ممكن، ومجرب في غالبية دول العالم، بما في ذلك العالم الرأسمالي الكبير، وهي سياسة سوف تفرض دورة مختلفة للانتاج في لبنان، وسوف تجعل المضاربة عملاً مكلفاً للمتورطين فيها، سواء الذين يضاربون بالعقارات أو بالودائع أو بالصفقات العامة. والسياسة الضريبية من شأنها تعديل سلوك اللبنانيين الذين يتجاهلون أن حجم مداخيلهم لا يسمح لهم بالعيش طوال الوقت على هيئة مقترضين...
لم يعد مهماً سبب وأبعاد تصريحات وزير المال، لكن المهم اليوم هو معرفة أن كل ما نسمعه ونشاهده، انما يمثل وجوها من المعركة القائمة حول كيفية توزيع الكلفة على جميع اللبنانيين في عملية تصحيح مالي نسير صوبها حتماً.. ولو كره الكارهون!