في الذكرى الحادية عشرة لرحيل المناضل والقائد الفلسطيني والعربي جورج حبش (26 كانون الثاني/ يناير 2008)، أحد أبرز مؤسسي حركة القوميين العرب، والأمين العام المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يُصدر «مركز دراسات الوحدة العربية»، مذكّرات جورج حبش في كتاب بعنوان «صفحات من مسيرتي النضالية»، في تغطية لأبرز محطات تجربته النضالية. خصّ المركز «الأخبار» ببعض فصول الكتاب، تولّى تقديمها ومراجعتها الكاتب سيف دعنا وستُنشر تباعاً في حلقات.
تمكّنتُ عن طريق الأهل والأصدقاء من حل المشكلة الأمنية التي كانت تواجهني في الأردن، بسبب اتهامي بالإعداد لاغتيال الملك عبد الله. هكذا سافرت إلى الأردن لنبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة من العمل عام 1952. في عمّان، بدأت أولاً بالإعداد لفتح عيادة أعمل فيها أنا والدكتور وديع بعد تخرجه، ويمكن أن تكون هذه العيادة مكان إقامة لحامد الجبوري الذي كان من المقرر أن يلتحق بنا؛ فضلاً عن جعلها مركزاً لاجتماعاتنا وأنشطتنا؛ وقد حصلت على ترخيص لمزاولة مهنة الطب هناك. وبدأت الاتصال بأصدقاء كانوا معي في الجامعة في فترة النكبة وما تلاها، وتحديداً علي منكو ونزار جردانة وحمد الفرحان، ومن خلالهم بدأت أتعرف إلى مجموعة أوسع من الشباب العربي والشباب الفلسطيني في مدينة عمان وفي الأردن بوجه عام انتظاراً لمجيء وديع وحامد كي نبدأ العمل بصفة جماعية. كما أود أن أذكر أصدقاء لي في الجامعة من الأردن، وخصوصاً الأخ علي منكو ونزار جردانة اللذين كان لهما دور في بداية عملنا في الأردن.
في هذه الأثناء، بدأت أمارس مهنة الطب. وفي ضوء محبتي لهذه المهنة، من ناحية، والمستوى الطبي للجامعة الأميركية وتفوقي في الدراسة فيها من ناحية ثانية، نجحت في علاج الكثير من الحالات الصعبة، وهو ما بنى لي سمعة طيبة. وفي هذه الأثناء، كان والدي ووالدتي وأهلي في عمان، وهو ما أتاح لي أن أعيش في جو عائلي نسبياً بعد انقطاع طويل عن مثل هذا الجو.
بعد أشهر قليلة بدأت تجربتنا الجماعية في الأردن، إذ حضر الدكتور وديع وحامد وبدأنا العمل النشط. كنا أولاً نتابع اجتماعاتنا نحن الثلاثة للمطالعة والبحث السياسي واستعراض ما نقوم به من أنشطة تنظيمية وغيرها. وفي الوقت نفسه كنا نعمل في الميدان الجماهيري كالاتصال بالناس ومحاولة تعبئتهم وتجنيدهم للتيار السياسي الذي نؤمن به: القومية العربية، والوحدة العربية، والتحرر، وتحديداً تحرير الأرض الفلسطينية المحتلة. أعتقد أننا قمنا بتجربة خاصة على هذا الصعيد تتمثل بتعبئة الناس من خلال تقديم خدمات إليهم. ساعدنا ذلك في العمل كثيراً، وكنا نقدم عليه بحيوية وحماسة، فذلك يتمشى مع طباعنا وأخلاقياتنا. هنا، على وجه التحديد، أسسنا مدرسة لمكافحة الأمية في نادٍ اجتماعي اسمه «المنتدى العربي» كان قائماً قبل حضورنا إلى الأردن، فانتسبنا إليه عن طريق علي منكو ونزار جردانة، وبدأنا نتخذه مسرحاً لبعض الأنشطة. وإلى جانب مدرسة مكافحة الأمية، نظمنا في المنتدى نفسه يوماً للعلاج المجاني. وكنا من خلال العيادة نجتذب الكثير من الناس إلينا من خلال معالجتهم مجاناً ومحاولة الحصول على أدوية مجانية لهم أيضاً، إضافة إلى زيارة المرضى وأهاليهم في بيوتهم.
كنا في غاية السعادة والانسجام ونحن نرى نتائج مثل هذه الأنشطة عن طريق التفاف الناس حولنا، وبسرعة نسجنا علاقات في المخيمات، كمخيم الوحدات، في ضواحي عمّان، ومخيم الحسين. لم يكن المناخ السياسي في تلك الفترة مناخاً قمعياً، وهو ما مكننا من القيام بكل هذه الأنشطة من دون مطاردة أو ملاحقة تجعل الناس يتهيّبون من التعاطي معنا. لم يكن حامد قادراً على مشاركتنا بكل هذه الأنشطة نظراً إلى طبيعته، إذ إن العمل بالطب كان هو المدخل لي ولوديع للاتصال بالناس، فلم يكن حامد قادراً على المشاركة في ذلك لأن دراسته الجامعية كانت في مجال العلوم السياسية.
في موسكو عام 1980

هذه الدائرة من العمل التي كنت أقودها، والتي تشمل الدكتور وديع وحامد الجبوري، كانت تستهدف تجسيد ما كنا نطمح إليه من إيجاد تنظيم متين وحديدي يختلف عن التنظيمات السياسية القائمة في ذلك الوقت، بما في ذلك حزب البعث، وذلك بجديته ومستوى متطلباته من الأعضاء واستعدادهم للتضحية والسعي للقتال ضد إسرائيل التي اغتصبت أرضنا وأذلت الأمة العربية. لكنْ، إلى جانب هذه الدائرة وجدنا أنفسنا نعمل في الوقت نفسه في دائرة أخرى تنسجم مع الوضع السياسي الذي أصبحت تعيشه ساحة الأردن بعد اغتيال الملك عبد الله. فقد جاء الملك طلال الذي كان انطباع الناس عنه أنه يختلف كثيراً عن والده من حيث كراهيته للمستعمر البريطاني ورغبته في بناء بلد حديث، بحيث كان الانطباع العام لدى الناس حين مرض الملك طلال بأن هذا المرض مؤامرة رتّبها رئيس الوزراء توفيق أبو الهدى بالاتفاق مع غلوب باشا، القائد البريطاني للجيش الأردني في ذلك الوقت.
تسلم الملك طلال العرش فترة قصيرة جداً، نحو سنة تقريباً، وبعد ذلك أُعلن عن مرضه رسمياً، ونُصِّب ولي العهد الأمير حسين ملكاً للبلاد. ويبدو أن الحكم كان حريصاً على أن يبدأ الملك حسين عهده بنوع من الديموقراطية الليبرالية التي تبعث الارتياح في النفوس. فجيء برئيس جديد للوزراء هو فوزي المُلقي، وسُمح بالحياة الحزبية والحريات بما في ذلك حرية الصحافة. وفي هذه الأثناء، وجدت نفسي، كما أشرت سابقاً، أعمل في دائرة أخرى من النشاط الذي يصب في إطار إيجاد حزبٍ ثوريٍّ عالي المتطلبات. فمن خلال معرفتي بعلي منكو ونزار جردانة تعرفت أيضاً إلى مجموعة من الشباب الأردني والفلسطيني المثقف والوطني الراغب في الإفادة من هذا الوضع السياسي الجديد الذي يعيشه الأردن. ومن بين هؤلاء الأخ حمد الفرحان الذي تعرفت إليه أول مرة في صيدلية نزار جردانة، وكان في منصب وكيل وزارة الاقتصاد واسمه معروف على مستوى الأردن ولديه من يحبه بقوة، وفي المقابل من يكرهه بشدة. وقد وجدت فيه مع الوقت إنساناً على درجة عالية من الكفاءة والإخلاص ويترك أثراً قوياً في سامعيه. ومن هؤلاء أيضاً محمد طوقان الذي كان قاضياً، وهو صديق حميم لحمد، إلى درجة أنهما لا يفترق أحدهما عن الآخر. ومن خلال حمد، تعرفت إلى مجموعة أخرى من الرجال من الأردن، وبخاصة محمد الرشدان، الذي كان يحتل مرتبة عالية في سلك القضاء الأردني، والدكتور أحمد طوالبة، الذي كان يعمل طبيباً في مدينة إربد. إلى جانب هذه المجموعة من الضفة الشرقية، كانت هناك مجموعة أخرى من المثقفين الفلسطينيين، منهم الدكتور صلاح العنبتاوي ومحمد العمد وممدوح السخن وآخرون من ذوي الكفاءات والسمعة الطيبة والاستعداد للعمل الوطني.
في هذا الجو العام، وفي ضوء الظرف السياسي الذي أشرت إليه، طرحت بقوة فكرة تأسيس حزب عربي. هنا وجدت نفسي مع وديع حداد في وضع صعب. فهذه المجموعة لا ترتقي إلى مستوى الانضباط والفاعلية والانصهار في العمل والتضحية التي تتجاوز أي تفكير بالذات، لكنها في الوقت نفسه مجموعة وطنية، ومخلصة، ومستعدة إلى حد معين للعمل على مستوى ما كان يؤديه على سبيل المثال قياديو حزب البعث وكوادرهم. وقد وجدت في النهاية أن عملنا، أي أنا ووديع، من خلال هذه المجموعة، يُسهِّل علينا أموراً كثيرة ويوفر لنا إطاراً نستطيع من خلاله أن نسرع في تثبيت وجودنا السياسي ونجد مدخلاً لعملنا على صعيد وطني. كان القرار بيني وبين نفسي، ثم مع وديع وحامد، ألا نترك الإخوة خارج الأردن، أعني اتفقت معهم على عملية التأسيس لتنظيم سياسي جديد، وأقصد هنا هاني الهندي، والدكتور أحمد الخطيب، وصالح شبل. كنت شبه واثق من أنه سيكون بإمكاني إقناعهم بسلامة القرار والخيار الذي اتخذناه نحن في الأردن.
وبالتالي يمكن القول إن عملنا في الأردن أصبح في إطار أوسع يضم كل هذه الأسماء الكبيرة التي ذكرتها، إضافة إلى أسماء أخرى مثل الشيخ إبراهيم قطان. في وسط هذه المجموعة، طُرحت فكرة إصدار مجلة أسبوعية، فرحبتُ بتلك الفكرة بقوة وشعرتُ بأنها تشكل بداية جيدة لعمل سياسي شعبي في الأردن. وقد كان واضحاً أنني، من الناحية العملية، سأكون أنا والدكتور وديع المسؤولين عن هذه المجلة وأنها ستشغل الكثير من وقتي. المعادلة بوجه عام كانت مريحة بالنسبة إلى المشروع الذي جئنا إلى الأردن من أجله. ونتيجةً للجو الليبرالي الذي رافق مجيء الملك حسين إلى الحكم، سُمح لنا بإصدار مثل هذه المجلة، التي أطلقنا عليها اسم الرأي، والتي أصدرناها باسم الدكتور أحمد الطوالبة، الذي كان على استعداد للانضمام والمشاركة في العمل الوطني. وراحت افتتاحياتها تلهب المشاعر الوطنية، وشعاراتها تحرير الأردن من السيطرة البريطانية، وهو ما جعل الإقبال عليها رائعاً منذ أعدادها الأولى. بدأت الرأي تصدر عام 1953. كانت مجلة أسبوعية تصدر كل يوم اثنين، فأصبح يوم الاثنين حدثاً بالنسبة إلينا وإلى والمحيطين بنا وكذلك بالنسبة إلى الجماهير، أو هكذا كنا نشعر على الأقل. وذكريات مجلة الرأي ذكريات حبيبة إلى القلب. لا أزال أذكر الصعوبة التي كان يعانيها علي منكو لدى كتابته موضوعاً للمجلة، ولكن حين ينجز الموضوع أشعر بأني أمام إنتاج ممتاز. كذلك أذكر مظهر النابلسي، الذي كان يأتينا بمجموعة من الأخبار المثيرة كانت سبباً في رواج المجلة، كما كان حمد الفرحان يكتب بعض الافتتاحيات بأسلوب جذاب جداً. ولا أزال أذكر سهرة ليلة الأحد التي كنا ننجز فيها العدد ونرسل آخر الموضوعات للطباعة. وفي هذه الليالي، كنا نسهر حتى الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل، وحين أعود، وبرفقتي الدكتور وديع حداد، إلى العيادة للنوم، كنت أشعر بأنني غفوت وأنا ما زلت في طريقي إلى الفراش، لأستيقظ صباحاً وأسأل عن صدور العدد وعن أي تعليقات سريعة من جانب الناس حول المانشيت الرئيسي.
هذه الدائرة من العمل التي كنت أقودها، والتي تشمل الدكتور وديع وحامد الجبوري، تستهدف تجسيد ما كنا نطمح إليه من إيجاد تنظيم متين يختلف عن التنظيمات السياسية القائمة


لا أزالُ أحتضن ذكريات هذه الأيام بحب شديد لأنها تثير في نفسي أسعد اللحظات. صداقات حميمة صادقة ومخلصة، جمهور من الناس يقدّر عملنا ويلتف حولنا، ونشاطنا في أوساط الجماهير وحد أدنى من الحياة العائلية، حيث كنت في بعض الأوقات أترك وديع وحده ينام في العيادة وأذهب أنا للنوم في البيت، حيث ألقى من والدتي كل العناية والترحاب.
بدأنا نعمل في هذه الفترة ضمن إطارين محددين: إطار أول يتخذ شكل خلايا وحلقات حزبية في أوساط مخيمات النازحين أو الفقراء خارج المخيمات؛ ومثل هذه الحلقات والخلايا كنا نحرص على أن نقودها أنا ووديع بأنفسنا، حتى ندربهم على مستوى من الانضباط والاستعداد للتضحية والجرأة في القيام بكل الواجبات المطلوبة. كنا نحرص على أن نعيش معهم ونأكل معهم في حياة تحمل الكثير من المساواة والتفاني. أما الإطار الثاني من العمل، فكان يضم المثقفين والموظفين الكبار والأطباء والصيادلة. كان هذان الإطاران متشابكين ومترابطين حيناً ومتنافرين حيناً آخر. وكانت تقع على عاتقي مهمة التوفيق بين هذين الإطارين، فكنت صلة الوصل بينهما. لم يستطع حامد أن يبقى معنا في هذه التجربة، فقد كان أهله في العراق ينتظرون لحظة تخرجه، فلم يكن من السهل أن يبتعد عن أهله إلى هذا الحد الذي أردناه. يضاف إلى ذلك أنه لم يكن منهمكاً في العمل كما كنا أنا ووديع. بالنسبة إليّ، كانت هناك العيادة والأهل والمعارف والعمل الوطني والتنظيمي، أما بالنسبة إلى حامد، فلم يكن أمامه فرصة للعمل إلا من خلال المطالعة والاجتماعات التي كنا نعقدها، فأصبح هذا ينعكس سلباً على نفسيته. سألته مرة عن الموضوع فصارحني بشعوره وعدم قدرته على الاستمرار؛ فاتفقنا على أن يترك ويعود إلى العراق، إذ إن عملنا في أساسه يقوم على الاختيار الحر لا على الإكراه.
في هذه الفترة نفسها، أذكر أننا بدأنا نؤدي دوراً في تحريك الشارع في بعض المناسبات القومية. ففي تظاهرة تضامن، وكانت المناسبة تتعلق بالاحتلال الفرنسي للمغرب وما كان قائماً هناك بين عامي 1953 و1954، نظمنا تظاهرة تضامن في وسط عمان، اعتقلت في إثرها. لكن اعتقالي لم يزد على يوم أو يومين حسبما أذكر. ففترة الديموقراطية التي كان يعيشها الأردن في ذلك الوقت جعلت بعض المحامين، منهم راتب دروزة، يتطوعون للدفاع عني، فأفرج عني إما بدون محاكمة وإما نتيجة محاكمة حكمت عليّ ببضعة أيام فقط. في ذلك الوقت الذي أشير إليه، كانت هناك ثلاث قوى أساسية تُحرك الشارع في الأردن: حزب البعث، والشيوعيون، ونحن، وكنا نسمي أنفسنا في ذلك الوقت «الشباب القومي العربي».
وفي مناسبة أخرى عام 1954، لم أعد أذكر ما هي بالضبط، وكان قد حصل تغيير حكومي، قُدتُ تظاهرة، فاعتقلنا في إثرها، وكانت حصتي من السجن هذه المرة تزيد على أربعين يوماً، وكان مدير السجن يعاملني بلطف شديد. أذكر بعض الذين سجنوا معي في تلك الفترة وفي المناسبة نفسها. كان يسمح بزيارة المساجين يوم الجمعة؛ فكان يزورني عدد من الأصدقاء. أما وجبات الطعام التي كانت تصلني من مطعم جبري وأحياناً من البيت، فكان ينتظرها زملائي من المساجين ممن كانوا معي في الغرفة بشوق ونهم.
إلى جانب هذه الأنشطة السياسية والجماهيرية والتنظيمية، لم أنس ذلك العدو الجاثم على الصدور وضرورة إيجاد عمل مسلح داخل فلسطين المحتلة. فأحضرت صديقاً لي كان يعمل قبل النزوح مع الهيئة العربية العليا والحاج أمين الحسيني، وكنت قد تعرفت إليه في بيروت أثناء اعتنائي بالشهيد إبراهيم أبو دية، وهو يُدعى محمد خليفة، وكنا نسميه أبو عبد الله. حضر محمد إلى عمان ووجد مكاناً للإقامة في العيادة، التي كان يسميها والدي، رحمه الله، «القيادة». كان هذا الصديق يعرف أناساً وطنيين كانوا يتعاملون مع الحاج أمين الحسيني؛ وقد طلبت منه أن يجدد معرفته بهؤلاء الناس وبخاصة الذين يسكنون قرى حدودية أصبحت تفصل بين الضفة الغربية والمناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948. وقد بدأت بالتعرف إلى هؤلاء الذين لا أزال أذكر منهم مختاراً من مخاتير قرى رام الله اسمه أبو إسماعيل الذي زار العيادة أكثر من مرة، وأصبحت أتصل به وبأبي عبد الله مباشرة، وأحثّه على إيجاد مجموعات قادرة على النزول إلى الأرض المحتلة والقيام بأعمال ضد إسرائيل؛ أذكر منهم أيضاً شاباً اسمه نمر، كان يسكن قرية من قرى نابلس أو في المخيمات القريبة من نابلس. وقد أخذت أبحث معه تلك الفكرة. وفي بداية التجربة، كانت هذه المجموعات تنجح في الدخول إلى الأرض المحتلة وتقوم ببعض العمليات البسيطة نسبياً ضد الصهاينة، لكنها، على بساطتها، كانت تنعشنا كثيراً وتشعرنا بأننا نفعل شيئاً ضد العدو الذي اغتصب أرضنا، لكنْ بعد مضيّ بضعة أشهر أصبحت هذه العمليات أصعب وأكثر وتعقيداً، فلم تعد عمليات التسلل إلى المناطق المحتلة عام 1948 سهلة كما كانت في بداية التجربة، وذلك بسبب تشديد الحراسة التي كان يقوم بها الجيش الأردني على تلك المناطق الحدودية. وعند نجاح شخص ما أو مجموعة ما في التسلل إلى داخل مناطق الكيان الصهيوني ونجاحها في توجيه ضربة، كانت عملية العودة إلى الضفة الغربية أصعب كثيراً مما كانت عليه سابقاً. وهو ما جعلنا نعتقد بأن هناك تنسيقاً بين دولة العدو وقيادة الجيش الأردني، ممثلة بغلوب باشا، بحيث يخبر العدو قيادة الجيش بحدوث عملية ما في منطقة محددة فيتخذ الجيش الأردني الإجراءات المشددة لإلقاء القبض على الفدائيين في طريق عودتهم إلى الأردن .

مع إبنته ميساء

ويوماً بعد يوم ازدادت هذه العمليات تعقيداً، وهو ما عمّق إيماننا بأن تحرير فلسطين لا بد من أن تسبقه عمليات تحررية ووحدوية في الوطن العربي. كنا نكتشف بعد فترة أن البعض ممن يبدون استعدادهم للانخراط في مثل هذا العمل كانت لديهم دوافع نفعية ومادية. وإذ لم نكن نمتلك في تلك الفترة آلاف الدنانير، ولا حتى مئاتها، كانت عشرات الدنانير، بل أقل منها، تغري البعض للعمل لمصلحة نفعية. المهم أن عدم نجاحنا في مثل هذه التجربة بسبب سياسة الأردن الرسمية، وبخاصة قائد الجيش غلوب باشا في ذلك الوقت، جعلنا نركز عملنا على النشاط التنظيمي والجماهيري والسياسي الذي كنا نقوم به بنجاح كبير في عامي 1952 و1953 وبداية عام 1954 في الأردن.
لقد رأيت أن لمصلحة وجودنا وانتشارنا بين أوساط الجماهير ولمصلحة عملنا التنظيمي، كان علينا ألا نبقى أنا ووديع في عمّان معاً؛ فخطرت في بالنا فكرة هي أن يعمل وديع في عيادات الأونروا (وكالة الغوث)، حيث اكتظاظ الجماهير وهمومهم ومشاكلهم. وكنا نفضل ألا يكون عمل وديع في الأونروا في عمان لأني موجود فيها. فسعينا ليعمل في عياداتها في الضفة الغربية وعلى وجه التحديد في مخيمات أريحا. كنت أزوره أحياناً وكان يأتي هو إلى عمان كل أسبوع تقريباً لكي ننسق العمل معاً. أخذ عملنا التنظيمي يمتد ويتسع؛ فإضافة إلى وجودنا في عمان، أصبح لدينا امتداد تنظيمي في إربد وقرى الشمال، وكذلك في نابلس وقضائها، وفي طولكرم. وفي الواقع لم أعد أذكر المناطق كافة التي استطعنا الامتداد إليها في ذلك العام، أي عام 1953.
لقد رتبنا أيضاً، إضافة إلى صدور مجلة الرأي، وصول نشرة الثأر (التي كانت لا تزال تصدر في بيروت إلى ذلك الحين والتي كانت تتناول الموضوع الفلسطيني تحديداً والكيان الصهيوني وتستهدف تحريض الجماهير العربية على ضرورة مقاومة الكيان الصهيوني واقتلاعه، تلك النشرة التي أدت دوراً في الحماسة والتعبئة والتنظيم، وكنت أشعر بعد توقفها عن الصدور في عام 1958 كم كان يتشوق قراؤها إلى إعادة صدورها. في هذه النشرة، كنا نتبنى شعار الوحدة طريقاً لتحرير فلسطين (كان هذا الشعار أبرز من شعار الكفاح المسلح)، وكانت الثأر تتناول كل قضايا الأمة العربية التحررية، وبخاصة قضايا المغرب وثورة الجزائر. لا أزال أذكر تلك الزوايا في النشرة التي تهدف إلى تعريف القارئ بفلسطين، قراها، ومدنها، وتراثها العربي، وبالمعارك البطولية التي خاضها العرب في تاريخهم. في تلك الأيام، كنا نشدد على أن كلَّ يهوديٍّ إنما هو صهيوني، وأن التمييز بين اليهودية والصهيونية خرافة، وأن معركتنا موجهة ضد كل يهود العالم. وكانت لدينا بعض الأرقام والدراسات التي نحاول من خلالها إثبات هذا المفهوم الذي بقي من صلب مفاهيمنا حتى عام 1959، حين طرأ تغيير وتعديل على هذا المفهوم، إذ إنه ليس بالضرورة أن يكون كل يهودي صهيونياً وإن كان أغلبية اليهود يلتفون حول الصهيونية ويؤمنون بها ويساندونها. إن الدور الذي أدته مجلة الثأر هو الذي استوجب مني الحديث عنها ببعض الإسهاب.
رغم انغماسي مع الدكتور وديع في التأسيس لعملنا في ساحة الأردن، إلا أني كنت أصرف قسطاً من الوقت في الاهتمام والاطلاع على سير عملنا في الأقاليم العربية الأخرى، ولا سيما في لبنان، حيث كان يقود التجربة صالح شبل، وفي سوريا هاني الهندي، وفي الكويت الدكتور أحمد الخطيب، ولم أعد أذكر بالضبط التاريخ الذي انتقل فيه صالح شبل إلى بغداد (ليبدأ تجربتنا في العراق) بعدما تسلم مسؤولية لبنان الأخ عدنان فرج، رحمه الله.
عقدنا بضعة اجتماعات دورية في عمان للإشراف على فروع عملنا في البلدان العربية، وقد اغتنمت الفرصة في أحد هذه اللقاءات لأذهب مع الدكتور أحمد الخطيب إلى الضفة الغربية، حيث زرنا مدينة القدس، كما زرت أهلي وأقاربي هناك، إذ كان عمي عيسى يسكن ويعمل في مدينة القدس في التجارة، وهو والد هيلدا، التي أصبحت في ما بعد زوجتي وشريكتي في ذلك الدرب الطويل من النضال والتضحيات.
كانت تلك اللقاءات تتناول دوماً ما كنا نسميه البعد النظري والفكري. وكنا دائماً نطرح على أنفسنا أسئلة من نوع: ما هي فلسفتنا، وما هي نظريتنا؟ وهل نرفع الاشتراكية كشعار أم أن هذا الشعار يُرفع بعد مرحلة التحرر الوطني؟ ثمة مجموعة كبيرة من الأسئلة من هذا النوع. وكنا نحدد لأنفسنا برامج مطالعة ننجزها بين وقت وآخر. كما كنا أحياناً في هذه اللقاءات نستعرض كتاباً معيناً ونناقشه. كنا نحث أنفسنا على مطالعة تراثنا وتاريخنا والإلمام بتجارب العالم التحررية والوحدوية. ونظراً إلى أن ألمانيا وإيطاليا كانتا مجزأتين ومقسمتين إلى دويلات، ثم قامت الوحدة في كل منهما، كنا نرى أن دراسة هاتين التجربتين هي موضوع أساسي من الضروري الإلمام به. وعلى هذا الصعيد، كان يتضح لي كفاءة صالح شبل وهاني الهندي ورغبتهما في تناول هذه الموضوعات النظرية وشعورهما بأهميتها. في المقابل، كان رفاق آخرون يميلون إلى الاهتمام بالجانب العملي الكفاحي والنضالي. في هذه اللقاءات، كنا نستعرض كيفية سير تجربتنا التنظيمية في لبنان وسوريا والكويت، كما نُطلع بقية الإخوة على سير تجربتنا في الأردن. من الجدير بالذكر أن الرفاق الذين كانوا يقودون العمل في المخيمات آنذاك كانوا حمدي مطر وعلي سرحان وأبو علي مصطفى الزبري (مصطفى علي الزبري) وأحمد محمود إبراهيم (أبو عيسى).
كانت تجربتنا في الأردن فريدة في نوعها، تبدو غريبة بالنسبة إلى بقية الإخوة المسؤولين عن الفروع الأخرى للتنظيم. ففي الفروع الأخرى، كان معظم عملنا التنظيمي في القطاع الطلابي، إضافة إلى المخيمات الفلسطينية. لقد كان مستوى المتطلبات من العضو عالياً جداً، أي كان يتطلب مستوى عالياً من الانضباط. فكنا نستعمل تعبير «تنظيم حديدي»، إذ كان تنظيماً نخبوياً بطبيعة الحال. أما في الأردن، فقد توسعنا بسرعة وانضمت إلينا مجموعة من المثقفين والموظفين الكبار كانت مستعدة للعمل وتريد أن تؤسس تنظيماً سياسياً تقوده بنفسها؛ وكان الإخوة الذين يأتون من سوريا ولبنان والكويت يشككون في نجاح مثل هذه التجربة وقدرتنا على السيطرة عليها، أو الارتقاء بها إلى مستوى البناء الحزبي الذي اتفقنا عليه حين كنا معاً في بيروت. بينما كنت أنا ووديع نراهن على هذه التجربة ونرى أهميتها وضرورتها في ذلك الوقت. كنا مشدودين إلى ما تفرزه هذه التجربة من امتداد وإمكانيات وفعل وطني بالمعنى العام.
مع ابو جهاد

أصبحت المشكلة أن النواة المؤسسة التي عملت معاً في بيروت، قبل أن تتوزع في البلدان العربية، تعتبر نفسها هي التي تشكل القيادة المؤسسة لهذا العمل، بما فيها قيادة تجربة الأردن. وهذا بطبيعة الحال كان رأيي ورأي الدكتور وديع. أما المجموعة التي عملنا معها في الأردن من المثقفين والموظفين، فكانت تنظر إلى نفسها على أنها هي الأساس وأن العمل القومي العربي القائم في لبنان وسوريا والكويت يمكن أن ينضم إليها في المستقبل، كوننا أنا ووديع وهم الأساس لهذا العمل والتنظيم في الأردن وأن العمل القومي في المناطق الأخرى تابع لتجربة الأردن. كان هذا الوضع يسبب نوعاً من الإحراج لي ولوديع، بوجه خاص، ولكننا كنا قادرين على تجاوزه وضبطه.
لم يدم طويلاً شهر عسل الحريات الليبرالية التي عاشتها ساحة الأردن، على مستوى مجلة الرأي على الأقل، فلم تعد السلطات قادرة على تحمل موضوعات ومقالات وتحريضات المجلة، فبدأت الدولة بإجراءات من نوع إيقاف عدد من الأعداد، أو إيقاف المجلة لمدة شهر، ومحاكمات ترفعها الدولة على المجلة، وقضايا نرفعها نحن ضد الدولة، إلى أن صدر قرار بمنع الرأي من الصدور. كان السبب المباشر لإغلاق المجلة يومها مانشيت تقول «فليعد الجيش إلى ثكناته».
كان هناك إصرار على استمرار صدور الرأي نظراً إلى الدور الذي بدأت تؤديه في التعبئة الجماهيرية باتجاه أفكارنا وخطنا السياسي. وكان تأثير المجلة في الساحة الأردنية كبيراً، بل أكبر مما كنا نتوقع، لذلك حرصنا على استمرار صدورها. وحين تم إغلاقها من جانب السلطات الأردنية، كان لا بد من البحث عن سبل أخرى لاستمرارها، فكانت الساحة السورية مهيأة لذلك. فبعد إطاحة نظام الشيشكلي في شباط/ فبراير 1954 وعودة هاشم الأتاسي إلى الحكم، توافر جو ليبرالي أفسح مجالاً لعمل الأحزاب. وكانت أحزاب سوريا الرئيسية في تلك الفترة هي الحزب الوطني بقيادة صبري العسلي، وحزب الشعب بقيادة رشدي الكيخيا وناظم القدسي، كذلك حزب البعث والحزب الشيوعي. كان النهج السياسي العام للدولة في تلك الفترة، بحكم وجود العسكريين الوطنيين يحمل بذور المعاداة لمشاريع الأحلاف التي كانت تشكل العنوان الرئيسي في تلك المرحلة. فقد كان مطروحاً في ذلك الوقت مشروع حلف بغداد الذي كانت تسعى بريطانيا من خلاله إلى ضم أكبر عدد ممكن من الدول العربية وغير العربية إليه بهدف منع النفوذ السوفياتي من الامتداد.
انتقلت عام 1954 إلى سوريا بعدما رتبت مع الرفاق، ولا سيما الدكتور وديع، كيفية استمرار عملنا في الأردن والشؤون الأخرى كافة، وبذلك استمر إصدار المجلة من سوريا باسم الرأي؛ ولا أزال أذكر كيفية إرسالها إلى الأردن عن طريق التهريب.

* الحلقة السابقة:

«الأخبار» تنشر فصولاً من مذكّرات حكيم الثورة [2/4]