يتبارى يوسف عبدلكي مع نفسه. لوحاته الـ 30 في معرضه البيروتي في «تانيت» هي حصيلة السنوات الثلاث الأخيرة من عمله، لكنها حصيلة ممارسات وتقنيات متناهية في الصغر ولا تتوقف عن التطور داخل تجربة الرسام السوري الذي يبدو أحياناً كأنه يحفر في موضعٍ واحد أو يرسم لوحة واحدة. الشغل المتواصل بالفحم على الورق يعزّز هذا الانطباع، بينما الموضوع الواحد (قد يكون حذاء أو مزهرية أو عصفوراً ميتاً...) يجعل فكرة التباري مقنعة أكثر، وجزءاً من فن عبدلكي ومزاجه الشخصي. كأن الرسام صنع توقيعه من موضوعاته ومن طريقته في إنجازها.
ما نراه في المعرض هو طبعات جديدة من شغله على «طبيعة صامتة» تفسح المجال لتسرّب جمادات وأسماك وطيور إلى مساحاتٍ مشغولة بالفحم. الفارق هذه المرة أن يوميات الدم السوري وجدت طريقها الطبيعي إلى لوحاته. لم تكن أعمال عبدلكي بعيدةً يوماً عن أحلام الإنسان السوري وانكساراته، لكن الاستعارات التي لطالما رأيناها على شكل أحصنة ووحوش وطيور تظهر بترجماتها الواقعية والقاسية.
الطائر الميت لا يزال موجوداً في المعرض، لكنه يتجاور مع «شهيد من درعا»، ومع رؤوس مدماة ومقطوعة، ومع دم في صحن، وسكين على نصلها فراشة، وسكين مع قلب بشري.
هناك نوع من التوثيق السياسي والأخلاقي في الاستجابة لهول ما يحدث، ولا يُلام المتلقي إن فتّش في المعرض عن هذه الأعمال بالتحديد، لكن عبدلكي لا يريد أن يُختزل معرضه بالمشهد السوري المتفجر، ولا يُريد أن يُفهم أنه يقدم شهادة فنية متسرعة. صحيح أن أعماله تحمل المذاقات الواضحة والمُعدية لفن البوستر والاحتجاج، إلا أنه يبذل فيها ما يبذله عادةً في شغله على الطبيعة الصامتة. لعله اقتراح مستقبلي أن تحتوي الطبيعة الصامتة على تشخيص كامل، ويشتغل الرسام على الجسد البشري المقتول بوصفه موضوعاً على صلة بعنف الواقع ودمويته، لكنه محكوم بشروط وممارسات فنية تجعله مقنعاً في أداء دوره الصامت أيضاً. العيون التي أبقاها عبدلكي مفتوحة في وجوه الشهداء هي الفارق الذي ينقل قشعريرة الموت إلى اللوحة وإلى المتلقي أيضاً، بينما تبدو الكلمات المجلوبة من أغنية أو قصيدة كما في لوحات «شهيد من حمص» و «ميّتنا عاصي حماه» محاولةً لكسر الصمت (المدوي) الذي تختزنه هذه اللوحات، أو لعلها «ثغرة» غير واعية تتسلل منها هتافات المتظاهرين، كما أن المساحات والأشكال المنجزة بالفحم مخترقة أحياناً بلطخات الأحمر. كأن الرسام يكسر لعبة المجاراة المتواصلة بينه وبين رؤيته المتطلّبة، ويظهر ذلك أكثر في الأعمال التي تستدعي نوعاً من المجاراة للأصل الفوتوغرافي لما نراه في اللوحات.

مجاراةٌ حيث تحوّل عبدلكي إلى نوع من خالقٍ أو صانعٍ لما يرسمه. هناك شيءٌ من الإعجاز في مطاردة المنطق الشكلاني والفيزيائي للموضوع المرسوم. لا يسعى الرسام إلى إنجاز نسخة طبق الأصل طبعاً، ولكننا ننتبه كيف تختلط نسخته الخاصة بصبر الحِرفيين المهرة وبراعة صائغي الذهب، وكيف يشتغل على فكرة أن تتساوى اللوحة مع الواقع أو الصورة، وأن يخلو هذا التساوي من المبالغة والتفجع والاستعراض. كأن عبدلكي ينجز مادة بصرية تشبه القصيدة أو الاستعارة الشعرية التي ينبغي أن تكون مكثفة ومقتضبة ومكتفية بنفسها. ولذلك، تصلنا أعماله خالية من الثرثرة والاسترسال المجاني، بينما يخضع العنف الذي فيها إلى نوع من الترويض يُبقي اللوحة مفتوحة على دمار الواقع وتمزقه، لكنه يمنعها من أن تكون استجابة مباشرة وعاجلة لما يجري. الفحم نفسه يمنح اللوحات جرعة من الحيادية البصرية، بينما السكاكين المشحوذة والعيون الفاغرة والأزهار والقلوب المطعونة كافية كي يحظى المعرض بمقولته الأخلاقية والإنسانية. مقولة يفضّل عبدلكي أن تتحرك تحت السطح المرئي لأعماله كما تتحرك هويته السورية في ضميره ووجدانه.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza