أنت تعيش في الضاحية الجنوبية لبيروت، وعايشت التفجيرات الانتحارية (وغيرها) بتكرار، سمعت دويّها أو شاهدتها لاحقاً، رأيت الأشلاء بأم عينك أو عاينتها في الصور، تمرّ أيامك وسط هذا الكابوس الجهنمي... وأنت الآن تشعر بالخوف والقلق؟ لا تكابر. لا تخف من هذا الخوف. إنه دليل إنسانيتك هنا. أنت لم تصر «وحشاً» بعد. ربما يحق لك أن تفخر. لا تخجل بخوفك بل جاهر به. إن كان لا بد من الخوف، فليكن من فقدانك هذا الخوف. علم النفس معك، وكذا علم الاجتماع، وقبل كل العلوم وبعدها، ها أنت بفطرتك أو غريزتك أو سمّها ما شئت: نزعة البقاء وبعدها يأتي كل شيء.
في كتابه عن مشاعر الخوف والقلق، يقول الاختصاصي في علم الاجتماع الدكتور علي القائمي إن «الخوف ليس أمراً سيّئاً دائماً، على خلاف ما يتصوره البعض. قد يدّعي بعض الأشخاص، في مجتمع ما، عدم الخوف من أي شيء، وهو ادّعاء لا معنى له». ويضيف في شرحه «فوائد وأهمية الخوف» أنه ربما يحصل أن نجد من لا يخاف، ولكن «هؤلاء إما مجانين وإما مصابون بخلل نفسي أو لديهم تخلف ذهني أو نقص حسّي».
محمد فقيه، ابن الضاحية، أحد الذين لا يخجلون بخوفهم. لكنه يستدرك، دائماً، بعد كل كلمة خوف، ليقول: «بالتأكيد هذا لا يعني استسلاماً. مستحيل. نخاف ونقلق لأننا من جنس البشر، ولأننا نعرف قيمة الحياة ومعناها». فقيه كان أول شخص في الضاحية يضع أمام محله، الذي يبيع فيه الهواتف الخلوية، دشماً من أكياس الرمل. بعده انتشرت تلك الظاهرة هناك، وكثرت المحال المُدشّمة، وكأنهم كانوا يريدون من يبادر إليها أولاً ليفعلوها. محل الشاب في منطقة حارة حريك، على مسافة قريبة جداً من موقع الانفجارين الانتحاريين الأخيرين. يحاول إيجاد عبارة تفيده في وصف صوت كل انفجار، فلا يجد، فهو «صوت هيك، صوت غريب... لا أعرف كيف». لا يجد حرجاً في قول إنه بعد كل انفجار «كنت استيقظ ليلاً على نقزات لعدة ليال». طبعاً، لو كان يعيش في السويد، مثلاً، وتعرّض لما تعرّض له، لكان الآن يلقى العناية الصحية ــ النفسية من قبل الدولة. لكنه في لبنان، في الضاحية تحديداً، فهنا «اعتدنا الأمر أو بدأنا نعتاده. ما حصل في العدوان الإسرائيلي عام 2006 لم يكن سهلاً، ولكن يؤسفني القول إن الإسرائيلي كان عدواً محترماً، قياساً بهؤلاء التكفيريين، إذ كانت الطائرات ترمي المناشير وكنا عموماً نعرف أننا في حرب. لكن ما يحصل اليوم غير مفهوم تماماً، إذ تشعر أنهم يغدرون بك، في أي لحظة يمكن أن يدوي الانفجار بلا سابق إنذار».
يفرح محمد عندما يعلم أن الشعور بالخوف، في مثل تلك الحالات، إنما هو حالة طبيعية وصحية علمياً. فبحسب أستاذ الفلسفة في جامعة نيويورك، البروفسور جيسي برينز، فإن «صاحب الشخصية السيكوباتية (المريضة) يكبح الانفعالات الغريزية التي يستحيل على الشخص السليم كبحها، فهو لا يعرف الخوف أبداً، بل يستطيع أيضاً كبح جميع الانفعالات ذات المنشأ الاجتماعي، مثل الشعور بالذنب أو بالمحبة». الشاب محمد فقيه غيّر نمط حياته، في العمل أولاً، وضع أكياس الرمل أمام محله، لأنه «لا يريد الجلوس في المنزل وأن الحياة لا بد أن تستمر». عدّل أيضاً في سلوكه اليومي، كما فعل أصحاب المحال المجاورة، إذ «بطريقة عفوية بتنا نصنع جوّاً جديداً، فيه المرح والتسلية، فنلعب البلاي ستايشن داخل المحل لكي نتحدى فكرة الانهزام واليأس. هذا ما لن نصل إليه... لن نعطيهم إياها». ينطبق كلام فقيه على ما يورده البروفسور برينز في دراساته، حيث يقول: «الانفعالات مصممة للتعبير عن حالات محددة، فالخوف مصمم لمواجهة التهديد، ترافقه مجموعة محددة من التغيرات البدنية والأنماط السلوكية».
حسين عمرو، صاحب مقهى «AMRO» الكائن في الشارع العريض، الشاب الذي نجا من انفجارين خلال شهر واحد، وقعا أمام محله تماماً، يقولها بوضوح: «نعم نحن نمرّ في مرحلة خوف وقلق، وكل من يقول لك غير ذلك فهو إما يكذب على نفسه وإما هو بلا شعور». بعد التفجير الثاني فكّر عمرو في أن يقفل المقهى نهائياً، لكنه في النهاية باب رزق. «بعض الأصدقاء عادوا وأقنعوني بالعدول عن القرار. قد يظن البعض أن هذا الكلام يعني استسلاماً، بالتأكيد لا. حركة الناس تضاءلت في المنطقة على نحو لافت، لكن مع الوقت سيعود كل شيء إلى ما كان عليه. صمدنا في حرب تموز، وسنصمد إلى جانب المقاومة الآن. أصلاً نحن ولدنا وكبرنا في هذه الأجواء. الفارق هذه المرة أننا لسنا في حرب مباشرة، ما يحصل الآن من تفجيرات غادرة هو أصعب من الحرب مع إسرائيل. فعندما تواجه أشخاصاً لا معنى عندهم للشرف ولا يعطونك حتى فرصة الدفاع عن نفسك، فطبيعي جداً أن تشعر بالقلق والترقب. لقد رأيت الموت أمام عيني مرتين، رأيت الأشلاء والنار والدخان، عشت الصدمة، ولكن مع ذلك سأبقى في الضاحية وسنتعايش مع الأمر». يُصرّ حسين على أن ننقل عنه عبارة: «أقول للتكفيريين، رغم الخوف والقلق هنا، ومهما فعلتم، لن تجعلونا نقف ضد حزب الله. اسألوا عنا جيداً».
يمكن متابعة الكثير من الآراء عن «الخوف» و«القلق» على مواقع التواصل الاجتماعي. آراء أشخاص من أهل الضاحية. واحدة تقول: «صرنا نخاف من أي سيارة، من محطة بنزين، من سوق ومن طبشة باب وأي صوت قوي... كنت ظننت أن الحرب الاسرائيلية والاحتلال هما أسوأ ما مررنا به». آخر، متدين مع «مسحة» حزبية، يدعو الناس إلى «الابتعاد عن الماديات والتوجه نحو الروحانيات». يحاول تهدئة الناس بالخطاب «المشائخي» التقليدي، وليس بعيداً أن يكون هو من أكثر القلقين. نمط من الخطاب شاع أخيراً، كأن أصحابه يريدون سلب الناس حقهم في الخوف الطبيعي، في ما يُشبه «الاختباء خلف الإصبع» أو الهروب إلى الأمام. الأكيد أن أهالي الضاحية باتوا «مدرسة» قائمة بذاتها في الصبر. ما عادوا بحاجة إلى تلقين. باتوا اليوم، أكثر من أي زمن مضى، بعد كل الذي قاسوه وعانوه، محترفي الصبر والتكيّف مع الخوف في الوقت عينه. ليس الخوف المرضي، أو الانهزامي، بل ذاك الخوف الذي يعطي للحياة نبضاً.

يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | @Nazzal_Mohammad




الخوف جهراً ومكابرة

لا تسكن رشا في الضاحية، لكن أقاربها هناك، كانت تتردد إليهم أسبوعياً، لكن الآن بعد سلسلة التفجيرات صارت «تحسب لزيارة الضاحية ألف حساب». كتبت على صفحتها الإلكترونية قبل أيام: «أنا أخاف، أنا أهاب الموت كثيراً، أنا بشر. مخافة الموت لا معابة فيها، لست من أولئك الذين يدّعون بزهو وفخر: نحن لا نهاب الموت. أنا أخاف أن أفقد أعز من أحب، أخاف على أهلي وأحبتي، من لا يهاب الموت هو واهن الإيمان». تلخص هذه الكلمات الكثير من الحالة النفسية التي يعيشها كثيرون من أهل الضاحية، ومن كانوا يترددون إلى الضاحية، وإن كانوا جميعاً يُصرّون على مفردة «الصمود وعدم الاستسلام»، إلا أنهم ينقسمون في الخوف إلى نوعين. الأول يجاهر بخوفه، لأنه شعور طبيعي، ومنهم من يخاف ويقلق ولكنه يرفض الاعتراف، مكابرة، كهروب إلى الأمام. لنأمل أن يظل أهل الضاحية يخافون، في ظل مسلسل الموت المتنقل، لنأمل أن يبقوا على طبيعتهم الإنسانية.