كم كانت خيبة السينمائية المصرية الشابة كبيرة، حين وصلت من القاهرة لتكتشف أن زياد الرحباني لن يعيد تقديم مسرحيته «بالنسبة لبكرا، شو؟»، كما شُبّه لها على فايسبوك اللعين. هذه فرصة ذهبية لا تفوّت، فكرت، فقطعت تذكرتي سفر لها ولصديقها، وهرعا إلى بيروت! كلا للأسف عزيزتي، ما يمكنك مشاهدته هو شريط سينمائي، قائم على ترميم وثائق فيديو، صُوّرت على دفعات في النصف الثاني من السبعينيات، خلال عروض المسرحية الأسطوريّة التي نعرفها عن ظهر قلب، من خلال أشرطة كاسيت عبرت متاريس وخنادق وحدوداً... لكن خلافاً لبعض ما سمعتِه وقرأتِه ربّما من انتقادات وتنظيرات، هنا وهناك، منذ وصولك إلى مدينة الغرائب والعجائب، فإن الأمر يستحق بحد ذاته عناء السفر.
الفيلم الذي يشكّل مفاجأة حقيقية، ستشعل بيروت فور انطلاق الفيلم في الصالات التجارية، يبعث على الشاشة الكبيرة تلك اللحظات التي يخيل إلينا أننا عشناها في حياة أخرى. يحييها ويخلّدها ويضعها في تصرّف الأجيال القادمة. ويحتفي بعبقرية زياد الرحباني وموهبته، بوعيه النقدي وحسّه الشعبي وفطرته الكوميدية ومقدرته على توظيف اللغة والشخصيات والحبكة والحالات والسخرية لتفكيك الواقع وفضحه، في خدمة رؤية سياسية، استشرافية، متقدمة، ما أحوجنا إليها اليوم، في زمن الطاعون المذهبي، والاستلاب السياسي، وقاطعي الرؤوس. بعض الجمهور شاهد المسرحية حقاً، لكن معظمه لم يكن هنا، قبل 35 سنة، أو لم يتمكن من عبور خطوط التماس بين «الشرقية» و«الغربية». مع أن أغنيات زياد وكاسيتات مسرحياته واسكتشاته الإذاعية، كانت قد تفشت في «الغيتو الانعزالي» حسب مسميات المرحلة.
لا شك في أن المغامرة التي خاضها إيلي خوري، منتج فيلم «بالنسبة لبكرا، شو؟» وموزعه، تستحق تحية إعجاب، وتشكل درساً سياسياً وثقافياً. يوم قرر رجل الصورة والإعلانات وفنون التواصل أن يحصل على حقوق أشرطة فيديو عمرها عقود، في أرشيف زياد الرحباني، بهدف إحيائها، وإعادتها لجمهور لا يعرفها إلا من بعيد، فكر بعضهم أنه مجنون يهوى ركوب المخاطر. لكنّنا نفهم الآن أساس رهانه: لقد لعب ورقة الحنين ضدّ التكنولوجيا، وشعبيّة زياد الرحباني ضد تصدعات الزمن، وقدرة فنّه على مخاطبة الراهن من قلب ضباب الحرب الأهلية اللبنانية. إنه الفن كآلة لعبور الزمن، ومساءلة الوثيقة وترميمها، وبعثها الآن وهنا. الفيلم يعيد الاعتبار إلى الأرشيف بصفته مادة فنية. هكذا تصبح الهنات الطبيعية في الصوت والصورة من تشويش وغبش وصدى، وفقر حركات الكاميرا، وغياب التقطيع، وأخطاء الراكور... جزءاً من جمالية العمل وسحر أسلوبه، وتعبيراً عن «شعرية» المسافة. سيحب الناس الفيلم رغم المشاكل التقنية، بل بفضلها: المسرح الشعبي على خشبة «مسرح وسينما الأورلي» بالأمس البعيد، هو على الشاشة اليوم «المسرح الفقير» المتقشف الذي يأخذ إلى الجوهر.
وهذه التجربة الخاصة التي ستوحّد اللبنانيين، كما جمعت النقيضين إيلي خوري وزياد الرحباني، تسلّط الضوء على خطاب سياسي استشرافي، يبدو راهناً أكثر من أي وقت مضى. لقد تنبّأ زياد بالحريرية الاقتصادية سنوات قبل بروزها، وفضح «اقتصاد الكاباريه» الذي بنى عليه الرئيس الراحل فلسفة إعادة الإعمار الكارثيّة. «بلد ما فيه مواد أولية» قدره أن يتحول إلى ماخور لطيف للرساميل النفطية، وأن يجند طاقاته الإنتاجية في خدمتها. كيف نتلقى كل ذلك اليوم وقد أصبح لبنان مستنقعاً استهلاكياً، وازدادت غربة المثقفين والشعراء، و«هوت سنونوتهم على الرماد»، وبعنا كل شيء، وصرنا تحت رحمة اقتصاد الخدمات، ونمط الإنتاج الطفيلي الذي يختزله الناس إلى تسمية «الخليج»؟
في فيلم «بالنسبة لبكرا، شو؟» هناك أيضاً الحنين. قبعة جوزيف صقر الكولونيالية، وفتنة نبيلة زيتوني، وسالفاً فايق حميصي، وصوت بطرس فرح، واستدارة رفيق نجم، وطبعاً زياد بالبيريه والنظارتين واللحية. نحن اليوم في الـ «بكرا» الذي تسأل عنه ثريا طوال الوقت، وتلاحق به زوجها زكريا البارمان الشهير في «ساندي سناك»، في الحمرا، بيروت 1978: بكرا أسوأ مما توقعناه. المسرحية التي أثّرت في الوعي السياسي لجيل كامل، نستعيدها اليوم كأيقونة، كبوصلة، في الزمن النغل. زياد بيننا، شفيعنا، نسبق شخصياته، نردد حواراته كتعاويذ سحرية أو أدعية. نعود، بسحر ساحر، إلى تلك اللحظة التي كان فيها كل شيء ممكناً!